التطبيع السعودي الإيراني.. ملاحظات للنقاش
(مدخل)
السعودية تعيد علاقاتها الدبلوماسية مع إيران بعد سبع سنوات من قطع العلاقات.. الخبر ليس مفاجأة كاملة، برغم أنه معاكس لاتجاه السياسة الإقليمية الرامي لتفكيك العداء العربي الصهيوني ووضع إيران بدلا من "إسرائيل" في موقع "العدو الرئيسي".
ردود الفعل الدولية عبرت عن ارتياح عواصم عربية وأوروبية كثيرة، دعمت في بيانات وتصريحات رسمية الخطوة التي رعتها وأعلنت عنها "بكين"، واعتبرتها نقلة إيجابية تساعد على تخفيف الاحتقان والتوتر في المنطقة لصالح زيادة معدلات التعاون والاستقرار.
هذا المقال لا يناقش مبدأ عودة العلاقات بين البلدين (فالعلاقات بين الدول من الأمور الطبيعية)، لذلك يسعى المقال لفهم مجموعة من المظاهر التي ترتبط بالتحولات العالمية، لأن فهم الأفكار الفاعلة في مرحلة ما، ركن مهم في عملية بناء المواقف والقرارات الصحيحة للدول، كما أنه ضرورة للشعوب لكي تفهم ما يحدث، من غير الخضوع لتأثيرات "طبل البروباجندات الرسمية" الذي يجذب الأحداث في اتجاه واحد يناسب رؤية الحاكمين والمتحكمين.
(1) عكس الاتجاه
كنت أذهب في طفولتي إلى صيد السمك في فرع للنيل مجاور لبلدتي، وفي الغالب كنت أعود بالأفكار وليس بالأسماك، لأنني كنت أنشغل بالتأملات أكثر من اهتمامي بالصيد، ومن نتائج التأملات التي لا أنساها أنني لاحظت تيارات فرعية تتحرك قرب الشاطئ في اتجاه معاكس لجريان النهر!
شغلتني الظاهرة، وتوقفت كثيرا أمام مفارقة أن التيار الرئيسي للنهر باتجاه الشمال (مثلا) لا يمنع وجود حركة للمياه في اتجاهات مختلفة (أسفل وأعلى- للوراء وللأمام- دوامات دائرية)، وأذكر أنني عرفت أن الظاهرة تبدو أكثر وضوحا في أنهار كثيرة حول العالم نتيجة تصادم المد والجزر، مما يؤدي إلى نشوء حركة للماء في اتجاهات لا تلتزم باتجاه النهر..
أعتقد أن هذه الملاحظة هي الأساس الذي جعلني أتفهم وجود تعارضات في السياسة وفي التيارات الفكرية، لأن العالم مثل النهر، برغم أنه يتحرك في اتجاه رئيسي إجباري، إلا أن الاتجاه العام لا يمنع وجود مظاهر معاكسة وقرارات تختلف في اتجاهها مع هذا الاتجاه، وهذه ظاهرة تحتاج إلى فهم الأسباب، وعدم التوقف عند وصفها المبسط بأنها "تناقضات" أو "قرارات اعتباطية"..
وإذا فكرنا في فهم التحرك السعودي المخالف لاتجاه "الشرق الأوسط الجديد" الذي يعترف بإسرائيل كقائد إقليمي على حساب "نبذ إيران" وتشكيل تحالف عربي صهيوني للوقوف ضدها، فإن السؤال الأول الذي يخطر ببالنا بعد تعرفنا على تأثير تصادم المد والجزر هو:
* أين المد؟ وأين الجزر؟ وأين الصدام بينهما؟
ببساطة يمكن القول إن الصين تمثل المد وأمريكا تمثل الجزر، وهذه نقطة بارزة يجب أن نضعها في اعتبارنا ونحن نفكر في المواقف الإقليمية والدولية للمستقبل، فلم تعد أمريكا هي الحاكم المهيمن المنفرد، ولم يعد الشرق الأوسط المقبل رهينة يتحكم في مصيرها "طرف وحيد"..
ويمكن التوسع في تفسير هذا التعدد وانعكاسه على قرارات إقليمية أخرى مثل موقف السعودية المضاد لأمريكا في زيادة إنتاج النفط والتوافق مع الروس ضمن "تفاهمات أوبك"، ومثل خروج مصر من اتفاقية الحبوب لصالح التقارب في ملف القمح مع موسكو، ومثل إفساح المجال لتركيا والسير في اتجاه التعاون بدلا من العداء السياسي والإعلامي..
هذا وغيره من المواقف يجب أن يذكرنا بأن العالم في مرحلة تحولات، لا بد وأن تنهي حقبة "الحاكم الواحد" وتحد من تأثيرات التبعية الذليلة لواشنطن، وبالتالي لا بد من تشجيع التعاون متعدد الأطراف حسب ما تقتضي المصالح الوطنية، وليس خضوعا للتحالفات والأوامر المطبوخة في المكتب البيضاوي.
(2) جزر وجذر
أتذكر المشهد المهيب لحشود العتاد العسكري الذي اقتحمت به روسيا حدود أوكرانيا، وأتذكر التعليقات الشعبية التي انتشرت في العالم كله عن "حرف زد" وعن الساعات القليلة التي تسبق سقوط كييف، لكن الأيام مرت ولم تسقط كييف في 6 ساعات، الأيام مرت وانتهت معها أسطورة "حرف زد" وفكرة الاجتياح الشامل من طرف قوي كبير ضد طرف ضعيف وقابل للهزيمة. والأسباب مفهومة طبعا: الاتجاه الرئيسي لاجتياح أوكرانيا لم يحدث بطريقة الإجماع التي حدثت في ليبيا، لكنه حدث على الطريقة السورية: قوتان متعارضتان كلاهما يتحرك في اتجاه مضاد للآخر، لهذا يؤدي التعارض إلى تفعيل قانون شهير يذكرنا بديالكتيك هيجل: كل قوة تحمل نقيضها، والصراع بين النقيضين يفتح الطريق لبديل ثالث يتجاوز الطرفين المتصارعين.
هذا البديل الثالث هو "المستقبل" الذي يجب أن نتعرف عليه، وأن نؤمن بأن وجوده والمشاركة فيه تحتم الاعتراف به، والعمل من أجله، حتى لا نبيع المستقبل ونشتري تحالفات لا بد وأن تزول، وتبعية ستفقد قيمتها ومنافعها، لذلك فإن قرارات مثل قرار عودة العلاقات التركية والإيرانية مع دول الشرق الأوسط، يجب تناولها في إطار فهم منفتح للتحرر من سلطان أمريكا على التابعين، واغتنام التحولات القادمة في بناء علاقات دولية جديدة أكثر نفعا وأكثر انفتاحا على القوى المتعددة التي تسعى لنظام عالمي متعدد الأطراف.
هذه الملاحظة التي تنطلق من فهم الظواهر المصاحبة للمد والجزر، تذكرنا أيضا بأن العالم "الجذري" لم يعد ممكنا كخيار نهائي ووحيد، والمقصود أن المرحلة تثبت لنا في كل يوم أن "الراديكالية الحاسمة" ليست بإمكان أي طرف في العالم مهما بلغت قوته (نموذج اجتياح ليبيا لن يتكرر). وأتذكر أن روسيا أعلنت عن خطئها في ليبيا، وقررت الرد في سوريا، وهو ما تفعله أمريكا في أوكرانيا: القوى المتعارضة لن تسمح بالتنفيذ الكامل لإرادة أي طرف ضد الآخر، ومن هذا التعارض تنشأ مساحة للحركة الحرة (غير الإجبارية)، وسوف يكون من الخطأ للأتباع أن يستمروا في صنع قراراتهم وهم يتحسسون الأطواق الوهمية في رقابهم، بينما أسيادهم يفقدون السيطرة على ما كانوا يملكونه.
وأعتقد أن هذه الحرية التي تتيحها "مرحلة الصدام الدولي" هدية من الزمن للضعفاء والتابعين، وعليهم أن يستثمروها بدلا من الاستمرار في مذلة التبعية والعمالة، وهذا يقودنا بالضرورة لقضية التطبيع العربي "المهين" مع إسرائيل باعتبارها "القائد الميداني" الموكل بإدارة الشرق الأوسط الجديد، فهذا التفكير الانهزامي يجب أن يختفي، بحيث لا نسمح للحديث الإيجابي عن التطبيع مع إيران أن يكون مبررا لقبول التطبيع مع إسرائيل، بحجج التعاون والاستقرار والازدهار وتخفيف التوتر، فإسرائيل "عدو"، بينما إيران "منافس".
وصفة "العداء" ليست مزاجا نفسيا أو كراهية عرقية أو دينية، لكنها مستمدة من ثوابت فكرية وسياسية تقوم عليها دولة عدوانية توسعية لا تخفي سياستها في التهام أرض الغير ومحو هوية شعب وصناعة هوية جديدة، بما يخالف مبادئ النظام العالمي القائم، الذي لا يعترف في "مجراه الرئيسي" بدول تقوم على أسس عنصرية ودينية تضطهد "الأغيار"، بينما الخلاف مع إيران أو تركيا هو خلاف مع مشاريع سياسية لها مصالحها، ولها تحركاتها التي تستهدف الربح في جولات منافسة لا تطيح بالآخر، بل تسعى للانتصار عليه في مباراة، تتبعها مباراة أخرى وجولات تقيدها قوانين المنافسة وليس العداء.
لذلك فإن أي مقارنة بين غيران وإسرائيل، لا بد من إسقاطها، لأن إيران دولة لها حدودها وأجندتها المعلنة، بينما إسرائيل بحدودها المفتوحة ونشأتها العنصرية، فإن وجودها نفسه يجب أن يظل غريبا وغير مقبول في تشكيل المنطقة، لذلك فإن إسرائيل هي الخاسر الأكبر في عودة العلاقات بين الرياض وطهران، ولا يمكن إخفاء خيبة الأمل التي ضربت الداخل الإسرائيلي بعد انهيار مشروع الحلف العربي الصهيوني ضد إيران في وقت سريع ومعاكس للاتجاه.
(3) الموجود والمنشود
أذكركم بخطاب أوباما للعالم الإسلامي في جامعة القاهرة، كان الرئيس الأسود يبشر بعالم جديد يقوم على الحوار ويعالج آثار العداء الغربي للإسلام التي بلغت ذروتها بعد تفجيرات 11 أيلول/ سبتمبر، لكن الاتجاه الذي أعلن عنه "رئيس العالم" لم يتحقق، وكما تحطمت "مركبات حرف الزد" تحطمت أوهام أوباما في صناعة "عالم جديد" بقرار فردي لدولة مهيمنة.
وقد فهمت الكثير من أسباب فشل أوباما عندما قرأت مذكرات كاتب الخطاب "بنيامين رودس"، فالشاب الذي يجمع بين الليبرالية المنفتحة والولاء العنصري للصهيونية كان مغرما بالحركة المتناقضة للتيارات، فقد كشف عن احتقار أوباما للعرب وإعجابه بإيران، بينما كان يصيغ العبارات في خطاب أوباما عن السلام والتسامح والمحبة، ويحقق انفراجة في ملف المصالحة مع كوبا بينما يفشل مع رئيسه في إنجاز وعود الدولة الفلسطينية والسلام في الشرق الأوسط، لأن كوبا ليست رهينة في يد إسرائيل والصهيونية العالمية..
لم تكن تناقضات ردوس التي صبغت فترتي حكم أوباما ناتجة عن جهل أو تضارب عشوائي، لكنها تطبيق لمبدأ برجماتي قصير العمر والأثر وضعه رودس في عنوان مذكراته "العالم كما هو". والعنوان يشير إلى اتجاه رئيسي معناه تقديم شهادة عن العالم كما شاهده ردوس بنفسه أثناء فترة صياغته للسياسة الأمريكية مع رئيسه، ويشير المعنى الثاني إلى القول الغربي الشائع "خذ العالم كما هو".. بما يعني عدم مواجهة الاتجاه المطروح ومسايرة كل شيء تفرضه اللحظة، وهذه الواقعية التي تعامل بها ردوس وأدت إلى فشل طموحات أوباما المعلنة، هي الخطأ الذي يجب أن ننتبه له في تحرك السعودية ودول المنطقة، لأن النتيجة ستختلف جذريا، إذا فهمت دوائر صناعة القرار العربي مبدأ الحوار والتقارب الإقليمي باعتباره ضرورة تمسك بقواعد العالم المنشود، عالم الأطراف المتعددة وحرية صناعة القرار المحلي على أساس مصلحة الشعوب.
أما إذا كان الغرض من التقارب تسويقيا، يتوقف عند الرغبة في إنجاح مشروع "نيوم" ووقف الحروب الإقليمية لجذب الزبائن إلى السوق وليس من أجل مبدأ السلام والقيم المستحقة لشعوب عانت طويلا، فإن القرارات الصحيحة ستؤدي للأسف إلى نتائج خاطئة وتحالفات مضرة ببلدان المنطقة..
حتى لا أطيل، فإن خطوة عودة العلاقات السعودية الإيرانية خطوة جيدة، إذا سارت في مسار واضح يستند إلى أسس ينبغي البناء عليها ضمن عملية المشاركة الدولية في بناء نظام عالمي جديد يقوم على الحوار وتجنب الصراعات الراديكالية فيما يخص الخلافات المذهبية والعرقية ومشاكل الجوار، وهو ما يمكن تسميته بإظهار احترام الدول لمبادئ التعايش والسلام والديمقراطية الأممية التي تنشد الاستقرار والازدهار كحق للشعوب، وليس كوسيلة لتوسيع الاستثمارات وجذب الزبائن إلى الأسواق الجديدة.
المقال لن يكتمل إلا بتفكيركم ومناقشاتكم وتطويركم للأفكار الواردة فيه، فعودة العلاقات بين بلدين كبيرين كالسعودية وإيران (أو مصر وتركيا) قد تظل خطوة بروتوكولية تقتصر على تبادل السفارات وحضور الحفلات والقيام بمهام وظيفية تستنزف الرواتب والميزانيات، مع أنها (كالجامعة العربية) لا قيمة كبيرة لها للشعوب، وإما أن تحقق مفهوما صادقا ونزيها لمصلحة المنطقة وناسها، فتوقف الحروب والنزاعات وتحترم الحدود والعقائد والقوانين وتفسح المجال بالفعل لاستقرار وازدهار تحتاج إليه منطقة الشرق الأوسط، لتتحرر من قبضة المشروع الغربي الصهيوني، وإيمانا بالدور الكبير الذي يمكن أن تقوم به آسيا لتفكيك هيمنة واشنطن والمركزية الأوروبية التي دخلت بالفعل في مرحلة "الرجل المريض".. والعبرة أن المفهوم له دور كبير في تحقيق النتائج التي تنتظرها شعوب أجهدها الفقر، والتهمتها النزاعات، واستهلكتها صناعة العداء المحلي، وضللها تغليب الإجراءات على الفهم.
والله معين الصادقين.
tamahi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق