كيف يمكن للسياسة البريطانية أن تفجر انتفاضة ثالثة؟
ديفيد هيرست
لا يسيطر الرجل الذي وصل إلى بريطانيا، يوم الجمعة 24 مارس/آذار، ويدّعي أنه زعيم الحكومة في إسرائيل، رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، على زمام الأمور في بلاده.
إذ إن مئات الآلاف من الأشخاص، من ضمنهم طيارون عسكريون ووحدات النخبة، خيموا في الشوارع احتجاجاً على التحركات التي تستهدف تحييد المحكمة العليا في إسرائيل. وأُقيمت الحواجز فوق الأراضي.
وفي مساء الخميس 23 مارس/آذار، قال نتنياهو في خطاب متلفز، إنه سوف يمضي قدماً في "الإصلاحات القضائية المسؤولة"، بينما نصح سياسيو المعارضة أعضاءَ حزب الليكود بأن يثوروا، لكن السؤال الذي بقي في أذهان الجميع هو: هل يسيطر نتنياهو على آخر معاقل سلطته، حزب الليكود؟
لا يسيطر نتنياهو حتى على مجلسه الوزاري. ألقى الرجل الذي يشغل منصب وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، المُعلِن ذاتياً بأنه أحد المؤمنين بسيادة اليهود، بخطاب في باريس أنكر فيه وجود فلسطين.
قال سموتريتش ما هو أكثر من ذلك، عند المنصة التي وقف أمامها كانت هناك خريطة تقترح أن الأردن، بالإضافة إلى أجزاء من السعودية، ولبنان، ودول أخرى مجاورة، لم تكن موجودة هي الأخرى، وأنها يجب أن تخضع لسيطرة اليهود.
عندما التقى مسؤولون إسرائيليون ومسؤولون عرب في قمة العقبة لنزع فتيل التوترات في الضفة الغربية المحتلة، في فبراير/شباط، قال سموتريتش إنه ليس لديه "أدنى فكرة" عما يُناقَش في "القمة التي لا داعي لها" في الأردن. وتعهد بأن بناء المستوطنات لن يُجمد "ولو ليوم واحد".
وأضاف وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير: "ما حدث في الأردن (إذا كان قد حدث شيء)، سوف يبقى في الأردن".
عندما التقى المسؤولون الفلسطينيون والمسؤولون الإسرائيليون في مصر، في الأسبوع الماضي، للاتفاق على تدابير لتهدئة التوترات قبيل شهر رمضان المبارك، كان رد الكنيست هو تمرير تشريع سيسمح لأربع مستوطنات يهودية مهجورة في الضفة الغربية المحتلة بأن يُعاد بناؤها بعد فك الارتباط بها في 2005. يستطيع المستوطنون الآن العودة إلى مناطق الضفة الغربية المحتلة، التي أخلاها رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرئيل شارون.
ليس سموتريتش وبن غفير وزيرين مرؤوسين تابعين لمجلس وزاري كبير. بعيداً عن منصب وزير المالية، لدى سموتريتش صلاحيات تخول له الإشراف على بناء المستوطنات. فهو فعلياً الحاكم المدني للضفة الغربية المحتلة.
لنتخيل فقط أنه بعد قمة وندسور، التي أعلن خلالها رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك اتفاقيةً مع الاتحاد الأوروبي حول ترتيبات أيرلندا الشمالية ما بعد البريكست، أدلى وزير الخزانة البريطاني، جيريمي هانت، بخطاب يقول إن الأيرلنديين لم يكونوا موجودين، أمام خريطة تزعم أحقية بريطانيا في كامل جزيرة أيرلندا.
ذلك هو ما يحدث الآن في إسرائيل.
ليست متفرجاً عابراً
الخريطة التي أُرفقت بالمنصة التي كان سموتريتش يتحدث أمامها، أُخذت من رمز منظمة الإرغون (أو إتسل) اليهودية الإرهابية، التي تورطت في عديد من المذابح عام 1948، بما في ذلك مذبحة دير ياسين، التي قُتل فيها ما لا يقل عن 107 فلسطينيين، كان من بينهم أطفال ونساء. قال بن تسيون كوهين، أحد قادة الإرغون السابقين، في مناسبة سابقة إنه إذا كانت هناك "ثلاث أو أربع" مذابح مثل مذبحة دير ياسين في ذلك الوقت، لم تكن إسرائيل ستواجه أية مشكلة فلسطينية.
بعد الهياج الأخير للمستوطنين في قرية حوارة، الذي وصفه اللواء الإسرائيلي الكبير يوسي فوكس بـ"المذبحة"، قال سموتريتش إن القرية كان ينبغي محوها. وكان اعتراضه الوحيد على هجوم المستوطنين، أنه كان من المفترض أن تنفذه الدولة الإسرائيلية بدلاً منهم.
وأياً ما يكون مصير حكومة نتنياهو، فإن القيود القانونية الباقية على الضم يجري إزالتها، ما يمنح سموتريتش والمستوطنين تفويضاً مطلقاً لشن مزيد من المذابح والهجمات ضد بيوت الفلسطينيين وقراهم وبلداتهم.
هذا هو سياق زيارة لندن، التي خرج فيها رئيس الوزراء، الذي يؤيد وزراؤه صراحةً حدوث نكبة أخرى، وطرداً جماعياً آخر ضد الفلسطينيين الذين يحاولون العيش على أراضيهم.
فما هو رد بريطانيا؟ إنها ليست متفرجاً عابراً لجرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل علناً، بدون أدنى ذرة خجل أو حذر.
تعد بريطانيا مسؤولة عن تأسيس دولة ذات أغلبية يهودية، وعن ثمرة المشروع الصهيوني. ليس هناك بلد آخر يتحمل مسؤولية أكبر منها على الطرد الجماعي، وهدم المنازل، والمستوطنات غير القانونية التي استمرت منذ تأسيس إسرائيل.
إن خلفاء وزارة الخارجية البريطانية التي أصدرت وعد بلفور لديهم مسؤولية أخرى، مثلما يعرف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حق المعرفة، كانت بريطانيا في طليعة الحملة الدولية لإمداد أوكرانيا بالدبابات والطائرات الحربية. ومثلما هو الحال مع سموتريتش، الذي قال إن الفلسطينيين لم يكونوا موجودين، يقول بوتين إن أوكرانيا لم تكن موجودة.
كانت ردة فعل بريطانيا على جرائم الحرب المزعومة التي ارتكبها بوتين، هي إحالة روسيا إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي ذهبت بضغط من بريطانيا إلى أوكرانيا خلال سنة وأصدرت مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي.
وكانت ردة فعل بريطانيا على جرائم الحرب المتكررة التي ترتكبها إسرائيل في احتلالها غير القانوني للأراضي الفلسطينية، هي الاعتراض على إجراء المحكمة الجنائية الدولية تحقيقات حول جرائم الحرب هناك، والتصويت ضد تحقيق الأمم المتحدة لبحث الأسباب الجذرية للصراع. على مدى 75 سنة من النكبة، لم تصدر المحكمة الجنائية الدولية بعد أية مذكرة توقيف ضد أي مسؤول إسرائيلي، مع أنها فتحت تحقيقاً حول "الموقف في دولة فلسطين".
حماية إسرائيل من النقد
وفي هذا الأسبوع، تمادى سوناك أبعد من سلفه بوريس جونسون، الذي صوت ضد تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية. من أجل أن تبشر بوصول رئيس وزراءٍ (إسرائيلي) كان ينبغي لبريطانيا- إذا كانت تتمسك بأي ادعاء بدعم القانون الدولي- أن تقاطعه، وقعت بريطانيا على اتفاقية مع إسرائيل تكرس لإفلات إسرائيل من العقاب في مجلس حقوق الإنسان والكيانات الدولية الأخرى، وترفض استخدام مصطلح فصل عنصري.
قال مايكل لينك، المقرر الخاص للأمم المتحدة، المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في تقرير لمجلس حقوق الإنسان، في العام الماضي، إن أسلوب معاملة الفلسطينيين "يستوفي المعيار الاستدلالي السائد لوجود الفصل العنصري".
بل إن سياسة بريطانيا الجديدة تتجاوز تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA) لمعاداة السامية، من أجل حماية إسرائيل من الانتقاد المشروع.
إنها تنقلب على عقود من السياسة البريطانية، عبر سماحها لإسرائيل بأن تقرر أيّ من مؤسسات التعليم العالي يجب أن تشارك في التعاون التعليمي مع بريطانيا، وهو ما يُحتمل أن يفتح الباب أمام الجامعة الموجودة في مستوطنة أرئيل غير القانونية، أن تشارك في هذه البرامج للتبادل التعليمي مع المملكة المتحدة.
فحتى الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا لم تتمادَ بنفس القدر، فجميعها ذكَّرت إسرائيل، وإن كان ذلك بلطف، بمخاطر الانحراف عن المسار الديمقراطي. ولكن في بريطانيا لدينا وثيقة تكيل المديح إلى "الديمقراطية" في إسرائيل، في نفس المنعطف الذي يشهد احتجاج نسبة كبيرة من سكانها احتجاجاً شديداً، وحيث تُقاد حكومتها عن طريق فاشيين.
كان رد فعل الحكومات العربية بالكاد أفضل، طالب وزير داخلية أردني سابق، وهو سمير حباشنة، مؤخراً بعودة التجنيد العسكري الإجباري، ويقال إن الإمارات "تفكر" في خفض تمثيلها الدبلوماسي في إسرائيل. وفي ظل لامبالاة كهذه لا بد أن يشعر سموتريتش بأنه قادر على أن يفعل ما يحلو له.
لا يملك رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت أوراق اعتماد يسارية، فهو ينحدر من حزب الليكود، ثم ترأس حزب كاديما الوسطي المنشق عن الليكود، غير أنه حتى من على شاكلته ناشدوا بريطانيا من أجل ألا تستقبل نتنياهو.
سوف يأتي الرد الوحيد على هذا من الشوارع الفلسطينية، وعندما يحدث ذلك، وينتشر الذعر والصدمة من قتل المتسوقين ومرتادي المطاعم في تل أبيب، وعندما تمتلئ مرة أخرى موجات الأثير الدولية بالكلمات المخادعة حول حق إسرائيل "في الدفاع عن نفسها"، سوف يعلم الجميع على مَن سوف يقع اللوم في انطلاق انتفاضة ثالثة.
هنا تماماً في بريطانيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق