«في أروقة المحن».. «محمد علي والبلاط الأجنبي»
استحدثت سطلة محمد علي عددًا من الإجراءات التي كان جماعها فتح أبواب الهجرة الأجنبية إلى الشام وإلى بيت المقدس على وجه الخصوص،
وذلك عبر الرفع الدائم من شأن الأجانب الذين اتسع نفوذهم اتساعًا واسعًا
وصارت لهم الكلمة العليا في معظم شؤون الحكم ما مثَّل انقلابًا حقيقيًّا في ميزان العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين الأجانب وبين أهالي البلاد.
لقد كان بلاط محمد علي أجنبيًّا، وكان رجال حكمه من الأجانب، الفرنسيين خصوصًا،
وكانت دولته محسوبة على فرنسا في الصراع العالمي بين الإنجليز وفرنسا ذلك الوقت،
وقد نقل المؤرخ إلياس الأيوبي المعجب بمحمد علي أن لفرنسا يد في توليته حكم مصر،
إذ لما فشلت حملة نابليون أرادت فرنسا أن تبحث في العساكر العثمانيين عن رجل تمهد له حكم البلاد فيكون رجلها،
فقام تييه ديليسبس القنصل الفرنسي بهذه المهمة بالضغط على السلطان لتوليته حاكمًا لمصر،
ولا ينقص هذا من مهارة ودهاء محمد علي الذي أدار معركته بين القوى المصرية حتى جعل نفسه مطلبها الذي أصرت عليه في وجه السلطان العثماني.
ولئن كان مفهومًا كثرة الفرنسيين في بلاط محمد علي إلَّا أنَّ المثير للشكوك هو استكثاره من اليهود،
فلقد كانت نظرته العملية وتطلعاته الإصلاحية كانت في صالح اليهود، فلقد استخدم اليهود في الإدارة،
وحررهم من الابتزازات المالية التي فُرِضت عليهم في الماضي، بل إنه شجع هجرة اليهود إلى مصر،
واليهود من ناحيتهم لم يتأخروا بل بدؤوا في التدفق على مصر ليشاركوا بقوة في النشاط الاقتصادي،
حتى صارت مصر الموضع الوحيد في الدولة العثمانية التي فيها شارك اليهود بشكل كامل في حركة الإصلاحات بتحفيز من ذلك المستبد (محمد علي).
انعكست هذه السياسة على الوضع في الشام، فقد اتخذ إبراهيم باشا عددًا من الإجراءات التي قلبت الموازين، من أهمها:
تشجيع الحجاج اليهود والنصارى على التدفق إلى بيت المقدس.
ما إن دخل إبراهيم باشا إلى بيت المقدس حتى أذاع أمرًا عامًا، وجهه إلى قاضي القضاة وشيخ مسجد عمر والمفتي والنائب وسائر السلطات،
أزال به كل الضرائب التي كانت تؤخذ من الحجاج المسيحيين واليهود إلى بيت المقدس،
هذا نصه:
«في القدس معابد وأديرة وأماكن للحج تأتي إليها من أبعد البلدان كل الشعوب المسيحية واليهودية من مختلف الطوائف الدينية.
وكانت ترهق هؤلاء الحجاج إلى الآن ضرائب ضخمة في أداء نذورهم وفرائض دينهم.
ورغبة منا في استئصال هذا العسف، نأمر كل متسلمي إيالة صيدا وسنجقيْ القدس ونابلس بإلغاء هذه الضرائب على كل الطرق بلا استثناء.
يقيم في أديرة القدس وكنائسها رهبان ومتعبدون لقراءة الإنجيل وأداء الطقوس الدينية لمعتقداتهم.
والعدل يقتضي أن تعفى من كل الضرائب التي فرضتها عليها السلطات المحلية بشكل تعسفي.
ولهذا نأمر بأن تلغى إلى الأبد كل الضرائب التي تُجبى من أديرة ومعابد كل الشعوب المسيحية المقيمة في القدس من يونانيين وفرنجة وأرمن وأقباط وغيرهم،
وكذلك الضرائب القديمة والجديدة التي يدفعها الشعب اليهودي. ومهما كانت الذريعة أو التسمية
التي تؤخذ بها هذه الضرائب هدية عادية وطوعية أو إلى خزينة الباشوات أو في مصلحة القضاة والمتسلمين والديوان وما شابه ذلك،
فإنها جميعًا ممنوعة منعًا باتًّا. وتلغى على حد سواء الكفارة
التي تجبى من المسيحيين عند دخول كنيسة قبر السيد المسيح أو عند التوجه إلى نهر الشريعة (الأردن).
وعليكم، ما إن نقرأ هذا البيورلدي (الأمر)، أن تسارعوا إلى تنفيذه كلمة كلمة،
وتوقفوا فورًا جباية كل الضرائب المذكورة أعلاه وغيرها من الضرائب القائمة على العادة وكل مطلب من أديرة القدس
ومعابدها العائدة إلى مختلف الشعوب (الأديان), المسيحية واليهودية، شأن الكفارات، كأمر مناف للقانون.
بعد إعلان هذا الأمر سيُعاقب بصراحة كل من يطلب أقل إتاوة من المعابد والأديرة المذكورة والحجاج».
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق