رمضان، ككل المواسم في حياتنا، والقيم الجميلة، تجري هذه الأيام عملية تسليعه واختطافه بشكل متوحش، حتى أنني، في كل رمضان، تنتابني مشاعر متضاربة، بعضها سيئ جدا، كلما اقترب، ليس كرها في موسم الخير هذا، بل انزعاجا ممّن يحوّله إلى محض "سلعة" لبيع منتجاتٍ رديئة، بل فاسدة وسامّة أحيانا، تتسلّل إلى وعي المواطن العربي ولاوعيه، على أيدي طفيليّات تجيد تشويه كل جميلٍ في حياتنا.
ليس رمضان استثناءً من حالة الاختطاف التي نعيشها في هذه الحقبة، حتى أنك تشعر أن مختطفي الشهر الكريم من الكثرة والتنوّع بحيث اختلط علينا الأمر، أيهم على حقّ وأيهم على باطل. ليست العبادات والمواسم الدينية مناسبات دينية فقط، بل لها جوانب دنيوية: "ليشهدوا منافع لهم"، والمنافع هنا في العاجلة والآجلة، دنيا ودينا، ولا حرج، لكن ما يستفزّ المرء حين يتسلّل تجّار النخاسة تحديدا إلى مواسمنا، فيسمّمون مشاعرَنا إلى حد "يكرّهوننا" بواحدة من أجمل العبادات في ديننا: الصوم، فهو ممارسةٌ دينيةٌ طبيةٌ إنسانيةٌ راقية، فيها من الفوائد ما عرف وما لم يعرف بعد، بل دخل الصوم قاموس الطب الحديث علاجا لكثير من أمراض الروح والجسد. ومع هذا، بتنا نشعر بضيقٍ ما مع حلول الشهر الكريم، لكثرة تزاحم "المنتفعين" والتجار ومنتهزي الفرص، مع العُبّاد والمتقين وطُلّاب المغفرة.
أكثر ما يستفز في "تقاليد" استقبال رمضان، استنفار قنوات التلفزة وتسابقها لملء ساعات بثها بما "لذّ وطاب!" من برامج الفجع وحكّ شهوة البطون، والتفنّن في استقطاب كبار الطهاة، لتقديم أطباق يقال إنها رمضانية، وهي بريئةٌ من هذه الصفة، لأنها لا تعدو كونها ضربا من الإسراف والبذخ الفاحش والفجع المنفلت من أي عقال، الذي هو بالتأكيد ضد الصوم ومناقض له، ويرافق هذا نشاطٌ محمومٌ لنوع آخر من مختطفي رمضان، وهم التجار الذين يجدون في الشهر موسما ثريا لتسويق بضائع كاسدة، أو منسيّة في مستودعاتهم، وتحقيق أرباحٍ فاتتهم في أشهر أخرى، مستثمرين لعاب الجوعى من الصائمين الذين يدمنون التسوّق، ولا دليل لهم في الشراء غير ذلك اللعاب السائل، وشهوة المعدة، التي يتقن حكّها تجار محترفون، يعرفون كيف يسحبون المشترين من ألسنتهم.
كان رمضان عبر التاريخ الإسلامي شهر تحرّر وانعتاق من شهوات النفس
الفئة الأكثر استفزازا من مختطفي رمضان، تجار النخاسة من "أهل الفن"، وليس الفن كله كذلك، بل فئة ضالة مضلّة، تتفنّن في حشو ساعات بث القنوات إياها بمسلسلات وأفلام بينها وبين رمضان وأجوائه سنوات ضوئية، بما تشتمل عليه من إسفاف وتزييف للتاريخ، واستنفار للشهوات وهدر للوقت بحجة "الترفيه" عن الصائم الغلبان، وهي في الواقع تسرق منه وقته وتقواه ودينه ودنياه، ولا يعود عليه من فائدة جرّاء مشاهدتها إلا ما يعود على مستهلك الخرّوب: درهم حلاوة وقنطار من الخشب، وهذا في أحسن الأحوال، إذ ربما لا تزيد الفائدة المتوخّاة من بعض الأعمال "الفنية" المعروضة في رمضان عن أكل الصائم الزقّوم والعلقم الذي هو حاصل جمع ذلك الفيلم أو المسلسل. وليت الأمر يقتصر على هذا، بل ربما نشهد في موسم الخير هذا منتجاتٍ "فنية" تعمل على تشويه الوعي، وتدمير الخيرية في النفس البشرية، بل يتعدّى الأمر إلى بيع قيم ووقائع وروايات كاذبة لتاريخ قديم أو حديث، يزخر بالسم والكذب، وهو أمرٌ في غاية القبح والبشاعة، فيما تغيب قضايا الأمة الخطيرة، كقضية فلسطين، عن الموضوعات التي تطرحها الأعمال الفنية، خصوصا وأن من يسيطر على "سوق البثّ" شبكات كبرى تأتمر بمزاج أنظمة حكم شمولية، باتت ترى في فلسطين وقضيتها، نوعا من محفّزات التحرّر الذاتي والوطني، التي تقتضي مصلحتها إبعادها عن وعي المشاهد العربي، لصالح ملء وعيه بتوافه "الترفيه" الفارغ من أي مضمونٍ نظيف.
ربما أسوأ من "يُسلّع" رمضان، وينتهك حرماته، فئة مذمومة من "تجّار الدين"، و"نجوم الوعظ!"، الذين ينتظرون حلول الشهر الكريم لتسويق بضائعهم هم أيضا، من باب أن الموسم موسم عبادة ودين وتقوى، ليستعرضوا على عباد الله مواهبهم في الحفظ وإعادة ترديد ما سمعناه ملايين المرّات، حتى إذا تعرّض أحدهم لموقف "وطني" استحقّ بعض الرجولة اختفى مدّعيا أنه لا يفهم بالسياسة، أو اصطفّ في جانب الظلمة والطواغيت، هذه الفئة من مختطفي رمضان هي الأكثر إيذاءً له كموسم جهاد ومجاهدة وعبادة، فرمضان كان عبر التاريخ الإسلامي شهر تحرّر وانعتاق من شهوات النفس، ومناجزة للطواغيت وأعداء الإنسان، فكيف يتحوّل عند هؤلاء إلى مجرّد موسم لجني المتابعين وتجميع الأرباح وممالأة السلطة، وبيع شرعيّتها للعامّة، وهي من تنتهك لا حرمة رمضان فحسب، بل حرمة الأمة وحريتها؟
أخيرا... ثمّة نوع من الخاطفين، دخلوا على الساحة حديثا، حيث يجتهدون في خطف جانب معيّن من رمضان، باعتباره شهرا يتحفّز فيه المؤمن لمجاهدة النفس والأعداء، ومهمّة هؤلاء صرف هذا المؤمن عن مجالدة عدوه ومجاهدته، للحفاظ على "تهدئة!" كاذبة، وذلك بطرق عدّة، أكثرها شيطانية ضرب قوى الشعب بعضها ببعض، حفاظا على "مشروع وطني!" بات لكثرة ما عُدّل عليه محض "مسخٍ" غير وطني، ولا إنساني حتى، ويكفي أن تقارن "مخرجات" مؤتمري العقبة وشرم الشيخ الساعيين إلى حماية كيان العدو من المقاومة، مع ما يجري على الأرض من عدوان للاحتلال، حتى تعرف فداحة ما يفعله هؤلاء الخاطفون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق