أمام الحدث العظيم
كنّا في ما مضى نشهد كل عقد، أو حتى أكثر، حدثاً عظيماً مزلزلاً، لكننا اليوم نشهد بين سنة وأخرى، بل بين شهرٍ وآخر، وحتى بين يوم وليلة، حدثاً "غير مألوف"، أو قل قد يكون من نوع الأحداث الكبرى التي تغيّر مسار التاريخ، أو أنها تندرج تحت وصف الأحداث التي تسجّل "اختراقاً" لما عرفناه وألفناه. مثلاً، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي واندحاره في أفغانستان، وما تبع ذلك من نشوء جمهورياتٍ وتلاشي أخرى في أوروبا الشرقية، لم نشهد حدثاً كبيراً مزلزلاً مدة طويلة، إلى أن تتالت الأحداث الكبرى، لم تبدأ مع انفجار الجائحة الكورونية الكونية، ولم تنتهِ مع تشغيل آلة التدمير الذاتي في كيان العدو الصهيوني، مروراً بالحرب الروسية الأوكرانية، وما تخلّلهما من وقائع لافتة، كخروج أميركا المذلّ من أفغانستان، وثورات الربيع العربي وسحقها، وأخيراً انهيار أحد أكبر البنوك الأميركية، ثم عودة العلاقات بين أحد أكبر البلاد السنّية (السعودية) مع أكبر بلد شيعي (إيران) بوساطة الحزب الشيوعي الصيني!
وبين هذا وذاك، في وُسع المرء أن يُحصي على أصابع كلتا يديه أحداثاً أقلّ شأناً، (انهيار عملات عربية واقتصادات كبيرة، إفلاس دول، وانقلابات وفوضى في دول أخرى، إلخ)، لكنها كلها تصبّ في خانة آلية التسارع في كرّ الأحداث المؤثرة التي تضرب العالم، وتُنذر بشيءٍ واحدٍ في غاية الخطورة، أننا أمام حدث عظيم مزلزل فعلاً، قد يغيّر وجه الكرة الأرضية برمّتها، ولكن ما هو؟ وهذا سؤالٌ لا يجازف بالجواب عنه أعتى المنجّمين، فضلاً عن أكثر المحلّلين بعد نظر وذكاء وحنكة، لكن المؤكّد أننا في انتظار وقوع هذا الحدث، وربما أسرع كثيراً مما نتوقّع أو نحدس!
المشهد الأكثر أهمية هنا، بالنسبة إلينا على الأقل، هو ما يشهده الكيان الصهيوني من حالة انقسام وصلت إلى حد التهديد بالعصيان المدني، وتحريض الجيش على التدخّل، كما ألمح السياسي الصهيوني إيهود باراك، فضلاً عمّا حذّر منه أحد رؤساء "الموساد" السابقين، وهو تامير فاردو، في حديثٍ متلفز بثّته القناة العبرية 12، حين قال: "من أجل تفكيك دولةٍ لا حاجة لإيران، فإسرائيل متورطة في كارثة، وبكلمة واحدة؛ نحن في مصيبةٍ تحدُث الآن، وهي في حالةِ تَكَوّن. في هذا الشهر، سأبلغ السبعين من عمري، ولو كان أحدُهم قد سألني قبل سنة أو سنتين أو ثلاث أن هذه ستكون صورة إسرائيل الحالية لقلت له: "أنت تهذي"، لأن إسرائيل لن تبلغ أبداً هذه النقطة، فهذا غير ممكن، ولكن ها نحن نقف أمام الخطر الوجودي الأكبر منذ 1948".
وجود إسرائيل مرتبط بالحماية "الدولية" التي توفّرها لها غالبية أعضاء الحكومة العالمية في مجلس الأمن
وقال فاردو: "لو شهدتْ دولةٌ معادية ما نشهده اليوم، لقلت لرئيس حكومتي: اسمع، أنا لا أريد أي ميزانياتٍ من أجل مواجهة هذه الدولة المعادية، فهي قرّرت القيام بنفسها بتفعيل جهاز التدمير الذاتي. ويمكن شطبها من قائمة أهدافنا، ولم تعد تهمّني، فهي دولةٌ في مسيرة تَفكّك، ولا حاجة للاستثمار في مواجهتها. ولا بد أن المخابرات الأميركية ستطرح صورة مشابهة عن إسرائيل للرئيس الأميركي. لا شك عندي أن هذا ما يفعلونه اليوم في طهران وفي بيروت وغزّة وفي كل الدول العربية"!
ليست تصريحات فاردو إلا نقطة في بحر التصريحات المتشائمة التي أطلقها كثيرون في كيان العدو، سواء من هم يتسلمون مناصب رفيعة الآن، أو غدوا مسؤولين سابقين، وكلها تصبّ في خانة ما سميت "أمراض العقد الثامن" التي سبق وتحدّث عنها نتنياهو نفسه وعقدة "الحشمونائيم" وتفكّك مملكتي اليهود (وفق السردية الصهيونية) قبل أن تبلغا هذا السن. الأهم في هذا المشهد أن مشروع "إسرائيل" برمّته لم يكن حقيقة مشروعاً "يهودياً" خالصاً، ولا صهيونياً بالضرورة، بل اتخذ الغرب الصهيونية واليهودية ذريعةً لبناء "خندق استعماري" متقدّم له لإنهاك الأمة العربية، وإفشال أي نهوض أو صحو حقيقي، وإشغال جيوشِها وقواها الحية بحروبٍ وفتنٍ غايتها النهائية تدمير قوة العرب، وتفتيتها، فكانت "إسرائيل" منذ نشأتها "آلة التدمير" المسخّرة لإبقاء العرب في حالة لهاثٍ وتعبٍ ومرض، كي يسرح الغرب ويمرح، ناهباً خيرات العرب، ولاعباً في مصائرهم، ومُخرجاً لهم من دائرة الفعل الحضاري. واليوم فإن أي تهديد قد يصيب وجود هذا "الخندق"، معناه أن مصالح الغرب باتت في مرمى الخطر. ولهذا لم نستغرب أن نسمع أصواتاً غربية مسؤولة تحذّر "إسرائيل" من مخاطر ما يجري فيها اليوم، لكونه يشكّل خطراً وجودياً عليها، وبالضرورة يهدّد مصالح من يحتضنها ويمدّها بأسباب الحياة!
القوة الحقيقية للكيان ليست جيش "الدفاع!" ولا صواريخه النووية، ولا صناعاته العسكرية، فهذا كيانٌ مصطنعٌ فعلاً، ووجوده مرتبط بالحماية "الدولية" التي توفّرها له غالبية أعضاء الحكومة العالمية في مجلس الأمن، ومتى رفع غطاء الحماية هذا، فلن يعيش بقوّته الذاتية أبداً، ولهذا يصبح ما يجري فيه جزءاً من الحدث العظيم الذي ننتظره!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق