التعديلات القضائية في إسرائيل.. كيف فجّرت أزمة حقيقية لن تنتهي في المجتمع الإسرائيلي؟
خفض رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو رأسه للعاصفة تحت وطأة الاحتجاجات الجماهيرية والنقابية والنخبوية التي شلت مرافق الحياة في إسرائيل، وأعلن مساء أمس "تجميد" تمرير الإصلاحات القضائية التي شرعت حكومته في تشريعها.
لقد لاحظ نتنياهو التأثير الاقتصادي الكارثي للاحتجاجات على الإصلاحات القضائية، حيث فرّت الاستثمارات الخارجية وسارعت شركات التقنيات المتقدمة إلى مغادرة السوق الإسرائيلية، وتضاعفت وتيرة سحب الودائع من البنوك الإسرائيلية 10 مرات منذ بدء الحديث عن الإصلاحات القضائية، وتهاوت قيمة الشيكل مقارنة بالدولار.
كما خشي نتنياهو أيضاً من تداعيات حركة رفض الخدمة العسكرية التي طالت بشكل خاص قوات الاحتياط، التي تضطلع بـ70% من الجهد العسكري لإسرائيل.
ومع ذلك، فإن نتنياهو وقادة ائتلافه الحاكم وزعماء أحزاب المعارضة وقادة حركة الاحتجاج على الإصلاحات القضائية يعون تماماً أن المعركة على الإصلاحات القضائية أبعد ما تكون عن الحسم. فبالنسبة لنتنياهو، فإن تمرير الإصلاحات القضائية يكتسب أهمية كبيرة على صعيد مصلحته الشخصية، حيث إنها توفر له الملاذ الوحيد للإفلات من المحاكمة في قضايا الفساد، وتمنحه طوق النجاة الأوحد من المكث في السجن لفترة طويلة.
وفي المقابل، فإن قادة الأحزاب الدينية بشقيها القومية والحريدية المشاركة في الائتلاف الحاكم ترى في الإصلاحات القضائية متطلباً حيوياً لوضع منطلقاتها الأيديولوجية موضع التنفيذ وتحقيق مصالحها ومصالح الجماهير التي تمثلها.
فالأحزاب التي تمثل التيار الديني القومي المتطرف، ممثلة بحركة "المنعة اليهودية" التي يقودها وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، وحركة "الصهيونية الدينية" التي يقودها وزير المالية والاستيطان بتسلال سموتريتش، ترى في الإصلاحات القضائية التي تضعف الجهاز القضائي، متطلباً رئيساً لتمكينها من تطبيق التعهدات التي قطعتها أثناء الحملة الانتخابية الهادفة إلى حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني.
فعلى الرغم من أن الجهاز القضائي الإسرائيلي كان دوماً شريكاً رئيساً في الجرائم التي ارتكبت ضد الشعب الفلسطيني؛ إلا أن ما تطرحه "المنعة اليهودية" و"الصهيونية الدينية" من رؤى بشأن التعاطي مع الصراع مع الشعب الفلسطيني، لا يمكن للجهاز القضائي الإسرائيلي بتركيبته الحالية أن يشرعها. فالبرنامج العام لحركة "المنعة اليهودية" يتحدث بصراحة عن طرد الفلسطينيين، وضمنهم فلسطينيو الداخل الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، إلى الدول العربية.
في حين أن حركة "الصهيونية الدينية" تجاهر بحماسها لتنفيذ مجازر ضد الشعب الفلسطيني؛ حيث إن زعيمها سموتريتش عبر عن هذا التوجه بشكل فج عندما دعا إلى "محو" بلدة حوارة الفلسطينية من الوجود، فضلاً عن عرضه خارطة لـ"إسرائيل الكبرى" تضم: فلسطين والأردن وأجزاءً من سوريا ولبنان.
أما الأحزاب الدينية الحريدية، ممثلة في حركتي "شاس" و"يهدوت هتوراة" فتتشبث بالإصلاحات القضائية لأنها تساعد على تحييد العوائق التي تحول دون تطبيق منطلقاتها الدينية والفكرية بشأن طابع العلاقة بين الدين والدولة، وتعزيز مكاسب جماهيرها المادية.
فالأحزاب الحريدية تطالب بتديين الفضاء العام، وضمن ذلك تكريس الفصل بين الجنسين في المؤسسات العامة وتقليص دور المرأة، وإعلاء مكانة التعليم الديني، والتطرف في إخضاع قوانين الأحوال الشخصية للتراث الديني، وغيرها. ويعي قادة الأحزاب الحريدية أن تحقيق هذه المطالب يتطلب تقليص قدرة المحكمة العليا على التدخل في القوانين التي يسنها الكنيست والقرارات التي تتخذها الحكومة بشأن طابع العلاقة بين الدين والدولة.
ومما يدلل على أن إعلان نتنياهو "تجميد" الإصلاحات القضائية والدعوة لحوار مع المعارضة بشأنها جاء فقط بهدف كسب الوقت والمراوغة، حقيقة أنه سارع اليوم الثلاثاء إلى وضع قيود تقلص من قدرة "الرئيس" إسحق هيرتزوغ على التدخل بهدف حسم الخلافات المرتقب نشوبها بين ممثلي الحكومة. في الوقت ذاته، فإن شركاء نتنياهو منحوا المعارضة شهراً واحداً للتوافق على صيغة نهائية للإصلاحات القضائية قبل أن يتم استئناف تطبيقها دون التوافق معها، كما عبر عن ذلك بن غفير الليلة الماضية.
وعلى كل الأحوال، فإن ممثلي الائتلاف الحاكم يصرون على أن تفي الإصلاحات القضائية بثلاثة أهداف رئيسية: تجريد المحكمة العليا من صلاحية رد القوانين التي يصدرها الكنيست، وتعطيل القرارات التي تتخذها الحكومة، وإلغاء استقلالية المستشار القضائي للحكومة، وتعزيز قبضة الحكومة على اللجنة المكلفة باختيار القضاة.
وبغض النظر عن مآلات الحوار بين الحكومة والمعارضة بشأن الإصلاحات القضائية، فإنه يمكن القول إن الاستقطاب الداخلي والتشظي المجتمعي الذي تعانيه إسرائيل في أعقاب تفجر الاحتجاجات على هذه الإصلاحات سيبقى إلى أمد بعيد.
فقد سمحت الاحتجاجات الجماهيرية ضد الإصلاحات القضائية بتفجر صراع الهويات على أسس دينية وأيديولوجية، وعرقية وطبقية بين الفئات التي تشكل المجتمع الإسرائيلي، فثارت مواجهات على أساس ثنائية: اليمين واليسار، وثنائية: متدينون وعلمانيون، وثنائية: شرقيون وغربيون، وثنائية: طبقة وسطى وطبقات ضعيفة.
من هنا، فإنه حتى لو حدث غير المتوقع، وتم التوافق على الإصلاحات القضائية، فإنه لن يكون بالإمكان خفض لهيب صراع الهويات الذي سيتواصل لأمد بعيد.
فقد دلل "صراع الهويات" المحتدم حالياً بشكل لا يقبل التأويل على تهاوي استراتيجية "بوتقة الصهر" التي أرساها مؤسس إسرائيل ورئيس وزرائها الأول ديفيد بن غوريون، والتي قامت على دمج الثقافات التي جلبها اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين لإنتاج "الهوية اليهودية الجامعة والثقافة الإسرائيلية الجامعة".
في الوقت ذاته، فقد أسهمت الإصلاحات القضائية في تعزيز مكانة قوى اليمين الديني المتطرف داخل الحكومة، حيث إن استقرار الائتلاف الحاكم وضمان بقائه يتوقف على هذه القوى. وهذا ما يفسر مسارعة نتنياهو للاستجابة لطلب بن غفير بتشكيل ميليشيا مسلحة تابعة له، يطلق عليها "الحرس الوطني"، لتكون رأس الحرب في مواجهة فلسطينيي الداخل.
قصارى القول، حالة الاستقطاب الداخلي والتشظي المجتمعي التي تعانيها إسرائيل وجدت لتبقى بغض النظر عن مصير الإصلاحات القضائية، لأن الاحتجاجات على هذه الإصلاحات فجرت طوفان صراع الهويات، الذي لا يوجد لدى أي من الفرقاء في الساحة الإسرائيلية حل سحري لاحتوائه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق