الرزق في كتاب الله تعالى (1)
د. عطية عدلان مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول
إنَّه لموضوع على جانب من الوجاهة كبير، وعلى قدر من الأهمية خطير، وإننا لفي أمسّ الحاجة إليه، على المستويين الفرديّ والجماعيّ، فهل نستطيع من خلال استقراء الآيات القرآنية المعنية بهذا الشأن أن نخرج بصورة كاملة واضحة؟ بالقطع: أجل؛ فهذا الكتاب إنما نزل للإنسان؛ فكل ما يتعلق بهذا الإنسان وبدوره في هذه الحياة ستجده في كتاب الله وافياً، إمَّا على سبيل الإجمال أو على سبيل التفصيل، وهذا جزء من معنى قوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام 38).
فلنبدأ بتقرير الحقيقة الكونية الشرعية الهائلة، الحقيقة التي لا يرتاب فيها مؤمن ولا يشكك فيها مسلم ولا يغفل عنها موحد، الحقيقة التي ينساها الناس في زحمة الصراع على المكاسب والأرباح، الحقيقة التي يحاول زحزحتها وحلحلتها دعاة المادية بكل أصنافهم وكافة أشكالهم، الحقيقة التي آمن بها الحنفاء وكفر بها الشركاء والحلفاء، ألا وهي حقيقة: هيمنة الخالق تبارك وتعالى على مسألة الرزق من المبدأ للمنتهى، وقبضه عليها من لمّة رأسها إلى طرف ذيلها، وإنَّها لحقيقة – برغم استقرارها – عرضة للعواصف العاتية، على مستوى الاعتقاد وعلى مستوى العمل أيضاً، ولاسيما مع اشتداد الصراع على العيش وهيمنة الرأسمالية الطاغية.
فها هو القرآن يقرر الحقيقة الكبرى بحسم وجزم: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (هود 6)، هذا بحق كل دابة خلقها الله، ضعفت وقَلَّتْ أم عظمت وجَلَّتْ، أمَّا بالنسبة للإنسان فهو من بين كل ما دبّ على هذه الأرض يحظى بهذه العناية الخاصة، فيمزج رزقه بنكهة التكريم والتفضيل: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الإسراء 70)؛ ذلك لأنَّ الله تعالى خلق الإنسان لعبادته؛ وتكفل له برزقه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)) (الذاريات 57-58)، وحتى لا يشغله ما كفله الله له عمَّا استعمله فيه كان تدبير رزقه الذي يخرج له من الأرض ليس في الأرض وإنما في السماء: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) (الذاريات 22)، وهذه الهيمنة – هيمنة الرزق والإنعام – ليست محصورة فيما يدب على هذا الكوكب، وإنَّما في الواقع: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرحمن 29) أي: “يسأله من في السماوات والأرض من مَلَكٍ وإنس وجنِّ الرِّزقَ والمغفرة وما يحتاجون إليه، كلَّ يوم هو في شأن من إظهار أفعاله وإحداث ما يريد من إحياءٍ وإماتةٍ وخفضٍ ورفعٍ وقبضٍ وبسطٍ” الوجيز للواحدي (ص: 1054).
ولا يقف القرآن الكريم في تبيانه لهذه الحقيقة الجليلة عند حدّ التقرير المجرد، وإن كان بذاته كافياً؛ حتى يفصل في الأمر تفصيلاً يحَوِّل كل ما حولنا مما سخره الله لنا إلى شواهد ناطقة بكرمه ورحمته، وهيمنة عطائه وسلطان نعمائه، فتأمل: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة 22) (فلينظر الإنسان إلى طعامه (24) أنا صببنا الماء صبا (25) ثم شققنا الأرض شقا (26) فأنبتنا فيها حبا (27) وعنبا وقضبا (28) وزيتونا ونخلا (29) وحدائق غلبا (30) وفاكهة وأبا (31) متاعا لكم ولأنعامكم (32)) (عبس 24-32) (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون (71) وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون (72) ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون (73)) (يس 71-73) (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)) (يس 33-35) (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الجاثية 12) (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ) (النحل 66) (فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) (المؤمنون 19) (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل 14)، وأمثال ذلك في القرآن كثير؛ فهل بعد ذلك يقال بنظرية الندرة؟! كيف وكل ما حولنا مسخر بأمر القادر لنا؟! كيف وقد اودع الله في هذه الأرض كل مقدرات العباد من اول لحظة شهدت خروجها من العدم على الوجود: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) (فصلت 10)، ألا إنَّه لا يقال بهذا إلا في سياق الحرب على الله والاستعباد لخلق الله.
ولأنَّها حقيقة لا تنكر إلا بنكران العقل ذاته وجدنا القرآن يتخذها معتمداً لدعوة التوحيد: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) (يونس 31) (أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (النمل 64)، هذا مع من بقي لديه مسكة عقل يقيس به الأمور، أمَّا من فقد عقله فنقول له: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (سبأ 24)، ومن غلبه هواه على عقله قلنا له: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) (غافر 13).
والرزق من الله لعباده يعكس صفة الرحمة التي تثمر عناية ورعاية للخلق، وتأمل هذه الآيات لتذكرك بمصدر الرزق وهو صفة الرحمة: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الروم 50)، (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا) (الإسراء 28)، (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) أي: “انتظار الرِّزق من الله تعالى يأتيك” الوجيز للواحدي (ص: 633)، (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا) (الإسراء 100)، و (خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) أي: “خزائن الرِّزق” الوجيز للواحدي (ص: 649).
كما تعكس صفة الهيمنة، فالله تعالى هو الملك المهيمن السيد الكبير المتعال الفعال لما يريد؛ يقبط الرزق ويبسطه كما يشاء بلا معقب عليه ولا سائل له، فتأمل هذه الآيات لتشعر بوقع الحقيقة: (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) (الإسراء 30) (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) (القصص 82) (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) (الرعد 26) (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الروم 37) (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الزمر 52) (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (العنكبوت 62) (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الشورى 12) (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (سبأ 36)، فالله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء: “يبسط الرزق: يُوسِّعه … ويقدر: يضيِّق” الوجيز للواحدي (ص: 571)، ولأنَّه المهيمن فوق عباده فهو يرزق من يشاء بغير حساب: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (البقرة 212) (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (النور 38) (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) (الشورى 19) (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (فاطر 2) أي: (ما يفتح الله للناس من رحمة) رزقٍ ومطرٍ فلا يقدر أحدٌ أن يمسكه والذي يمسك لا يرسله أحد” الوجيز للواحدي (ص: 889)، ومن ذا يرزق غيره: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) (الملك 21).
وهناك لهذه الحقيقة الراسية وجه غاية في الجمال والروعة، يبشر المؤمنين بكل خير في عاجل أمرهم وآجله، وهو أنَّ هذا الرزق الذي عمَّ الله به الخلق مؤمنهم وكافرهم هو في أصله مسوق للمؤمنين، لكن يشاركهم فيه الكافرون رحمة من الله تعالى وابتلاء، أمَّا في الآخرة فهو للمؤمنين خالصاً، قال الله تبارك وتعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف 32)، أَيْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ لِمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَعَبَدَهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَإِنْ شَرَكَهُمْ فِيهَا الكفار حبا فِي الدُّنْيَا فَهِيَ لَهُمْ خَاصَّةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ولا يَشْرَكُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ” تفسير ابن كثير ط العلمية (3/ 367)، فهذه الأرزاق إنما هي للمؤمنين “بالأصالة والكفرةُ وإن شاركوهم فيها فبِالتَّبع” تفسير أبي السعود – إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 224)، فلم يكن إبراهيم ضنيناً ولا مضيقاً لواسع، وإنَّما انطلق في دعائه من شطر الحقيقة الأول وهو الأصل؛ ليذكره القرآن بشطرها الثاني وهو التبع: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (البقرة 126).
ثم إنَّ للحقيقة العظيمة هذه تبعات ومسئوليات، تؤكد رسوخ الحقيقة وتدعم ثباتها، فمقتضى فضل الله ورزقه لعباده أن يعبدوه ولا يعبدوا غيره وأن يشكروه ولا يشكروا سواه وألا يتبعوا خطوات الشيطان في تحليل الحرام أو تحريم الحلال؛ إذ لا سلطان على العباد إلا من خالقهم ورازقهم: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ) (النحل 73) (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) (النحل 72) (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) (يونس 59) (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة 172) (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (المائدة 88) (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (الأنعام 142) (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) “بتحريم ما لم يحرمه الله عليكم ولا بغير ذلك من إغوائه، فهو سبحانه هو المنشئ والمالك لها حقيقة، وقد أباحها لكم وهو ربكم، فأنى لغيره أن يحرم عليكم ما ليس له خلقا وإنشاء ولا ملكا، ولا هو برب لكم فيتعبدكم به تعبد” تفسير المنار (8/ 123) (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) (طه 81) و”طغيانهم في النعمة: أن يتعدوا حدود الله فيها بأن يكفروها ويشغلهم اللهو والتنعم عن القيام بشكرها، وأن ينفقوها في المعاصي: وأن يزووا حقوق الفقراء فيها، وأن يسرفوا في إنفاقها، وأن يبطروا فيها ويأشروا ويتكبروا” تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (3/ 79). (يتبع)..
د. عطية عدلان مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول
إنَّه لموضوع على جانب من الوجاهة كبير، وعلى قدر من الأهمية خطير، وإننا لفي أمسّ الحاجة إليه، على المستويين الفرديّ والجماعيّ، فهل نستطيع من خلال استقراء الآيات القرآنية المعنية بهذا الشأن أن نخرج بصورة كاملة واضحة؟ بالقطع: أجل؛ فهذا الكتاب إنما نزل للإنسان؛ فكل ما يتعلق بهذا الإنسان وبدوره في هذه الحياة ستجده في كتاب الله وافياً، إمَّا على سبيل الإجمال أو على سبيل التفصيل، وهذا جزء من معنى قوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام 38).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق