قصة سوريّة لم تذكرها الأخبار
أحمد عمر
كان يرتب مطيبات أقراص العيد، سمسم وقرفة وجوزة الطيب وحلبة، عندما انتبه إليها فوق رأسه، سيدة حسناء يتصدع من حسنها الجبل، كان معها طفلها، ظنّها سيدة ألمانية مع أنه سبق لها أن جاءت مع زوجها، لمَ لم يسمع جرس الباب الآذن؟ هل تسللت من الباب كالنسيم أم تسربت منه كالطيب، وكان قد وضع للباب جرسا من الأعلى مثل أصحاب المحلات للإعلام بدخول الزبون، خفّض صوت المنشاوي خجلا من جلال الرحمن، أخبرها أنَّ بركنة السيارات أمام المحل ممنوعة، وأنّ الشرطة الألمانية بمرصاد الغرامة، فقالت إنها لن تتأخر، وسمع الكلمات تسقط من ثغرها النضيد مثل ندف الثلج، سألته إن كان يستطيع مساعدتها في إخراج فطرة رمضان والتصدق بها في سوريا، فقال إنه يستطيع أن يوزعها خلال ساعة فله مال مع أخ له في الشام، أخرجت مائة يورو، فندف الثلج: تفضل .
سألها عن عدد الأشخاص المخصوصين بالفطرة، فقالت: عني وعن طفلي، سألها عن زوجها، فقالت بتشفٍ وانتصار: خلعته، وكزت على أسنانها فلمع الثلج أبيض وزقزق عصفور، تعجب من زوجها كيف يطلق حسناء مثلها، هذه امرأة لا تفوّت، قال في نفسه الطلاق يكثر في الغربة، لو كانت هذه المرأة عنده، لأمسك بها بيديه وأسنانه وغلّها بالأغلال الذهبية.
سألته عن الجبنة المسنّرة، فقال ستأتيه غدا دفعة ويدّخر لها علبة، والعلب نوعان علبة ثلاثة كيلو وعلبة خمسة، مدحت الجبنة التي يبيع، وقالت إنها طيبة وتزقزق تحت الأسنان قال: الجبنة التي ستأتي أطيب وهي تغرّد مثل الشحرور على الأفنان، ابتسمت ابتسامة إعجاب فأشرقت الأنوار في المحل، سألها إن كانت تعرف معنى مسنّرة، فرفعت رأسها وقالت: إنها لم تسأل نفسها، قال: حسب موسوعة حلب المقارنة معنى مسنّرة جاء من سنارة السمك، والتسنير هو تمييع الجبن طبخا حتى يتحوّل أقراصا، فالسيدات الشاميات كن يغلين الجبنة ويتصدين أقراص الجبنة من المياه المغلية، قالت: أنت مثقف.
سألته عن دراسته الجامعية؟
قال: حقوق. سألها عن طليقها. قالت: حيوان. حيوان حقيقي.
مسح على رأس الطفل وأعطاه لوحين من الحلوى من رفٍّ قريب فشكرته على كرمه: قال: إن زوجها السابق رجل محترم ومؤدب، فقالت: إنَّ الناس متنكرة بثيابها، وسألته عن عسل طبيعي، فقال: لدي عسل أسباني سعر الكيلو عشرين يورو، وعسل ألماني بأثني عشر يوور وعسل سوري بشهده.
قالت مندهشة: عسل سوري بشهده! أما يزال في سوريا عسل؟
رفع رأسه إليها وابتسم وطغى الهول فارتسم.
دفعت له ثمنه العلبة الذهبية، كان عليها صور زهور ونحل، أمسكت بيد طفلها، ذكّرته بالجبنة، وضع يده على رأسه علامة على الإيجاب والقبول، قال لها مودعا إنه سيصوّر أخاه وهو يتصدق بصدقة الفطر ويريها الصورة بالفيديو عند زيارتها الثانية حتى تطيب نفسا، فابتسمت من غير ردٍّ وانصرفت، سيسألها عن مظاهر حيوانية زوجها في الزيارة التالية، عند الخروج بلبل جرس الباب، خرج من وراء الطاولة يشيعها بنظره من وراء البلور، ويتذكر قول الحسن البصري وهو يشيّع الحسناء التي انصرفت يدفع بعضها بعضا وكانت جاءت تستفتيه في زوجها الذي تزوج عليها:
"ما ضرَّ امرءاً كانت هذه عنده، ما فاته من دنياه شيء".
قصدت سيارتها وفتحت الباب وأجلست ابنها وحزّمته حسب قوانين المرور الألمانية. استدارت وركبت، وقف ينظر إلى موكبها الذي تحفّ به وعول وأيائل، تنهد نهدة طويلة كزج الرمح، وأحسّ بالغرق، هذه امرأة نشأت في الحلية، إن نساء الشام خير نساء ركبن أعجاز الإبل وسيارات أوبل..
ربتت يدٌ ناعمة على كتفه فاستدار فوجد زوجته وهي تشهر سكينا وتنظر إليه بحنق شديد وقد ضبطته بالجرم المشهود، وقالت: أخذت عقلك!
قال: سيارتها أخذت عقلي، سيارة رائعة. السيارة أوبل موديل 2022.
قالت والسكين بيدها وكانت تناولتها من رفٍّ قريب عُرضت عليه سكاكين وأدوات مطبخ للبيع: السيارة أم صاحبة السيارة؟ّ
جلس فأحسَّ بألم في ظهره، كانت زوجته واقفة، والدم يقطر من سكينها، لمس ظهره فوجد يده حمراء، وتعجب من إنه لم ينتبه، ثم سقط على الأرض مجندلا، وأسقط معه قارورة من العسل، فتكسرت وتناثرت شظايا الزجاج في بركة العسل والدم.
حوّمت نحلة فوق العسل المسكوب، ورنّ جرس الباب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق