الصين تدخل الشرق الأوسط من بابه الكبير
فجأة وبدون مقدمات، وقعّت السعودية وإيران يوم الجمعة الماضي اتفاقا لاستئناف العلاقات المقطوعة بينهما منذ حوالي سبع سنوات. لم تكن هذه هي المفاجأة الوحيدة في إعلان هذا الاتفاق، ولكن المفاجأة الأبرز، ولعلها الأهم التي تحدث في المنطقة منذ نصف قرن على الأقل، أن الاتفاق تم توقيعه في العاصمة الصينية بكين، ومن خلال وساطة ورعاية صينية كاملة. ولذلك لا تزال أصداء هذه المفاجأة تتردد في العواصم العالمية الكبرى، خاصة في العاصمة الأميركية واشنطن.
من منظور جيوستراتيجي، فإن الاتفاق بين الرياض وطهران هو بمثابة زلزال سياسي ضرب منطقة الشرق الأوسط وقلب موازين وحسابات اللعبة الإقليمية رأسا على عقب. فالتوترات بين البلدين لعبت دورا مهما في تشكيل خارطة الصراعات الإقليمية على مدى العقد الماضي.
الملمح الأكثر أهمية وبروزا في اتفاق طهران والرياض هو ما يتعلق بالصين، فالاتفاق بين البلدين قد تم بوساطة ورعاية صينية كاملة
حيث سعى كل طرف إلى تحقيق مصالحه على حساب الطرف الآخر، ولو كان من خلال الحرب واستخدام القوة، وذلك على غرار ما شهدناه في حرب اليمن خلال السنوات الثماني الماضية، وذلك قبل أن تهدأ الأمور قليلا بعد توقيع اتفاق الهدنة بين الحوثيين والسعودية العام الماضي. كما أن الصراع بين كلا البلدين، ومحاولات البحث عن النفوذ تمتد من العراق شمالا إلى اليمن جنوبا، مرورا بدول أخرى في المنطقة مثل لبنان والبحرين.
ولذلك، فإن توقيع الاتفاق هو بمثابة حدث كبير لا يختلف كثيرا عن الأحداث الكبرى التي وقعت في المنطقة خلال العقد الماضي، مثل الربيع العربي والحرب في اليمن والتطبيع مع إسرائيل وحصار قطر. وهي أحداث كان لها ما بعدها في رسم السياسات الإقليمية والدولية للأطراف المنخرطة فيها.
وبغض النظر عن دوافع كلا الطرفين السعودي والإيراني بشأن توقيع الاتفاق، وما إذا كان الاتفاق اتفاقا تكتيكيا أم إستراتيجيا، إلا أنه يمثل اختراقاً كبيراً وتحولاً مهما في البيئة الإقليمية والدولية سيكون له ما بعده.
فمن جهة أولى، من شأن هذا الاتفاق تهدئة التوتر والصراع بين أكبر دولتين وذلك في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسية، وهي منطقة الخليج العربي ذات الأهمية الإستراتيجية والاقتصادية والسياسية الكبرى.
ومن جهة ثانية، سوف يدفع هذا الاتفاق بإعادة ترتيب خارطة الصراعات والتحالفات في المنطقة، وسوف يعيد كل طرف حساباته بما قد يؤدي إلى إعادة رسم خطوط الصراعات والتحالفات بما يتماشى مع ما جاء بالاتفاق.
ومن جهة ثالثة، فمن شأن الاتفاق إرباك الحسابات الإسرائيلية فيما يخص صراعها الوجودي مع إيران. فعلى مدى الأعوام الأخيرة سعت تل أبيب بكل قوة من أجل تشكيل تحالف إستراتيجي مع بعض الدول العربية، خاصة في منطقة الخليج من أجل مواجهة ما تصفه بـ"الخطر الإيراني".
لذلك، فلا عجب أن نسمع انتقادات داخلية لاذعة لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو تحملّه المسؤولية عن هذا الاتفاق بسبب انشغاله بالمعركة القضائية والسياسية داخليا. فقد قال زعيم المعارضة يائير لبيد عبر تويتر إن "الاتفاق السعودي الإيراني هو فشل تام وخطر لسياسة الحكومة الإسرائيلية الخارجية".
ومن جهة أخيرة، فإن الاتفاق يمثل كسرا لمحاولات العزلة الإقليمية والدولية التي تحاول تل أبيب وواشنطن فرضها على إيران، وهو ما قد يدفع واشنطن إلى العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني.
أما الملمح الأكثر أهمية وبروزا في اتفاق طهران والرياض فهو ما يتعلق بالصين. فالاتفاق بين البلدين قد تم بوساطة ورعاية صينية كاملة، وقد وُضعت بذور هذا الاتفاق قبل شهور، حين طرح الرئيس الصيني تشي جين بينغ أثناء حضوره القمة العربية الصينية بالرياض في ديسمبر/كانون الأول الماضي، فكرة عقد قمة رفيعة المستوى تجمع قادة دول الخليج العربي مع إيران، وذلك أواخر العام الجاري.
وفكرة "القمة" لاقت قبولاً واستحساناً من الطرفين السعودي والإيراني. ولا يمكن عقد هذه القمة دون تصفية الأجواء بين طهران والرياض، لذلك فقد تواصلت بكين مع كلا الطرفين السعودي والإيراني اللذين أبديا استعدادا للتفاوض، وهو ما شجّع بكين على استضافت عدة جولات من الحوار الثنائي بين المسؤولين من كلا البلدين، وذلك بما مهّد الطريق لتوقيع اتفاق الجمعة الماضي.
استغلت الصين علاقاتها الاقتصادية الوثيقة مع كل من طهران والرياض، وكلاهما مورد مهم للنفط لثاني أكبر اقتصاد في العالم، من أجل رعاية المفاوضات بينهما. وهي المرة الأولى التي تتدخل فيها بكين بشكل مباشر على خط الصراعات السياسية في الشرق الأوسط.
ولذلك فإن ما قامت به الصين من رعاية وهندسة للاتفاق بين طهران والرياض، وذلك بغض النظر عن مدى صموده واستمراريته، يمثل اختراقاً وتحولاً نوعياً، ليس في بنية النظام الإقليمي فقط ولكن النظام الدولي أيضا. وهو اختراق سُمعت أصواته في العاصمة الأميركية واشنطن التي لا تزال في حالة دهشة وقلق مما جرى يوم الجمعة الماضي. فأميركا تمتعت، ولا تزال، بنفوذ كبير في منطقة الشرق الأوسط، وذلك منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتكاد تكون هي اللاعب الدولي الوحيد الذي لديه القدرة المباشرة على التأثير في سلوك وإستراتيجيات اللاعبين المحليين والإقليميين.
لكن دخول الصين على خط الصراعات في المنطقة، ومن باب أكبر دولتين في منطقة الخليج العربي (السعودية وإيران)، يعني تدشين نظام إقليمي وعالمي جديد ليس لواشنطن اليد العليا -كما كانت عليه الحال طوال أكثر من نصف قرن- في رسم ملامحه وتحديد دينامياته ووزن أطرافه، وهو ما يمثل أيضا تهديداً مباشراً لنفوذ الولايات المتحدة ليس فقط في المنطقة وإنما حول العالم.
وليس من قبيل المبالغة القول إن الدور الذي لعبته الصين في توقيع الاتفاق الأخير بين الرياض وطهران قد يكون شبيهاً لذلك الدور الذي لعبته أميركا في حرب السويس عام 1956، والذي نجحت من خلاله في وقف العدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر، ولكن الأهم أنه كان بمثابة إسدال الستار على إرث الإمبراطورية البريطانية الذي امتد لأكثر من قرنين، ومن يدري فلربما يعيد التاريخ نفسه من جديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق