يا راكبا في رحلة الحياة.. هل تستطيع صبرا؟
ياسين أقطاي
كم كان أبي صديقا مخلصا؟! أبي الذي طالما كانت نصيحته لي: “لا تتخذ أصدقاء ممّن هم أكثر منك جهلا وأسوأ، والزم مصاحبة من هم أفضل منك خُلقا وأكثر دراية وحكمة”. أبي الذي يبدو أنه يمتدحني حين يقول لي: “صديقي العزيز الذي أحبه كثيرا”. أبي الذي كانت كلماته تلك تصدر من تواضع جم، بإشاراته أنني أكثر منه علما وأفضل منه. أبي لا تقف دلالات كلامه عند هذا الحد بل تفيض بمزيد من التواضع عن استعداده الكامل للتعلم أكثر والمضي في طريق المعرفة.
لذا كنت سأقول له على كل حال: “اسمح لي أن أبدأ من تلك النقطة”. لكني -بالطبع- لم أكن متأكدا من مدى قدرته على فهم ما هو حتى الآن، لذلك تراجعت. لكن هذه كانت الفكرة التي دارت في ذهني في اللحظة الأولى التي أردت أن أقولها ولم أمتلك الشجاعة: “إذا كنت حقا أكثر دراية وأفضل منك، أي إذا كنت قادرا حقا على قياس ذلك يقينا، وإذا نصحني والدي نفسه بأن أفعل الشيء نفسه، فكيف نفهم هذا؟ وفي هذه الحالة ليس من المفترض أن أكون صديقا لك، أليس كذلك يا أبي؟”
إذا كان ما ينتظره المرء من صديقه مرتبطا دائما بحسابات المصلحة، فلا يمكننا تسمية تلك الرابطة الناتجة باسم الصداقة.
حماية الأبناء
إن الأب الذي يوصي ولده بهذا النوع من الصداقة القائمة على المصلحة، ربما لا يدرك أنه بذلك يشجع ابنه على الاستغلال والاستفادة دائما. فبينما يعتقد ذلك النوع من الآباء أنه يحمي ولده أو حتى يفيده من خلال توجيهه وتحصينه بقدر كبير من الأفكار الرياضية البحتة في النظرة إلى الآخرين، فإنه لا يدرك أنه -من خلال القيام بذلك- لم يفعل سوى غرس الأنانية النرجسية في الطفل.
لماذا لا يجتهد الآباء في تعليم أبنائهم العطاء والبذل بدلا عن غرس أفكار الأنانية؟ ألا يعلمون أنهم حين يوطنونهم على الإيثار فلن يضيع رزقهم وما كتب الله لهم من فائدة؟ ولعل أبسط إجابة وأسرعها ورودا على الذهن، أن هؤلاء الآباء لا يملكون مثل هذه الرؤية، وليسوا توّاقين للتعرف عليها من الأساس. إن أكثر مظاهر غريزة الأبوة شيوعا وتأثيرا في المجتمعات، هو تربية الآباء أبناءهم على فكرة تحصيل المنفعة من أكثر الطرق سهولة وبُعدا عن المخاطرة. لكن لو أنهم يدركون أن السعي وراء هذه السهولة المزعومة هو أكبر مخاطرة، فالخطر الأكبر يكمن في التوصية بالانجراف خلف حياة خالية من الخطر.
ماذا لو طرحنا على أنفسنا هذه التساؤلات المشروعة؟ ألا يمكننا النظر إلى الصداقة على أنها أمر يفوق كل الحسابات والمنافع، ويذهب بالمرء إلى حيث يكون مقبلا على العطاء بدلا من التفكير في ما سيأخذه مقابل وجوده طرفا في تلك الرابطة؟ أليست الصداقة أمرا غير مرتبط بالمصالح؟ ألا تتجاوز كل المصالح، وفيها يملأ على المرء فكرَهُ ما سيعطي بدلا من مقدار ما سيجني؟ ألا يمكن أن تصل الصداقة إلى مستوى يجد فيه الفرقاء أن الفائدة الحقيقية تكمن في إقامة هذه العلاقة والحفاظ عليها؟ أليست الصداقة شيئا نقدّم من خلاله كل ما نعتقد أننا نملكه؟ أَوَ ليست رابطة ممكنة إلى درجة تتجلى الفائدة فيها لمجرد إنشائها وتعهدها لتنمو وتزهر؟ ألا يمكن للصداقة أن تحيل كل شيء مغاير لها إلى مجرد تجارة مادية ومساومة في غير فائدة؟
حسنًا، لا يمكن إنكار النظريات الاجتماعية التي تعمد إلى ربط حياة الإنسان الاجتماعية بالتجارة وإجراء الصفقات. تلك النظريات التي ظهرت ردَّ فعل لمدرسة الوظيفيين الدوركايميين (أتباع إميل دوركايم -توفي عام 1917- أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث)، أي ردّا على مُنَظِّري التقسيم الاجتماعي للعمل، الذين يربطون وجودنا في المجتمع بمدى الالتزام تجاه المجتمع والسعي لسداد الديون والالتزامات لذلك المجتمع. ما المانع أن يفكر الناس في القيام بشيء ما فيه منفعة شخصية لأنفسهم، ليكونوا ذوي فائدة في العمل العام لمجتمعهم الذي يستفيدون منه استفادة كبيرة، فيتمكنوا من سداد التزاماتهم تجاه أُسَرهم ومجتمعهم وأمتهم ودولتهم من خلال وظائفهم الاجتماعية؟
ومن الجدير بالذكر أنه إذا كان الأمر على هذه الحال في النظرة الجماعية لالتزامات المجتمع، فإن الجميع سيتصرفون بوعي تام من منطلق تَعبُّدي يؤسس للتكافل في ما يتعلق بسداد ديون والتزامات الآخرين في المجتمع، وسيكون من السهل جدّا إدارة مثل هذا المجتمع، بل إننا بذلك سنصل إلى حد نقول معه: في الواقع، ليست هناك حاجة لإدارة المجتمع في مكان يتمتع فيه كل فرد بمثل هذا الوعي، بل سيتم تنظيم أمور المجتمع بطريقة ذاتية التحكم دون الحاجة إلى أي توجيه أو سيطرة. وهذا هو ما كان عليه تصور “دوركايم” للمنهج الوظيفي للمجتمع. ولكن ما دام أنه لا يمكن أن يتحقق هذا العالم من تلقاء نفسه، فإن ذلك المسعى سيكون مجرد تصور يفتح الأبواب على مصراعيها أمام تسلًّط الدولة واستبدادها، لتُحصِّل من تلقاء نفسها الالتزامات المفروضة على كل فرد من أفراد المجتمع. وقد كان هذا أحد الدوافع التي وجهت سياسة الجمهورية في تركيا لانتهاج نظرية “دوركايم” في علم الاجتماع، ليشارك المجتمع في إدارة الالتزامات العامة.
العثور على صديق
على الرغم من تكافل أفراد المجتمع واعتماد بعضهم على بعض ومساندة بعضهم بعضا، فإن إدراك هذا الالتزام العام يغيب عن أذهان كثير منهم، ومن ثَمَّ تسير العلاقات الاجتماعية من خلال إطار أناني يهتم فيه الناس بمصالحهم الفردية أو الجماعية الضيقة فقط. بالإضافة إلى أن فكرة تجاهل الديون والالتزامات العامة والنظر إلى العلاقة المجتمعية على أنها مجرد تبادل للمصلحة من قِبل الذين يهتمون بمنافعهم الخاصة، رغم أنها فكرة غير مرغوب فيها، إلا أنها أكثر شيوعا في أداء الأفراد لوظائفهم المجتمعية. فالمجتمع مشحون بشبكات معقدة من العلاقات تضم -رضينا أم أبينا- كُلَّ من لا يحبون بعضهم بعضا، ويتنافس بعضهم مع بعض، ويتبنى بعضهم فكرة انفصال كل فصيل عن الآخر، وسيلة لتقديم صورة ملخصة لوجود كل فرقاء المجتمع.
بالطبع، في مثل هذه البيئة، سيكون تحقيق الصداقة كما لو أنه محاولة اكتشاف معنى مفقود منذ الأزمان الغابرة، واستكشاف علاقة غير مرئية وغير متوقعة، علاقة صدق ووفاء بالتزامات. فالصداقة لا يمكن التضحية بها عبر مساومات داخلية أو خارجية. الصداقة تقوم قبل كل شيء على العطاء.
هل يفكر أولئك الذين لا يستطيعون العثور على صديق حقيقي أن يكون كل واحد منهم صديقا حقيقيا لنفسه؟ في هذه الحالة، قد يلجأ الكثير من الناس إلى الاعتذار بعدم مقدرتهم على تكوين صداقات مع أي شخص لأنهم لا يستطيعون العثور على شخص يستحق الصداقة، لا يمكنهم إظهار الصداقة الحقيقية بكل ما فيها من معان والتزامات. ومع ذلك، فإن أول خطوة للشخص ليعثر على صديق حقيقي، أن يكون شخصا صادقا مع نفسه. الصداقة لا تكتسب قيمتها من الآخرين، إنها وعي يبدأ بنفسك، وينطلق من مواقفك الخاصة ويستمر.
كما تقول الأغنية الشهيرة للمطرب التركي الشهير أحمد قايا التي كتبها يوسف خيال أوغلو: “لو كنت ثلجًا على تلك الجبال، إذا كنت ريحًا متمردة، إذا كنت قبرًا لم يطالب به أحد، إذا كنت مشتعلا في هذه النار، إذا كنت غريبا، هل ستظل تحبني؟”… هل يمكن أن تتحقق الصداقة في ظروف مثل هذه؟ وما الذي يمكن أن يقدمه المرء لنفسه قبل مشروع الصداقة التي يسعى لإقامتها على الرغم من كل هذه الظروف؟
دعونا لا نضيع الوقت ونحلِّق بعيدا عن القصيدة الرائعة التي نظمها يوسف خيال، والتي ازدادت معانيها رونقا حين انتظمت مع موسيقى أحمد قايا الجميلة في خيط واحد، وكشف لآلأها شرحُ مسلُم غورسيس الاستثنائي بالطبع. لكن الصداقة لا تقبل عناد “أحبني كما أنا، بغض النظر عما أنا عليه”. الصداقة تغيِّر. بالتأكيد الصداقة الحقيقية تغيِّر. فالشخص يستغرق في رحلة طويلة ومرهقة ومعقدة للتغيّر نحو الصديق المخلص الدائم.
قلت لصديقي: “اسمح لي أن أبقى هنا مقبورا، دعني أصبح ريحا متمردة، لا أتزحزح عن مكاني قيد أنملة، لكن لا تتخلَّ عن حبي على أي حال”. أعطني فرصة تعليق هذه الكلمات على حائط قبري الذي دُفنت فيه، وبقيت حيث يرقد جثماني.
فهكذا، يمضي الشخص نحو المجهول حين ينطلق -جنبا إلى جنب- في رحلة مع صديق. وفي مثل تلك الرحلة، التي تشبه رحلة موسى مع الخضر، يجب على المُرافق أن يكون صبورا على ما يرى من أفعال غريبة لرفقائه من أهل العلم، وأن يحاول بسرعة أن يفكر ليفهم ويتحلى بالحكمة، بدلا من الاعتراض والحكم عليهم بضيق آفاقه ومحدودية معرفته وتحيزاته وأيديولوجياته ونظرياته ومفاهيمه.
إن من آداب الصداقة، مساندة الصديق والسعي لفهمه والوضوح معه، بدلا من دوام انتظار شيء منه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق