الاثنين، 27 مارس 2023

أرواح مشرقة.. علي عزت بيغوفيتش

 أرواح مشرقة.. علي عزت بيغوفيتش


محمد بن مختار الشنقيطي

علي عزت بيغوفيتش لم يكن يرى العدالة انتقاما، بل إرجاعا للأمور 
إلى نصابها، مع العفو والصفح حالما يرتفع الظلم عن المظلومين

ولد السياسي والمفكر المخضرم علي عزت بيغوفيتش عام 1925 في بلدة بوسانا كروبا شمال غرب البوسنة، لأسرة عريقة في تاريخ الإسلام بالبلقان. وكانت أمه على قدر من الورع والتقوى، فغرست في قلبه حب الإسلام. فعشق القرآن، وخصوصا سورة الرحمن، وهو صبي يافع. ثم أسس مع زملاء له في الثانوية نادي "الشبان المسلمين" وهو طالب، وتوسع النادي فيما بعد ليصبح جمعية ثقافية وخيرية، ويجتذب العديد من طلاب جامعة سراييفو التي درس فيها علي عزت القانون، وأدت الجمعية خدمات اجتماعية جليلة خلال الحرب العالمية الثانية.

وحينما احتلت النازية الألمانية مملكة يوغوسلافيا وأحالتها جمهورية فاشية، قاطعت جمعية الشبان المسلمين النظام الفاشي، وضايقها هذا النظام فحرمها من الشرعية القانونية. تخرج علي عزت محاميا، وجهد في إتقان اللغات الأوروبية الأساسية، ومنها الألمانية والفرنسية والإنجليزية، كما بنى بجهده الخاص ثقافة رصينة في العلوم الاجتماعية والفكر الإسلامي والأدب حتى أصبح ضليعا بهذه العلوم، كما تشهد به كتبه، خصوصا "الإسلام بين الشرق والغرب" و"هروبي إلى الحرية".

صدرت مجموعة من مقالاته في كتاب بعنوان "البيان الإسلامي" عام 1981، فأثار الكتاب ثائرة السلطة الشيوعية التي رأت فيه نوعا من المناهضة للشيوعية، خصوصا بعنوانه المثير الذي يشبه المناقضة لعنوان "البيان الشيوعي" الذي أصدره كارل ماركس وفريديريك أنغلز عام 1848

متحدي الزحف الأحمر

بدأت محنة المسلمين في يوغوسلافيا تتعمق أكثر بعد الحرب العالمية الثانية، حينما استولى الحزب الشيوعي بقيادة جوزيف تيتو على السلطة، وفرض نظاما قمعيا مناهضا للإسلام، واعتقل عددا وافرا من قادة المسلمين وأعدم العديد منهم. أما جمعية الشبان المسلمين، ذات المنهج الثوري واللغة السياسية الصريحة، فكانت الوطأة عليها أقوى؛ فاعتقل منها النظام الشيوعي نحو الألفين؛ منهم علي عزت، الذي مكث في السجون الشيوعية 5 أعوام (1949-1954). وبعد خروجه من السجن بدأ العمل محاميا عام 1962، وواصل عمله الفكري الإسلامي من خلال الكتابة المنتظمة في مجلة "تاكفين" التي كانت تصدرها جمعية العلماء المسلمين في يوغوسلافيا.

وصدرت مجموعة من مقالاته في كتاب بعنوان "البيان الإسلامي" عام 1981، فأثار الكتاب ثائرة السلطة الشيوعية التي رأت فيه نوعا من المناهضة للشيوعية، خصوصا بعنوانه المثير الذي يشبه المناقضة لعنوان "البيان الشيوعي" الذي أصدره كارل ماركس وفريديريك أنغلز عام 1848، وأصبح "إنجيل" الحركة الشيوعية.

حوكم علي عزت محاكمة صورية وحكم عليه عام 1983 بالسجن 14 عاما، فمكث 5 سنوات كالحة في السجون الشيوعية للمرة الثانية. ومع انهيار الشيوعية عام 1989 خرج من السجن بعد إعادة محاكمته وتبرئته، وبدأ العمل السياسي في أجواء الانفتاح الجديد؛ فأسس حزبا سياسيا، وفاز برئاسة جمهورية البوسنة طيلة عقد من الزمان (1990-2000). ثم رحل عن عالمنا عام 2003، مخلفا ذكرى عطرة وأثرا لا يندثر.

كان علي عزت أبيا في تواضع، صلبا في حكمة. صمد في السجن أمام الإغراء والإغواء، وصبر خارج السجن في البأساء والضراء. جمع بين العلم والعمل، بين الفكر والالتزام بالقضية

قاهر بربرية الحضارة

تفاءل مسلمو البوسنة بسقوط الشيوعية خيرا، وحسبوا أنهم دخلوا عالم الحرية الموعودة التي طالما انتظروا إسفار فجرها على بلدانهم. بيد أن عدوا جديدا أطل برأسه القبيح، فكان أبشع من الشيوعية وأكثر دموية، وهو الفاشية الصربية، التي سعت إلى استئصال الإسلام من يوغوسلافيا، مدفوعة بأحقاد دفينة ترجع إلى ميراث العصور الخوالي من الصراع بين المسلمين الأتراك والمسيحيين السلافيين في البلقان. وقد تواطأت أوروبا مع الصرب بحصار المسلمين وحرمانهم من أي سلاح يمكنهم من الدفاع عن وطنهم المستباح. وبينما كان المسلمون يبادون كان بعض القادة الأوروبيين يتحدثون عن خطر وجود "دولة إسلامية" في أوروبا، وكان على علي عزت أن يقود شعبه في معركة موت أو حياة، انتهت باستقلال البوسنة، لكن بعد تضحيات جسام، وبحور من الدماء.

كان علي عزت أبيا في تواضع، صلبا في حكمة. صمد في السجن أمام الإغراء والإغواء، وصبر خارج السجن في البأساء والضراء. جمع بين العلم والعمل، بين الفكر والالتزام بالقضية. كان شديد الذكاء، عظيم الشجاعة، لكنه كان يقدر الشجاعة أكثر من الذكاء، وقد كتب يقول: "لم يغن الشعب للذكاء، وإنما غنى للشجاعة… لأنها الأكثر ندرة". وفي أحلك المحن التي واجهها ظل علي عزت ذلك الرجل ذا القلب الكبير الذي لا يحمل حقدا حتى ضد أعدى أعاديه. وقد كتب عن نفسه بحق: "لا كراهية لدي، وإنما لدي مرارة"، "لا أتذكر أني احتقرت أحدا".

ولم يكن يرى العدالة انتقاما، بل إرجاعا للأمور إلى نصابها، مع العفو والصفح حالما يرتفع الظلم عن المظلومين. وفي ذلك يقول: "الطريقة الوحيدة للانتصار على الظلم هي التسامح… أليست كل عدالة ظلما جديدا؟". وبهذا العقل الواسع والقلب الكبير قهر علي عزت بربرية الحضارة التي أرادت استئصال شعبه تحت سمع وبصر العالم.

علمته محنة السجن الكثير. وكان يكتب بعض الخواطر وهو سجين، ويخفيها عن أعين سجانيه. ونشرت هذه الخواطر فيما بعد ضمن كتابه "هروبي إلى الحرية"

عاشق الحرية السجين

كان علي عزت عاشقا للحرية التي يراها جوهر إنسانية الإنسان، كما كان يرى الدكتاتورية أعدى أعادي الإنسان. وكان يعتبر ملكة التفكير مصدر قوة الكائن البشري ومنبع حريته التي لا تستطيع قوة القهر المادي سلبها. ولذلك كتب متحدثا عن نفسه في السجون الشيوعية: "لم أستطع الكلام، لكني استطعت التفكير. وقررت استغلال هذه الإمكانية حتى النهاية." وقد حاولت السلطة الشيوعية استدراجه إلى نوع من المساومة على مبادئ الإسلام والحرية فلم تجد منه سوى الصدود والإباء.

كتب في دفتره المخفي بالسجن: "اليوم هو 27 فبراير/شباط 1987، وهو يوم قليل الإثارة. طلبوني في الصباح لإدارة السجن واضطربت، لأنه لم يكن وقت زيارة. وفي غرفة اللقاءات وجدت ليلى وسابينا (ابنتيه) بوجوه مرحة. أرادتا فورا وربما على المدخل أن تقولا أن لا شيء مكروها قد حصل. ثم تحدثتا لي كيف أن نيكولا ستويانوفيتش رئيس لجنة الاسترحام في رئاسة جمهورية البوسنة اقترح استدعاء للاسترحام، وسيتم الإفراج عني. وكان الوسيط زدرافكو جوريتشش سكرتير اللجنة آنذاك هو زميل ليلى في الدراسة، الذي كتب الاستدعاء. وقرأت النص، ولم أوقع، واستمر السجن". لقد طلبوا منه التوقيع على استرحام من سجانيه، وعلى التزام باعتزال السياسة والشأن العام، فرفض بإباء، ومكث في السجن عامين آخرين جراء ذلك.

وقد علمته محنة السجن الكثير. وكان يكتب بعض الخواطر وهو سجين، ويخفيها عن أعين سجانيه. ونشرت هذه الخواطر فيما بعد ضمن كتابه "هروبي إلى الحرية". وهي تدل على إيمان راسخ، وعقل ثاقب، وفهم عميق للحياة وابتلاءاتها. وفي اثنتين من هذه الخواطر كتب: "السجن يقدم معرفة يمكن أن يقال عنها إنها مؤلمة للغاية"، "يعاني الإنسان في السجن من نقص في المكان وفائض في الزمان".

أسهم علي عزت إسهاما جليلا في الفكر الإسلامي والإنساني من خلال كتبه، وأهم هذه الكتب هي "الإسلام بين الشرق والغرب" و"هروبي نحو الحرية" ثم "البيان الإسلامي"

حامل الرسالة الإنسانية

كان علي عزت بيغوفيتش إسلاميا في العمق، لكن بأفق إنساني رحب. ويحتار المطالع لتراثه من سعة اطلاعه على الثقافة الإنسانية. فهو ضليع في الفلسفة، والأديان، والقانون، والتاريخ، والأدب، والرسم. وتدل هوامش كتبه وثراء استشهاداته وملاحظاته على اطلاع مذهل على ثمرات الفكر الإنساني في الشرق والغرب، وعقل منهجي ناقد لما قرأ، متمثل له في ذاته. وكان يرى أن ركام المعلومات من غير هضم عبء على حامله، وليس من المناسب تسميته معرفة أصلا. وقد كتب في ذلك: "المعرفة المفرطة تخنق أحيانا الفكرة الإبداعية… يمكن للإنسان أن يمتلك المعرفة في عدة مجالات، لكن من غير تنظيم ودون رؤية… الكثير من المتعلمين عاشوا وماتوا دون معرفة حقة… كومة من المواد الجيدة دون مخطط تبقى كومة فقط".

أسهم علي عزت إسهاما جليلا في الفكر الإسلامي والإنساني من خلال كتبه. وأهم هذه الكتب هي "الإسلام بين الشرق والغرب" و"هروبي نحو الحرية"، ثم "البيان الإسلامي". آمن إيمانا عميقا بالإسلام رسالة إنسانية، تحتاجها البشرية اليوم بشدة. وقد قدم الإسلام بصفته طريق الوسطية بين المادية العمياء التي تغلف الأفق الإنساني وتحجب رؤيته، والروحانية العرجاء التي تؤصل الانهزامية والانسحاب من معركة الحياة.

فالإسلام هو "الطريق الثالث" كما يدعوه علي عزت، الطريق الذي لا يشطر الذات الإنسانية شطرين، بل يصوغها صياغة متزنة، تجعلها قادرة على التوفيق بين واقعها المتناهي وأفقها اللامتناهي. فالروحانية الواقعية هي أهم سمات الإسلام، والإنسان الكامل في الإسلام -كما يراه علي عزت- ليس القديس، بل المؤمن الواقعي القوي، الملتزم برسالته الاجتماعية ودوره في الحياة. ولو فهمنا الإسلام حق الفهم -يقول علي عزت- فسنجد أن الإنسان الواقعي الملتزم أعظم من القديس، وأن ذلك هو السر وراء أمر الملائكة المعصومين بالسجود لآدم الخطاء.

رحم الله علي عزت بيغوفيتش.. قاهر بربرية الحضارة بإيمانه الإسلامي وأفقه الإنساني.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق