💠دروسُ هارون وموسى💠
أ.د. فؤاد البَنّاأكاديمي ورئيس منتدى الفكر الإسلامي
💠دروسُ هارون وموسى💠🔷بركةُ التكاتُف:
عندما أمر الله موسى أن يتصدى للطاغية فرعون، طلب من الله أن يشرح صدره ويُيسر أمرَه وأن يَحلل عقدةً من لسانه حتى يفقهوا قوله، وأن يجعل له أخاه هارون وزيراً، وعلّل ذلك بقوله: {واجعلْ لي وزيراً من أهلي هارونَ أخي أُشددْ به أزْري وأَشْركه في أَمري كي نُسبّحك كثيرا ونذكرَك كثيراً }.
وهنا نلاحظ الإشارة إلى بركة التكاتف حتى في التسبيح والذكر، مع أنهما عبادتان فرديتان في الأصل، لكن أداءهما بشكل جماعي يستجلب البركة المادية المتمثلة بالتناشُط والتعاون، والبركة المعنوية التي هي هِبةٌ غير منظورة من الله، بحيث تصبح حصيلة 1+1 لا تساوي 2 فقط بل تساوي 11 لأننا وضعنا الواحد بجانب الواحد ولم نجمعهما في ذات واحدة، ومن ثم تصير طاقتهما بطاقة أحد عشر رجلا!
🔷 اتحاد التنوع:
عندما أمر الله موسى وهارون بالذهاب إلى فرعون، أعلنا خوفهما من جبروته ولاسيما موسى الذي قال:{ ولهم عليّ ذنبٌ فأخاف أن يَقتُلون}[الشعراء: 14]، وذلك عندما قتل بالخطأ القبطي الذي كان يعتدي على إسرائيلي، فنهاهما الله عن الخوف وقال:{فأتياهُ فقولا إنا رسولا ربك...}[طه: 47] وفي سورة أخرى قال: {فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين} [الشعراء: 16]، فلماذا عبّر هنا بصيغة الواحد (رسول) بينما في طه قال:(رسولا)؟
هذا ما سمّيته بالتعدد المتحد، فموسى وهارون شخصان في تركيبتهما المادية والعقلية والمزاجية وفي ظروف نشأتهما وطريقة تفاعلهما مع الأحداث والناس، لكنهما في التزام أمر ربهما وفي اتحادهما ضد عدوهما كأنهما ذات واحدة!
وعلى سبيل المثال فقد اختلف تعاطيهما مع مشكلة قومهما الذين أضلهم السامري فعبدوا العجل، إذ غلّب هارون مقصد الوحدة وبقي بين أظْهرهم رغم إشراكهم: {إني خشيتُ أن تقولَ فرّقْتَ بين بني إسرائيل...}، بينما آثر موسى تقديم مقصد التوحيد، ولهذا لام هارونَ بقوة حتى أمسكه من لحيته، لكن ذلك لم يؤدّ إلى تفرّقهما أو تباغضهما، فقد عاد موسى وتَفَهّمَ منطق هارون واسترضاه ودعا له.
وبهذا يعلمنا القرآن درساً في وجوب الاتحاد حول الثوابت المعلومة من الدين بالضرورة، مع إبقاء الاجتهاد قائما في منطقة المتغيرات دون أن يؤثر التعدد الناتج عنه على ألفة القلوب ووحدة الصفوف.
🔷 تقديم الأقوى:
كان موسى عليه السلام أقوى من هارون، ولا غرْوَ أن يُقدّمه القرآن بالذكر في سائر المواضع، غير أنه أخّره في موضع واحد وهو قوله تعالى: {فأُلْقيَ السّحرة سُجّداً قالوا آمنا برب هارون وموسى} [طه: 70]، فلماذا قدّم السحرة هارونَ على موسى في هذا الموضع؟
لأول وهلة سيبدو أن النّظْم القرآني هو السبب، لأن اسم موسى متوافق مع فواصل الآيات بعكس هارون، ورغم ذهاب بعض المفسرين إلى هذا التعليل فإن دقة معاني القرآن تجعلنا نستبعده، وعند تدبر المقطع كله بدا لنا أن السحرة كانوا متأثرين بشجاعة هارون الذي لم يخف عندما رأى حبال وعصيّ السحرة تتحرك، فقد ذكر القرآن أن موسى خُيّل إليه أنها تسعى وقال: {فأوْجَس في نفسه خيفةً موسى} [طه: 67]، وهذا يعني أن هارون لم يَخف فكَبِر في أعين السحرة!
🔷 الذنوب تزرع الخوف:
وإذا تساءلنا: لِمَ خاف موسى دون هارون؟
يبدو أن الله بتثبيت هارون أمام سحر السحرة، أراد أن يبرهن لنا بطريقة عملية وعلى أعلى مستوى، أن الذنوب تُضعف الشكيمة وتهزّ الشجاعة أي أنها تزرع الخوف في قلوب أصحابها!
ولكن ما علاقة موسى بالذنوب وهو نبي معصوم؟
للذنوب آثار بعيدة المدى عميقة الغور، ولقد قتل موسى قبطياً بالخطأ - كما أسلفنا - في شبابه، وظل الأثر يتابعه ليُبيّن لنا القرآن خطورة الذنوب على طبائع الناس وأخلاقهم.
وقد أشار القرآن إلى ذلك عندما أخبر موسى بأنه نبي فقال له الله تعالى: {وألْقِ عصاكَ فلما رآها تهتزّ كأنها جانّ ولّى مُدْبرا ولم يُعقِّبْ يا موسى لا تَخفْ إني لا يخاف لديّ المرسلون إلا من ظلم ثم بدّل حُسْناً بعد سوء فإني غفور رحيم}[النمل: 119].
وبهذا نستطيع إدراك حجم الذنوب والخطايا التي اقترفها مسلمو عصرنا، من حجم الخوف الذي يعتري الأمة من أعدائها، حتى أن أذلّ أمة استباحت بيضتهم ومرّغَت أنوفَهم في التراب رغم كثرة أعدادهم وكثافة أسلحتهم، بل لقد صنع خَوَرُ العرب من جيش إسرائيل الذليل أسطورةً في أعين الناس، حتى قيل عنه بأنه الجيش الذي لا يُقْهر!!
وفي هذا الصدد نستطيع التأكيد على أن الخطايا التي تتصل بحرمات الآدميين هي الأخطر في زرع نبات الرعب في القلوب من الأعداء، ولذلك فإن أهم خطوة في طريق تحقيق النصر هي التخلص من المظالم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وإعادة الحقوق العامة إلى أصحابها، وبدون ذلك سيظل النصر حلماً بعيد المنال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق