من أين يبدأ الكفاح ضد الإسلاموفوبيا؟
في البداية، من الضروري فهم "الإسلاموفوبيا" أو ما يعرف باسم "رهاب الإسلام"، ذلك المصطلح الذي يُشير إلى التحامل والكراهية والخوف من الإسلام والمسلمين. دخل هذا المصطلح الاستخدام في اللغة الإنجليزية عام 1997 عندما أقدمت خلية تفكير بريطانية يسارية تُدعى "ريميند تريست" على إدانة مشاعر الكراهية والخوف والحكم القبْلي على الإسلام والمسلمين، وتعرض المصطلح وقتئذ لانتقادات شديدة.
"الإسلاموفوبيا" كلمة مستحدثة تتكون من شقين: الإسلام، وفوبيا، و"فوبيا" هي لاحقة يُقصد بها الخوف والرهاب غير العقلاني من شيء يتجاوز خطره الفعلي المفترض. وقد عرف باحث الدين المقارن السويدي ماتياس غارديل المصطلح على أنه "الإنتاج الاجتماعي للخوف والتحامل على الإسلام والمسلمين بما في ذلك الأفعال الرامية إلى مهاجمة أشخاص أو التمييز ضدهم أو عزلهم بناء على افتراضات ارتباطهم بالإسلام والمسلمين".
كما هو واضح، فإن هذا المفهوم يتضمّن داخله عنصر "الخوف" وهذا في حد ذاته قد يكون مضلّلًا في تفكير كثير من الناس عند التعامل مع المصطلح. نقول دائمًا إن من غير المبرر مساءلة الناس أو حسابهم بسبب مخاوفهم، لأنها في كثير من الأحيان تنشأ بسبب تجاربهم الشخصية وما ينتج عنها من تصورات عقلية جعلتهم يتبنّون مواقف معينة. لكن السؤال الذي يجب أن نسأله اليوم يتعلق بالتصورات التي نشأت عند كثير من الناس عن الإسلام والمسلمين هل تكونت بالفعل نتيجة تجارب خاضوها أم إن الآلة الإعلامية لها دور كبير في تزايد هذا الخوف وتصاعده؟
هناك ملايين من الأشخاص لم يلتقوا في حياتهم مسلما، ومع ذلك لديهم صورة خاطئة عن الإسلام ويعتقدون أن المسلمين "متعطشون للدماء من أجل ترسيخ معتقداتهم المتعصبة، ويقطعون الرؤوس دون أن يرفّ لهم جفن، ويتصرفون مثل الوحوش، ويقصفون هنا وهناك بوحشية، ويتسببون في مقتل المدنيين والأبرياء".
الصورة السلبية عن المسلمين التي تروّج لها اليوم أخبار كثيرة كاذبة في العالم تكوّن لدى الناس فكرة سطحية عن الإسلام والمسلمين. ومع أن هذه الصورة أبعد ما تكون عن الحقيقية، إلا أنها -للأسف- كافية لتوليد "الخوف".
بطبيعة الحال، إن المسؤولين عن هذه التصورات الخاطئة ليسوا أصحاب هذه المخاوف وإنما من أثارها في أنفسهم عن طريق الأفكار والصور المضللة. ومصدر الإسلاموفوبيا ليس أولئك الذين يمكن أن يخشوا هذه التصورات، بل من تتولد لديهم مشاعر الكراهية نتيجة الخوف؛ سوف يشعر الناس بالذعر عند رؤية مثل هذا العنف المزعوم.
الحقيقة أنه لا فائدة من انتقاد الناس لمجرد أنهم خائفون. وفي اعتقادي، لا يمكن أن يكون مصدر الإسلاموفوبيا هؤلاء الأشخاص الذين أصبحوا أهدافًا أو حتى ضحايا لصناعة الخوف. كل ما يحتاجه هؤلاء الناس هو "الوعي" وأن تصل إليهم الحقيقة المطلقة عن الإسلام وأهدافه وتصوراته، عن المسلمين وعقيدتهم السمحة وقدرتهم على التعايش مع العديد من الثقافات على مر الأزمان.
أظهرت أرقام الاستطلاع لمعهد "إيفوب" في عام 2019 أن أعمال التمييز والاعتداءات ضد المسلمين في فرنسا تتزايد كل يوم مقارنة بأصحاب الديانات الأخرى.
صناعة الإسلاموفوبيا
تشارك في صناعة الإسلاموفوبيا مراكز أبحاث وسياسة واتصالات ومؤسسات إعلامية تنتج هذا الخوف وتلفق وتنشر هذه الأخبار بدقة. وفي هذه الصناعة يعدّ كل من المستهلكين والمستخدمين النهائيين ضحايا. وأول ضحايا الإسلاموفوبيا ليسوا المسلمين كما يُعتقد، بل الفئات المحرومة من رسالة الإسلام ولا تعرف عنه شيئا، ومن ثم يسهل وقوعها فريسة للتعصب والخوف.
بالطبع، هذه الفئات لا تدرك هذا الحرمان ولا تتعرض للإيذاء المباشر من الإسلام، المسلمون هم من يكونون هدفًا لهجوم الكراهية في جميع أنحاء العالم في أي وقت، وللأسف هذا الهجوم قد يقع على أيدي هذه الفئات التي تعرضت للتجهيل على مدار سنوات فترتعد خوفًا، فيأتي بعضهم هذه الأفعال الشائنة ضد المسلمين.
أكثر فئات المسلمين تعرضًا للعنصرية المسلمات اللواتي يتعرض لتمييز مضاعف في المجتمع غير المسلم على أساس الجنس والهوية العرقية والدين.
تروي الأستاذة الفرنسية السابقة نشاندا النيجيرية الأصل أنها عانت من الإسلاموفوبيا والعنصرية في مدراس فرنسا، قائلة إنها تخلّت عن مهنة التدريس التي تحبها تحت ضغط الإدارة وتنمّر زملائها، وذلك بعد إعلان إسلامها وارتدائها الحجاب. تسبب تواتر هذا السلوك العنصري نحوها والتضييقات في دخولها حالة اكتئاب شديدة، قبل أن تتخلى عن التدريس وتنشئ مشروعها الخاص.
تقول: "كانت الأمور تسير على ما يرام في المعهد الذي أدرّس فيه حتى قررت الالتزام بارتداء الحجاب، فتغيرت نظرة الإدارة لي وسلوكها نحوي، وتغيرت معاملة أغلب زملائي لي بعدما علموا بالتزامي الديني ولاحظوا حرصي على ارتداء الحجاب خارج المدرسة".
وتضيف المدرّسة الأربعينية "أصبح المدير يقتحم علي قاعة التدريس فجأة بتعليلات واهية، وأحيانا أخرى يرسل من يراقبني من بعيد، وفي الاجتماعات الدورية كان يلمح ويصرح بأن مناهج التعليم في فرنسا مناهج علمانية بحتة، وأن إدارة المعهد لا تتسامح أبدا مع أي أستاذ يحاول التأثير على التلاميذ بأفكاره الدينية المتطرفة أو بلباسه الإسلامي وسلوكه".
أظهرت أرقام الاستطلاع لمعهد "إيفوب" عام 2019 أن أعمال التمييز والاعتداءات ضد المسلمين في فرنسا تتزايد كل يوم مقارنة بأصحاب الديانات الأخرى.
وكشف الاستطلاع أن 40% من العينة كانوا ضحايا لسلوك عنصري، وأن 48% تعرضوا لشكل من أشكال التمييز خلال التعليم في المدارس، وأن 13% أكدوا تعرضهم للتمييز من قبل الشرطة عند التحقيق معهم، و17% تعرضوا للمعاملة نفسها عند البحث عن عمل، و14% تعرضوا للعنصرية والتمييز عند بحثهم عن مسكن.
من جهة أخرى، بيّن الاستطلاع أن النساء أكثر عرضة للتمييز والعنصرية من الرجال، فنجد أن نسبة النساء بلغت 46% في مقابل 38% من الرجال، فضلا عن أن أعمال التمييز ضد النساء المحجبات بلغت نسبة 60% مقارنة بالمسلمات غير المحجبات، إذ بلغت نسبتهن 44%، ولا سيما خلال رحلة البحث عن وظيفة.
كما أشارت نتائج الاستطلاع إلى تعرض 37% من النساء المحجبات للشتائم والإهانات اللفظية والتشهير، وفي ما يتعلق بالحياة المهنية أوضح الاستطلاع أن 63% من المديرين التنفيذيين المسلمين يعانون من العنصرية مقابل 34% من العمال.
تاريخ الإسلاموفوبيا الحديث
ازدهر مفهوم الإسلاموفوبيا في مطلع العقد الأول من الألفية الثالثة وتحديدا إثر هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 التي وقعت في الولايات المتحدة وتبنّاها تنظيم القاعدة، وأحدثت تحولا نوعيا في واقع العلاقات الدولية واحتُلّ إثرها بلدان إسلاميان هما العراق وأفغانستان.
وقد أعاد ذلك طرح إشكالية المواجهة بين الإسلام والغرب التي بشَّر بها عددٌ من المفكرين الغربيين المتصهينين منذ نهاية الحرب الباردة، إذ روّجوا لبروز الإسلام باعتباره عدوا جديدا للغرب بدلا من الشيوعية ممثلة في الاتحاد السوفياتي، وروَّج بعضهم لفكرة انتهاء "الخطر الأحمر" الشيوعي وبروز "الخطر الأخضر" الإسلامي.
نما مع ظهور الإسلاموفوبيا -في كثير من الأقطار الغربية- خطابٌ سياسي يميني متطرف يسعى سعيا حثيثا إلى استثمار الوضع الدولي المترتب على هجمات 11 سبتمبر/أيلول وما اتسم به من خطاب إعلامي معاد للإسلام، والواقع الاجتماعي في الغرب وما يُميزه من مشاكل الهوية والاندماج بخاصة للمسلمين والعرب.
تجلّت نتائج هذا الخطاب في تنامي الأعمال العدائية ضد المسلمين والعرب وفي انتهاك حرمة المساجد ومقابر المسلمين التي تعرضت للتدنيس في أكثر من مناسبة، كما ظهرت مجموعات من شبان اليمين تعتدي على نحو منظم ومنهجي على المسلمين في شوارع المدن الأوروبية وأزقتها كلما سنحت لها سانحة.
وفي ضوء هذه العوامل، نشأ شعورٌ عنصري مناوئ للمسلمين والعرب وللإسلام، أذكاهُ الجهل المستحكم بالإسلام لدى فئات واسعة من المجتمعات الغربية، وخطابٌ محرض لدى بعض وسائل الإعلام وآخر متهافت وجاهل بالإسلام لدى أكثر المنابر الإعلامية اعتدالا.
اليوم العالمي للإسلاموفوبيا
في عام 2022 أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 15 مارس/آذار يومًا عالميا لمكافحة الإسلاموفوبيا، مؤكدة الحاجة إلى اتخاذ إجراءات ملموسة في مواجهة تزايد الكراهية والتمييز والعنف ضد المسلمين.
وقد وصف المبعوث التركي الدائم لدى الأمم المتحدة سادات أونال ظاهرة الإسلاموفوبيا في العالم بأنها "تهديد حقيقي ومتزايد".
جاء ذلك في كلمة ألقاها يوم الجمعة في فعالية رفيعة المستوى لإحياء اليوم الدولي الأول لمكافحة كراهية الإسلام "الإسلاموفوبيا" في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وقال أونال إن "الإسلاموفوبيا تهديد حقيقي ومتزايد، ويواجه المسلمون مظاهر مختلفة من الجرائم المعادية للإسلام والكراهية على الرغم من إسهاماتهم الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة في جميع أنحاء العالم". وأشار أونال إلى أن هذا الأمر يسير جنبًا إلى جنب مع "الشعبوية" والاستقطاب اللذين يهيمنان بشكل متزايد على الخطاب السياسي في العديد من البلدان.
وشدّد على أن معاداة الإسلام تغذي النزعات العنصرية وكراهية الأجانب، وأنها أصبحت تشكل تهديدًا أساسيا للديمقراطية. وأكد أونال أنه لا يمكن تبرير هذه الأعمال المثيرة للكراهية تحت ستار حرية التعبير، وأشار إلى أن تلك الأعمال تنتهك الحقوق والحريات الأساسية، مضيفا "يجب أن تبقى القيم والرموز المقدسة بعيدة عن متناول المتطرفين والانتهازيين".
تُعقد مؤتمرات في العديد من الدول اليوم بفضل إدراك هذه الظاهرة. فعلى سبيل المثال، عقد مركز الإسلام والعلاقات العالمية بجامعة صباح الدين زعيم في إسطنبول هذا العام مؤتمره الرابع للإسلاموفوبيا منذ 2018، وقد ضم المؤتمر هذا العام 51 متحدثًا من 12 دولة.
وإلى جانب الاجتماعات السابقة التي تابعت كل منها من كثب، لاحظت أن إحدى أكثر الخطوات فاعلية في مكافحة الإسلاموفوبيا قد اتُّخذت؛ وتتمثل في: إنتاج الخطاب، وإجراء البحوث، والجمع بين الدوائر الأكاديمية والفكرية المهتمة بالموضوع، وإنشاء شبكة من شأنها الضغط على البيئات السياسية والفكرية لجعل صوتها مسموعًا والاحتفاظ بالسجلات وإنشاء أرشيف.
الإسلاموفوبيا في البلاد ذات الأغلبية المسلمة
كان المؤتمر الرابع بعنوان "فحص الأبعاد الثقافية والجيوسياسية للإسلاموفوبيا في معظم البلدان الإسلامية"، وهذا يعني أن أحد مصادر صناعة الإسلاموفوبيا هي البلدان ذات الأغلبية المسلمة.
قد يتساءل البعض: هل الإسلاموفوبيا موجودة في البلدان ذات الأغلبية المسلمة؟ هل فيها معاداة للإسلام؟ بالطبع قد يبدو هذا غريبا، لكن هل ينبغي أن نُفاجأ بما مررنا به منذ سنوات عديدة هنا في تركيا و99% من شعبها مسلمون والتي تخلق الأمل للعالم الإسلامي بأسره هذه الأيام؟ ألم تنجح العلمانية في هذا البلد في إنتاج وترسيخ كل المخاوف المتعلقة بالإسلام بكل أبعادها؟!
عندما نتعمق أكثر، ليس من المستغرب أن نرى أن أكبر مصدر للإسلاموفوبيا هو المجتمعات التي يكون أفرادها من المسلمين. إن الاستعمار الذي تعرضت له هذه البلدان لا يمكن أن يستمر إلا بعد عزل الإسلام عن الحياة السياسية والاجتماعية. بعبارة أخرى، لأن التهديد الأول للاستعمار كان دائمًا الإسلام والمسلمين، فإن مواجهة الإسلام والمسلمين بمشكلة الشرعية مثّل عنصرًا مهمًّا في معادلة القوة الراسخة. لهذا السبب، وجدت صناعة الإسلاموفوبيا موطئ قدم لها في البلدان ذات الغالبية المسلمة.
فقد قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في كلمته التي ألقاها في مثل هذا اليوم العام الماضي، إن الإسلاموفوبيا تواصل الانتشار مثل وباء الطاعون خاصة في الدول الغربية، وتسمّم جميع شرائح المجتمعات ابتداءً من الشارع وصولًا إلى طبقة السياسيين والعاملين والمسؤولين الحكوميين. وشدد على أن محاربة الإسلاموفوبيا المتصاعدة ليست مسألة تخص المسلمين فقط بل الإنسانية جمعاء، مستدركًا أنه خلاف ذلك سيكون من غير الممكن منع الهجمات المعادية للإسلام كالتي وقعت في نيوزيلندا عام 2019 وفي كندا عام 2021.
حدّد الأستاذ سامي العريان، مدير مركز الإسلام والعلاقات العالمية، الذي نظم المؤتمر مع فريقه بجهد غير عادي على مدى 4 سنوات، 4 مجالات تقوم عليها هذه الصناعة:
- الأنظمة الاستبدادية التي تستخدم الإسلام لتحقيق مصالحها الخاصة.
- دور الأجانب أو المستعمرين في خدمة المصالح الاستعمارية الاقتصادية أو الجيوسياسية.
- النخب العلمانية على المستويين الفكري والثقافي.
- الهياكل الراسخة في المجتمعات الإسلامية مثل النظام القضائي، والإعلام، والأوساط الأكاديمية، والطبقة السياسية والبيروقراطية.
كل هذه المجالات تحتاج إلى تقييم منفصل. واليوم تحديدا باتت الحكومات والنخب الحاكمة في الدول الإسلامية تحرّض على الإسلاموفوبيا لكسب القبول والشرعية في الغرب. وهذا هو المصدر الأقوى الذي يغذي المخاوف ويحوّلها إلى كراهية في المجتمعات الغربية التي لم تعتد الإسلام نسبيا.
وبمناسبة اليوم العالمي لمناهضة الإسلاموفوبيا في 15 مارس/آذار، يعقد مركز باكو الدولي للتعددية الثقافية ومركز تحليل العلاقات الدولية أيضًا مؤتمرا بعنوان "الإسلاموفوبيا شكل خاص من أشكال العنصرية والتمييز: تحديات عالمية عابرة للحدود". وبهذه المناسبة نحن الآن في أذربيجان، وسنحاول مشاركة انطباعاتنا عن هذا المؤتمر في مقالتنا التالية.
لن نكف عن المناضلة والكتابة عن ديننا حتى يأتي يوم تتوقف فيه الشعوب والحكومات عن النظر إلى الإسلام باعتباره دينًا "متحجرا" و"منفصلا" ليس لديه ما يشاركه مع الثقافات الأخرى، وأنه بربري غير عقلاني وأحطّ منزلة من الغرب. هذه النظرة هي التي تُستعمل لتبرير الممارسات التمييزية ضد المسلمين واستثنائهم من المجتمع، وهذا ما يجب تغييره ثقافيا حتى تنعم مجتمعاتنا بالهدوء والسلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق