الجمعة، 26 أغسطس 2022

داء التبعية والمأزق العربي

داء التبعية والمأزق العربي


محمد الشبراوي حسن

لا أعتقد أن اثنين يختلفان في أن المنطقة العربية ما زالت ترزح تحت وطأة التبعية للقوى الكبرى منذ انتهاء حقبة الاستعمار المباشر.

منذ القرن العشرين، وحتى وقتنا الراهن، والمنطقة العربية تعيش مأزقا وجوديا؛ نتيجة تمكن داء التبعية المزمن من أغلب نظم الحكم في المنطقة.

الارتباط بالقوى الخارجية

لقد كان من تداعيات تبعية نظم الحكم في المنطقة وارتباطها بشكل كبير بالقوى الخارجية، أن تأثرت أشكال نظام الحكم وأساليب الإدارة.

ومع وجود القوى الخارجية في المنطقة، سواء عن طريق القواعد أو الخبراء؛ أصبح لها نفوذ سياسي غير محدود، وأصبحت تتحكم في مفاصل القرار السياسي وتشكيله؛ مما جعل السلطة في كثير من دول المنطقة في مواجهة مع إرادة الشعوب.

يضاف إلى ذلك، أنه حتى مع تغير الأوضاع على الساحة الدولية، بما تحمله من سلبيات وإيجابيات، كانت النظم السياسية العربية غير قادرة على التعامل مع تأثيرات المتغيرات الدولية، ولم تنجح في استثمار الفرص المتاحة، أو تَجَنُّب الآثار السلبية، وبدا واضحا حجم الاختراق الكبير من قوى إقليمية ودولية، فضلا عن غياب الرؤية الاستراتيجية للتعامل مع القوى الدولية، والاستغراق في الانقسامات، والدخول في صراعات ليست فيما بينها فحسب، بل مع دول مجاورة أيضا.

البحث عن الراعي والحماية

لا يختلف اثنان في أنه لا يمكن أن يستقر نظام حكم في دول المنطقة لا ترضى عنه الولايات المتحدة الأمريكية والغرب.

وفيما يشبه عملية البحث عن الراعي وطلب الحماية، فقد شهدت المنطقة العربية تنافسا بين دولها لإرضاء القوى الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وقد كان ذلك حاكما للصراع بين هذه الدول، وضابطا لسلوكها في سياساتها الخارجية، ومثل نقطة ضعفٍ كبيرة.

وقد وضعت الولايات المتحدة الأمريكية “وريثة الاستعمار القديم” شرطا جوهريا للرضا عن النظم السياسية في المنطقة، هو: “ضمان أمن إسرائيل في فلسطين المحتلة، حتى أصبحت هناك قاعدة حاكمة، هي: أن الوصول إلى رضا القلب الأمريكي لابد أن يمر عبر شرايين إسرائيل”.

التبعية والهرولة للتطبيع مع إسرائيل

لقد نجحت الولايات المتحدة ومعها الغرب في تفجير الوحدة العربية، وترسيخ تبعية النظم في المنطقة للخارج، ولم يكن نجاح السياسة الأمريكية الاستعمارية الصهيونية في بعض أجزاء منطقة الشرق الأوسط؛ إلا نتيجة ضعف الإرادة الذاتية في المنطقة، ووجود الاحتلال الصهيوني على أرض فلسطين.

ويتفق الباحثون في شؤون المنطقة على أن هناك معادلة أطرافها: أمريكا والاحتلال الإسرائيلي والنظم السياسية في المنطقة، وتنطلق هذه المعادلة من إدراك الاحتلال الإسرائيلي أن بقاءه واستمراريته مرتبطان ببقاء النظام السياسي في المنطقة العربية على وضعيته، في حين أن الشعوب ثابتة على عداوتها. وبناء على هذه المعادلة فإن إسرائيل تمثل محطة الدعم والتأهيل للقبول لدى البيت الأبيض الأمريكي والغرب، وهي تواصل تكريس وجودها ضمن دول المنطقة، والقضاء على فكرة العداء التاريخي والصراع العربي الإسرائيلي، وتفرض نفسها شرطيا وزعيما للمنطقة، مع تحويل الصراع نحو عدو جديد.

استفحال التبعية

والناظر في هرولة كثير من دول المنطقة نحو التطبيع مع إسرائيل، يدرك أنها استمرار واستفحال لداء التبعية المزمن، خاصة مع تحول تركيز الاهتمام الأمريكي عن المنطقة نحو آسيا ومنطقة المحيط الهادي.

لقد نجحت الاستراتيجية الأمريكية في جعل إسرائيل رأس الحربة للوجود الأمريكي، الذي يمتد من المحيط الهادي حتى داخل الخليج العربي من ناحية، ومدخل البحر الأحمر من ناحية أخرى.

وقد تُوج المخطط الأمريكي الفاعل منذ عام 1982 بتولي إسرائيل مركز قيادة المنطقة. ولم تكن الهرولة نحو التطبيع بالنسبة لبعض الدول إلا مسارعةً إلى الانضواء تحت مظلة القيادة الإسرائيلية وحمايتها، وضمن عملية البحث الدائم عن الراعي والحماية.

كما أكد ذلك أيضا نجاح الولايات المتحدة الأمريكية في استثمار الصراعات الإقليمية، انطلاقا من مبدأ توظيف العداوات بين دول الإقليم؛ لدفع الدول العربية نحو التطبيع، وذلك في إطار الاستراتيجية الأمريكية التي ترى إمكانية توظيف الصراعات بين دول المنطقة لصالح السياسية الأمريكية؛ مما يصب في اتجاه إيجاد تحالف محلي لصالح التحركات الأمريكية.

 في التبعية سواء.. السلطة والمعارضة

مأزق عربي، هو نتيجة لداء التبعية المزمن للنظام السياسي العربي، فالسلطة ليست وحدها من تعاني التبعية، بل المعارضة أيضا. فمن عجائب ومفارقات المشهد السياسي في المنطقة، توجه المعارضة -إن وجدت- نحو الخارج (الغرب وأمريكا تحديدا)؛ وقد أدى ذلك إلى معادلة صعبة، نتائجها الحتمية تتعلق مباشرة باستقلال الدول ومصالح شعوبها.

ففي دول المنطقة التي توجد بها معارضة، يعول الجميع -السلطة والمعارضة- على الخارج؛ فالسلطة عيونها معلقة نحو الخارج، خاصة مع اتساع الهوة بينها وبين الظهير الشعبي، وكذلك المعارضة؛ نتيجة ضعفها في التعامل مع السلطة، وعدم قدرتها على الحراك، فضلا عن كونها غير مؤهلة للحكم.

التبعية والاستعمار الجديد

لقد نجحت أمريكا في تطبيق سياسة الاستعمار الجديد في المنطقة، التي يهدف إلى تحقيق السيطرة الكاملة عالميا، وما يستلزمه ذلك من خلق التبعية، وفرض الهيمنة المعنوية على شعوب المنطقة، وهذا ربما يفسر لنا تمكن التبعية من النخب، سواء الحاكمة أو المعارضة.
إن التوجه الدائم نحو الخارج والاعتماد عليه، الذي يمثل قاسما مشتركا بين طرفي المشهد السياسي العربي السلطة والمعارضة، والمتغلغل أيضا في بعض الفئات من الشعوب؛ هو في حقيقة الأمر نتاج الاستعمار الجديد، الذي خلق حالة من التبعية والهيمنة المعنوية (الاستعمار المعنوي)، تعاني منهما المنطقة، ولا سيما النخبة السياسية، حكاما و معارضين، فالجميع لديه اقتناع بضرورة طلب الدعم من الخارج، وخاصة أمريكا، التي يرون أن لديها مفاتيح الحلول في المنطقة.

التبعية وسحق الإرادة الذاتية

من المفارقات في منطقتنا، أنه كلما ضغطت المعارضة على السلطة، ازداد توجه السلطة وارتباطها بالخارج. فهناك حالة غاب فيها عن المعارضة والسلطة فهم المنطق الذي تتعامل به القوى الكبرى مع المنطقة، الذي ينطلق من مخطط استعماري خبيث، اعتمد على سحق الإرادة الذاتية لدول المنطقة ومنعها من التماسك، سواء على المستوى الداخلي للدول، أو على مستوى علاقات الدول فيما بينها.

إن المخطط الاستعماري تجاه المنطقة يسعى دوما في إطار تكريس التبعية إلى خلق الفرقة بين القيادات والشعوب، وخلق العزلة وفرضها على العلاقات بين دول المنطقة. ولعل واقع المنطقة العربية يعكس هذه الحالة بوضوح، خاصة في ظل صعود الاحتلال الصهيوني.

ختاما

ورغم كثير من الفرص التي أنتجتها المتغيرات العالمية، على مدار سنين، منذ منتصف القرن العشرين، وحتى وقتنا الراهن، فإنه مع الأسف لم ينجح النظام السياسي العربي في قيادة المنطقة نحو تنمية مستدامة حقيقية، وعجزت المنطقة عن حجز مكان لها في الركب العالمي، في ظل أوضاع دولية تسير نحو التبديل والتغيير.

يبدو واضحا أن داء التبعية تمكن من أدق مفاصل النظام السياسي العربي؛ مما حال بين النظم واقتناص الفرص الإيجابية السانحة، وتجنب الآثار السلبية للمتغيرات الدولية؛ مما عمق المأزق العربي.

ورغم هذا المأزق الوجودي، فإن الأمل في استفاقة الوعي العربي لم ينقطع. ومازال للحديث شجون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق