نظرات في مراجعات وبدائل المرزوقي
"لا أخطر على المشروع الإنساني من أصحاب الأفكار الثابتة والقيم المتحولة". هذا ما كتبه الرئيس السابق التونسي والحقوقي والمفكر منصف المرزوقي في كتابه "المراجعات والبدائل".
هذه الرسائل التي يرسلها الكتاب بعد كل جولة فكرية عميقة هي ما يميز هذا الكتاب المهم. الكتاب يجمع بين محاولة لوضع نظريات عديدة ومن "تخصصات مختلفة" (Multidisciplinary) لبناء سردية لقطيعة معرفية مع الأيديولوجيات القائمة.
وإذا كنت تعتقد أن المرزوقي طبيب ثائر يرفض الظلم وحسب فأنت مخطئ. أنت هنا وفي كل ما يكتب -خاصة وهو في العقد السابع من عمره- أمام تجربة طويلة، ومعرفة عميقة، ورؤية ثاقبة يجب أن تثير فينا الأسئلة التي يطرحها الكتاب بكل وضوح عن ضرورة مناقشة الأيديولوجيات الخمس -والمسلمات التي رسخت في العقول جراءها- التي ناقشها الكتاب وهي: الوطنية/القومية، التقدمية، الليبرالية، الديمقراطية، الأيديولوجيا الدينية (وليست الأيديولوجيات).
ومن المهم أن نلاحظ أن تلك المناقشة لم تكن مناقشة أيديولوجيا لأخرى، أو محاولة للانتقاص من الأيديولوجيات المخالفة، أو السير عبر خلفيات مسبقة، العكس تماما هو ما يذكره الكاتب، حيث يوضح -وهو العالم بعلوم الإدراك والأعصاب وتطورها الرهيب في القرن الـ21- خطورة سيطرة الأيديولوجيا على العقل حين تحاول تفسير الواقع بمرجعية الأيديولوجيا. ويمكن أن نقارن الكتاب بما كتبه كارل بوبر بداية القرن الـ20 عن المجتمع المفتوح حين راجع وانتقد كافة الأيديولوجيات القائمة في أوروبا.
الوطنية وفظاعات الحروب
التفكير النقدي الذي طال هذه الأيديولوجيات جاء بصورة واضحة لا لبس فيها حين يتحدث عن الوطنية/القومية، إذ يقول "أثبتت التجارب أن هذا المنطق (الوطني/ القومي) وإن كان وراءه فترات السلام المتقطعة، كان ولا يزال سبب كل فظاعات الحروب والدولة الوطنية لفرض وجودها…"، ويُضيف "افترضت الليبرالية أن الحرية قيمة القيم، وأن انتصارها سيؤدي إلى تحرر الإنسان من القيود التي كبل بها نفسه"، لكن التجربة بينت أنها تطلق في الإنسان كذلك الطمع والجشع.
هذا يذكرنا هنا بما كتبه جون رولز عن العدالة الاجتماعية كقيمة مكافئة للحرية، أو ما كتبته ألاسادير ماركنتيل في كتابها "ما بعد الفضيلة"، في حديثها عن قضية القيم التي يجب أن تتجاوز الأيديولوجيا كما هو ظاهر من كلمات المرزوقي.
إن خلل النظام العالمي الذي أنشأه المنتصرون بعد الحرب العالمية الثانية، والخلل العميق في إدراك العلاقة بالكون ذاك الذي ُجبِلَت عليه الرأسمالية والنظام المالي العالمي؛ هما اللذان خلقا أزمات يسميها البعض "العولمة البيولوجية"، حين تساهم الكائنات الدقيقة في مقاومة جشع الشركات فتنتشر الأمراض
الديمقراطية كسبيل للسلام والحرية
يقول عن الديمقراطية "افترضت الديمقراطية أن القيم والقواعد التي سنّتها لتسيير الشعوب كفيلة بإيجاد أحسن أنظمة قادرة على تحقيق ما تصبو إليه الإنسانية من سلام وحرية ومساواة وعدل، لكن التجربة التاريخية كشفت أنها أنتجت الممول المفسد، والسياسي الفاسد، والإعلامي المرتزق، والناخب الجاهل أو المضلل".
وهو هنا يذكرنا بما كتبه فرانك كاتسن في كتابه "ما بعد الديمقراطية" حين عدّد مساوئ الديمقراطية في شمال الكرة الأرضية، إذ يقول عن التقدمية "أثبتت التجارب حدود قدرة السياسة على تغيير البشر إلى الأفضل وهو ما جربه الدين قبلها وفشل. كما أثبتت هذه التجارب أن التقدم ليس بالضرورة تطورا وأن المسار نحو الأفضل يمكن أن يتوقف وأن يتراجع إلى أوضاع بالغة السوء". أما عن الأيديولوجيا الدينية فيقول "من ينصبون أنفسهم ناطقين باسم المقدس والمكلفين بوضع البرش على الطريق المستقيم ليسوا لا أسوأ ولا أحسن من أصناف السياسيين العاديين".
هذا التقييم لم ينطلق من خصومات شخصية، أو عداء أيديولوجي إنما هو لتصور السلوك الإنساني حين يعيش في سجن الأيديولوجيا، وربما -كما قال كارل بوبر في كتاب أسطورة الإطار- لا مناص لنا من سجن الأيديولوجيا، لكن بوسعنا أن نوسع تلك السجون ونزور السجون الأخرى. وإذا زال ذلك الغطاء الأيديولوجي سيمكننا النقد والتفكير النقدي فيما يسميه الكاتب في الفصل الثاني من الكتاب "التحيين"، وربما يعني هنا السياق الذي ظهر فيه فشل هذه الأيديولوجيات.
وفي هذا الفصل يتحدث الكاتب عما كتبه نوح هراري الكاتب الذي كتب عن إنسان المستقبل ويقول "أعترف أنني انتفضت كمن أصيب بلدغة أفعى عند المقطع الذي يقول فيه هراري إن الحقوق هي الذراع العقائدية لديانة الإنسان- الإله التي يسميها الفردانية. هل كنت طوال كل السنوات الصعبة، التي تجندت فيها لقضايا حقوق الإنسان فردانيا مؤمنا منغمسا من دون وعي في ديانة جديدة تحركني، كما تحرك الدمى أصابعُ مخفية!".
هراري هو أحد المنظرين لمنتدى دافوس وهو مستشار كلاوس شواب رئيس المنتدى. وهنا يبدأ المرزوقي بمراجعة الأسس لكثير من النظريات السائدة، ويشير إلى كيفية الوصول للقطيعة المعرفية، وهنا يمكن أن نستحضر فكرة أننا أمام الأيديولوجيا (نحن دوما موظَّفون أو موظِّفون) فإما نستخدمها لأغراض تخفي طبيعة الافتراس ادعاءً للفروسية، أو نجد أنفسنا نسعى لأجندة أخرى كما تبنى كثيرون الديمقراطية لتبرير احتلال بلدان الآخرين واستغلال خيراتهم.
هنا يعطينا المرزوقي بعدا ديناميكيا مركبا للظاهرة السياسية خاصة في النموذج الذي يقدمه للدولة، وهذا تطور عميق جدا لم تستطع جامعات كثيرة في عالمنا العربي الولوج إليه بعد، أعني "عالم النظم المركبة القادرة على التكيف" (Complex Adaptive System)، هذا ما أفهمه من نموذج الدولة الذي أسهب المرزوقي في شرحه، وهو قريب جدا من ظواهر بدأت مؤخرا في دراسات عديدة حول التمييز بين حفريات الدولة؛ أعني السلطة والصراع حولها، ثم بنية النظام السياسية لعقلنة هذا الصراع حول السلطة ولإقناع المحكومين بمشروعية الحاكم، حتى نصل للقشرة حيث السرديات التي تساهم فيها المعرفة والكاريزما، وأخيرا العنف الذي يصوره كثيرون على أنه التعريف المجرد للدولة، اللفياثان الذي يريد أن يقضي على كل شيء، وهو الذي يراجعه المرزوقي كذلك.
نحن أمام ظاهرة متحركة تجعل من الحديث عن السياسة بدون فهم هذه الدينامية قضية خطيرة يتقاذفها الإعلاميون احتفاءً بقشرتها، أو يتجاهلها الناس ظنا منهم أنهم بمعزل عن شررها، أو حين لا ندرك خطورة ممارسات السلطة والمال التي هي لب هذه الظاهرة التي لها تاريخ طويل وكبير وهي الدولة.
هنا يبدو المرزوقي واضحا في بيان أن السياسة لا يمكن أن تكون مجرد ألاعيب تهمل سياقات مهمة قد تجبر الجميع في نهاية المطاف للاصطدام بأزمات معقدة لها سياقات تاريخية أعمق وهي الأزمات البيئية والديمغرافية والتنموية والتقنية التي يعيشها العالم.
يسهب المرزوقي في بيان ما يعرف بالتاريخ الكبير حين يتجاوز التحقيب التقليدي لفهم التحولات التاريخية من منظور فوقي يبحث في تحول الإنسان والتطور البشري، حين يتجاوز المنطلقات الاختزالية والمسارات الخطية لفهم التحولات الكبرى علنا ندرك أن ما يحدث أكبر من مجرد سيطرة قيس سعيد على السلطة في تونس، أو هزيمة الأيديولوجيا الإسلامية، أو نجاح القوى المضادة للثورات في جولة من الجولات، بل إنه سياق أكبر وأزمات كبرى تحتم علينا إعادة النظر في كل المسلمات: الشعب، الدولة، الديمقراطية، الإسلام السياسي، وفهمنا للحضارة والتاريخ والكون في معناه الفيزيائي المحرك للعقول في فهمها للمستقبل.
الثورات المؤسسة والثورات التعديلية
من الممكن أن نشير هنا إلى ما تحدث عنه المرزوقي من تطور الوعي من القبيلة إلى الإنسانية حين يبدأ الإنسان يتسع في تصوراته، وهذا ما يعرف في علوم الإدراك بنظرية اللولب المتحرك حين يقسم التفكير عبر التاريخ لـ8 أطياف يبدأ من القبيلة وينتهي بالبيئة والشعور بالمخاطر الكونية. كل ذلك يجعله المرزوقي في إطار فهم الثورة وهو منظور واسع، إذ يقول "في هذه الرؤية تكون البشرية عاشت 4 ثورات -حين يختفي التحقيب طبعا- لنسمِّها الثورات المؤسِّسة، لأنها أسست لحضارات مختلفة جدا، أي مرة أرى التغييرات عميقة شاملة وطويلة المدى في حياة البشر. أما ما يعرف بالثورات التي لا يعرف أحد عددها الحقيقي، فلنسمِّها الثورات التعديلية، إذ هي مجرد انفجارات مجتمعية لتعديل التوزيع في الثروة والسلطة والاعتبار بعد أن اختلّت التوازنات إلى درجة لم تعد مقبولة من المجتمع".
المتغيرات الكبرى ونظرية التحول العظيم
في الفصل الثالث نجد أن أنفسنا أمام الأزمات الكونية التي نعيشها والتي يجب أن ندرك أنها جزء من سياق الثورات التعديلية (التي نسميها الربيع العربي). هذه الأزمات كما يذكرها المرزوقي أقرب لنظرية التحول العظيم التي وضعتها مجموعة السيناريو العالمي، أو نظرية جون نسبت حول المتغيرات الكبرى، وبالجملة هي صارت واضحة لكل من امتلك النظرة الشمولية التي ينظر من خلالها المرزوقي. هذه الأزمات هي مسألة الأمن والسلام، المسألة المناخية، المسألة الوبائية، المسألة التكنولوجية، مسألة النظام الاقتصادي، مسألة النظام السياسي، مسألة الانتماء والمسؤولية.
أي خارطة طريق؟
يشرح الفصل الثالث هذه التحديات، وهي -كما يمكن متابعة ذلك من سياق الكتاب- المحفز لهذه المتغيرات التي يجب للأيديولوجيات العتيقة أن تعيد النظر في مسلماتها حتى تستطيع أن تجابهها.
إن خلل النظام العالمي الذي أنشأه المنتصرون بعد الحرب العالمية الثانية، والخلل العميق في إدراك العلاقة بالكون ذاك الذي ُجبِلَت عليه الرأسمالية والنظام المالي العالمي؛ هما اللذان خلقا أزمات يسميها البعض "العولمة البيولوجية"، حين تساهم الكائنات الدقيقة في مقاومة جشع الشركات فتنتشر الأمراض، وحين يخضع الساسة لمنظمة التجارة العالمية عبر الشركات الكبرى، وحين تصبح الدولة الوطنية أثرا بعد عين بالحديث عن الإمبراطورية -كما كتب أنطونيو نيجري الفيلسوف الإيطالي- أو سيادة شبكية لمجموعة دول قوية على أخرى ضعيفة، وفق ما كتبت آنا ماريا وهي مستشارة للرئيس أوباما. كل تلك التحديات تطرح مسألة الهوية بقوة لتجعل الأيديولوجيات أمام أسئلة أكثر قوة وحداثة وهو السبيل للبحث عن الطريق الجديد.
هذا ما يكتبه المرزوقي في الفصل الأخير تحت عنوان "أي خارطة طريق؟". ربما كان هذا الفصل من أروع ما تقرأ حين يظهر في المرزوقي الإنسان الأديب وربما الروائي الأريب، إنه فن تبسيط المعاني العميقة، حين يبين أن سطوة التقنية، أو الافتراس في عالم السياسة، لا يمكن أن يصل بالإنسانية لأي بر أمان، "يا إله كل الحواسيب ورب كل الروبوتات وسيد كل الهواتف النقالة التي تتجسس بها على البشر، برأس أحب روبوت لديك، هل تدلني على الخطوط العريضة لأيديولوجيا لا يأتيها الباطل من خلفها ومن أمامها، أخرج بها للناس، أهديهم إلى الطريق المستقيم، فيعلو بها شأني وشأنك".
هكذا يبين أنه لا يملك حلا سحريا لكل هذه الأزمات، وأنه يؤكد على أن النضال والقيم كمشاعر وصناعة قرار يبدآن من النظام الأول للوعي التلقائي لا يمكن المساومة عليهما. وهنا يناقش بوضوح التصورات حول شخص المرزوقي بأنه مثالي أو أنه غير واقعي، ليبين أنه على العكس من ذلك تماما، حين شعر بأن النضال الحقوقي بمفرده لن يجني شيئا وقال -لصديق سأله ما العمل؟- "نستولي على وزارة الداخلية".
الطريق بين هاويتين
إنه يريد أن يذكِّر أولئك القابعين في قعر الواقعية المزيفة أنه كان أكثر منهم إدراكا للواقع ويعطينا بوضوح تصوره للسياسة بصفة عامة حين يضرب لنا مثلا، "يقال لك، وهل تريد إقناعنا بأن البديل هو الطوباوية والسذاجة التي لا تقود أصحابها مهما صلحت نيتهم، إلا ليكونوا فرائس غبية لمفترسين هم أنفسهم فرائس لأفكار الميكافيلية وأوهامها!؟. ثمة مخرج من خيار الذئب أو الحمل؛ مدرسة مانديلا في السياسية… مدرسة مانديلا هي الطريق السوي بين هاويتين، الأولى التي تخلط بين القوة والعنف، وهي مدرسة المفترس الذي يعتبر السياسة ساحة معركة، لا مكان فيها إلا لفائز واحد ومهزوم واحد، والثانية هي مدرسة الفريسة، الباحث طوال الوقت عن التوافق والتصالح والاستكانة"، مدرسة مانديلا كما يشرحها "هي التي تؤمن بأنه لا علاقة للقوة بالعنف، إذ بوسعك أن تكون قوياِ دون أن تكون عنيفا، وبوسعك أن تكون مثاليا دون أن تكون ساذجا ومغفلا جاهلا بطبيعة البشر الحقيقية والمعقدة".
إن كل فصل من فصول الكتاب يحتاج لأن يكون هو في ذاته مبحثا خاصا، خاصة في بعده الإدراكي لأن مثل هذه الكتب لا تتكرر كثيرا، وإن دراسة العقل السياسي العربي من منظور علوم الإدراك لهو المدخل الصحيح لفهم السياسة في العالم العربي. ولا يتردد المرزوقي بعد الإيضاح الشافي لرؤيته الشاملة للتغيير، في القول إن القيم هي الأساس في كل ذلك، فكما قال "لا أخطر على المشروع الإنساني من أصحاب الأفكار الثابتة والقيم المتحولة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق