جراح اليمن، من يصنعها ومن يعالجها؟!
صلالة.. اليمن! بعد ثماني سنوات عجاف من الحرب بالوكالة الدائرة في اليمن، بدأت الأمور في الهدوء قليلا هذه الأيام. ولعل أهم عوامل تلك التهدئة هو أن القوات المتحاربة منذ البداية قد فقدت جزءا كبيرا من دوافعها للقتال. إذ كانت الشرارة الأولى لتلك العمليات تسير في طريق آخر، الطريق الذي بدأ مع الربيع العربي حينما خرج الشعب اليمني للمطالبة بحريته وتفعيل إرادته في الحياة السياسية والاقتصادية.
لكن سرعان ما التفت بعض الأطراف على إرادة الشعب وحقه في تقرير مصيره، واتخذت خطوات أضاعت حقوق الشعب وكل ما كان ينشده من الثورة. وبينما كان الهدف المعلن للتحالف الدولي الذي تشكل ضد الحوثيين لمنعهم من دخول صنعاء عبر الطريق الذي فتحه الزعيم المخلوع علي عبد الله صالح عام 2014م، هو تحييد هذا الانقلاب. ومع ذلك رغم أنه فيما مضى لم يكن للحوثيين أن يتقدموا على الأرض مقدار خردلة، تجدهم الآن أكثر استقرارا هناك.
الشعب أقوى في سوريا واليمن..
وكما كررنا مرارا من قبل أن المشكلة اليمنية لم تكن في أي وقت مستعصية على الحل. فإن طول مدة العمليات العسكرية التي أطلقها التحالف واستمرارها لمدة ثماني سنوات دون أن تسفر عن أي نتائج حقيقية مفيدة للشعب اليمني على الأرض، لا يرجع إلى قوة الحوثيين أو ضعف قوات التحالف. بل إن الأرقام والإحصاءات تثبت خلاف ذلك، لكن السبب الحقيقي لذلك هو ضبابية الرؤية من الجانبين بشأن اليمن ومستقبله، إضافة إلى انحراف العملية عن الأهداف التي وضعها الجانبان في البداية، مما جرى بالأمور إلى صورة قريبة جدا من المسألة السورية.
فطول المدة في سوريا كذلك لم يكن ناتجا عن قوة نظام الأسد أو ضعف المعارضة؛ إذ أن الأسد ونظامه كان بالفعل ضعيفا لدرجة كبيرة، وكان الشعب لديه إرادة وتصميم لتحقيق أهدافه التي خرج من أجلها، لكن الأحداث لم تترك للشعب السوري فرصة للتقرير أو المساهمة في وضع الحل.
فكان المحرك الفعال في الأحداث السورية هو القوى الخارجية التي رغم ما اتخذته من إجراءات داعمة للمعارضة في البداية، لكنها حرصت على إبقاء مستوى دعمها عند حد الكفاف الذي ـ لو جاز أن نقول لا يسمن ولا يغني ـ لا يكفي للمعارضة للوصول إلى نتيجة حقيقية على الأرض. بعبارة أخرى، كان حريصًا جدًا على ألا يتسبب دعمه في الإطاحة بالأسد. الأمر الذي يدفعنا للقول بأن المشكلة السورية كانت أقرب إلى الحل منذ فترة طويلة إذا رفع هؤلاء أيديهم الظاهرة والخفية عن الساحة وتوقفوا عن تقديم الدعم لطرفي النزاع.
ومع الأسف، يتم تطبيق نفس السيناريو في اليمن؛ حيث إرادة وسعي حثيث من قِبل الشعب اليمني للاستقلال ونيل الحرية الوطنية في وعي وشجاعة وتحركات وقوة مقاومة غير مسبوقة. لكن من الواضح أن هناك من يحول بينهم وبين الوصول إلى حل لمشاكلهم الداخلية. وقد بلغ الحد أنَّ قوات المقاومة اليمنية التي تضفي الشرعية توقفت عن المطالبة بأي دعم خارجي، ولو انسحبت الأطراف الخارجية من المعادلة واعتمد الداخل اليمني على نفسه فسيتمكن الشعب من تغليب إرادته والفوز بمطالبه التي ينشدها..
إِياك تجني سكرا مِنْ حَنْظَلٍ..
وبسبب تلك الاضطرابات فإن أهل اليمن السعيد الذي حقا كان سعيدا في الماضي، فلدى الدولة من الإمكانات والموارد لتصبح بسهولة واحدة من أغنى دول العالم بمواردها الطبيعية، يعيشون الآن يكافحون في مواجهة الجوع وتقسيم بلدانهم إلى مقاطعات كونفيدرالية.
فالشعب لديه مشاكل وتحديات تفوق الجبال، وليس هناك من يهتم بها ويسعى لمعالجتها، فأحدث مجلس رئاسي يمني والذي تم تشكيله مؤخرا والمكون من 8 أعضاء يمثل القوى المتنافسة في الميدان اليمني ولا علاقة له بالشعب اليمني في الحقيقة، ومعارك هذه القوى بعيدة كل البعد عن الحالة اليمنية ومتطلباتها، ولذلك فإن الخلافات العنيفة بينهم الآن ليست من أجل اليمن أو اليمنيين.
فالقوى المتنافسة خلف الطاولات في واد بعيد عن احتياجات الشعب الذي يعاني من مشاكل تنوء بحملها الجبال. وفي مقدمتها تضميد جراح الحرب التي لم تنته حقيقة حتى الآن، فقد خلفت على طول 8 سنوات 377 قتيلا بالإضافة إلى آلاف المصابين ببتر أطرافهم. ومداوة جراح هذا الشعب أهم الاحتياجات في الوقت الراهن. وبالطبع ليس هذا المجلس الرئاسي هو من سيضع حلا لهذه المشكلة، لكن الكلمة ستكون للشعب اليمني مرة أخرى.
والمرء يُعرَف في الأنام بفعله
وخصائل المرء الكريم كأصله
وفي خطوة عملية لمساعدة المصابين أخذ الشيخ حمود المخلافي ـ أحد زعماء القبائل المحترمين في اليمن ـ زمام المبادرة وأنشأ أكبر مركز للأطراف الاصطناعية في الشرق الأوسط في صلالة بعمان. ولقد كنت على علم أنه قبل بضع سنوات قال في تركيا إن هناك حاجة كبيرة لمثل هذا المركز وأنه أجرى مقابلات مع عدد من الشخصيات لمساعدته. وقد تمكن مخلافي من إنشاء هذا المركز قبل ثلاث سنوات وقام بتزويده بعدد من الكوادر الفنية من تركيا وأحدث الأجهزة والمواد التكنولوجية من ألمانيا.
وفي السنة الثالثة احتضنت صلالة، احتفالية إنسانية خاصة نظمها المركز العربي للأطراف الصناعية بمناسبة إتمام عملية تركيب 1000 طرف صناعي لألف جريح يمني. وبهذه المناسبة، نحن في صلالة لحضور هذا الاحتفال وزيارة المركز والاطلاع على أنشطة المركز ومشاريعه المستقبلية فيما يتعلق بتوسيع الخدمات للجرحى اليمنيين.
منذ إنشاء هذا المركز، أعاد مخلافي حرفيا إلى الحياة 1000 شخص فقدوا أقدامهم أو أذرعهم بسبب الحرب في اليمن بأقدام اصطناعية تم إنتاجها بأحدث التقنيات. إنه لأمر يدعو للسعادة والتفاؤل حقا أن نرى فرحة العودة إلى الحياة في أعين الأشخاص الذين تمكنا من مقابلتهم، والذين كانوا يشعرون بالمرارة من فقدانهم للأعضاء. فخلف كل واحد منهم قصص مختلفة ستكون يوما ما موضوعا لروايات كثيرة..
هناك 5 من أصل 22 موظفًا في المركز العربي للأطراف الاصطناعية من الأتراك، وقد تولى تنسيق الأعمال فريق متخصص في تقنيات الأطراف الاصطناعية بقيادة إبراهيم أوزوغول من أنقرة.
تطبيق الأطراف الاصطناعية هو مهمة طويلة ودقيقة وشاقة. والمركز لديه قدرة استيعابية لقبول 50 شخصا في الدفعة الواحدة. يستغرق تطوير وتطبيق الطرف الاصطناعي المناسب لحالة كل شخص وحجم جسمه حوالي 35 يوما. ومع ذلك، هناك 2000 شخص في اليمن تم وضعهم في قائمة الانتظار بالإضافة إلى أولئك الذين عولجوا، وتشير التقديرات إلى أنه لا يزال هناك 4000 شخص آخرين لم يتم تسجيلهم في المركز حتى الآن. يتم أخذ المصابين من منازلهم في اليمن من قبل المركز، ويتم تلبية جميع احتياجاتهم من الإقامة والطعام خلال فترة العلاج، وبعد انتهاء العلاج يتم إعادتهم إلى اليمن وإلى منازلهم من قبل المركز، بمجانية تامة دون أن يتكلف المريض أي شيء. إنه عمل إنساني من الدرجة الأولى.
ومع الأسف، فإن ما يقرب من 90 في المائة من حوادث مبتوري الأطراف هذه ناتجة عن حقول الألغام. إذ لا تجد بين هؤلاء المصابين مقاتلا واحدا فكلهم مدنيون. لقد زرع الحوثيون الألغام بطريقة ما في الأماكن التي دخلوها، ولا توجد خريطة لتلك الألغام. تشير التقديرات إلى أنه لا يزال هناك 4 ملايين لغم، لذلك يمكن أن تستمر مثل هذه الحالات في الحدوث في أي وقت.
أولئك الذين يتدخلون في شؤون اليمنيين من الخارج، وأولئك الذين يتصارعون على الأراضي اليمنية، وأعضاء المجلس الرئاسي الثمانية لم يشغلوا أنفسهم بمثل هذه القضايا الإنسانية وليس لها مكان في جدول أعمالهم.
وقبل سنوات عندما أعرب مخلافي عن حاجة اليمن إلى هذا المشروع الإنساني، تذكرت حجم الألم الذي أخبرنا عنه مع بعده في المسافة عنا على الرغم من ارتباطنا العاطفي والتاريخي باليمن. لكن وكما يقال ليس من سمع كمن رأى، فإن الزلزالين الكبيرين اللذين نشهدهما الآن في تركيا، أضافا بعدا آخر للإحساس بالألم؛ إذ وجدنا أنفسنا نعاني من نفس الألم وتلك المشكلة في بلدنا. فالبشر كل البشر معرضون ليصيروا في أي لحظة لاحتمالية الإعاقة والاضطرار للجوء، "وما تدري نفس ماذا تكسب غدا"، لذا فنحن نتعلم بطريقة ما أننا بحاجة إلى أن نكون دقيقين للغاية ومنتبهين لألفاظنا عندما نتحدث في المواقف المختلفة.
إنها الشعوب التي تضمد جراحها وتسدد حسابات لم يكونوا يوما على أجندة أصحابها.. إنه الشعب اليمني الذي يضمد جراحه..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق