بين أصنام عمرو بن لحي وتحديات أمتنا المعاصرة
يقوم التمايز بين الشعوب والحضارات والأمم، على ما تختص به كل أمة وما يميزها عن غيرها وهو ما ينعش أفرادها بمخزون حضاري متأصل في التاريخ تقارن على أساسه تحدياتها الحاضرة والمستقبلية، وفي حال لا تملك أمة من اﻷمم هذه العناصر المميزة، تلجأ إلى صناعتها في خيال أفرادها واختلاقها ثم تخزينها في الذاكرة الجمعية لشعوبها أو لعساكرها عبر مختلف وسائل نشر المعلومة قديمًا أو حديثًا.
لهذا يعتبر تعريف “النحن الحضارية” أهم خطوة في نهوض أي أمة، لأن جواب هذا السؤال سيحدد خصائصها ومميزاتها التي من خلالها سترى بقية العالم، عبر رؤية كونية نابعة من جذور ثابتة، وبثبات هذه الجذور ورسوخها يكون البناء فوقها مأمون التقلبات حتمية الحدوث لكل أمة متحركة في واقع تدافع أممي لا يهدأ.
وعلى هذا يعتبر استجلاب طرق وأساليب وأفكار الحضارات الأخرى إلى حضارة معينة، دون اعتبار ما تمثله هذه الأفكار أو علاقتها بمميزات الحضارة المحلية، ودون تحديد علاقة هذه الأفكار بركائز، ودون مراعاة للفوارق وطبيعة التدافع الحضاري، يعتبر هذا مهدد حقيقي لتميز أي أمة مقابل غيرها، ما ينتج اضمحلال أمم بكل خصائصها داخل أمم أخرى، ويمكن لهذا أن يحدث عن طريق استجلاب مفاهيم مدمرة من الخارج، أو فرضها عبر القومية في واقع استبدادي.
أصل الحضارة في مكةصورة نادرة للكعبة المشرفة، عمرها يتجاوز الـ 120 عامًا.
كانت مكة قبل قدوم سيدنا إبراهيم وأمنا هاجر وولدهم إسماعيل عليهم السلام، خالية من كل مظاهر الحياة، كما وصفها الله في كتابه العزيز على لسان خليله: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) أمر الله خليله إبراهيم أن يتركهما في هذا الوادي ويعود إلى الشام، وحدثت القصة المعروفة بسعي أمنا هاجر بين الصفى والمروة بحثًا عن مارة ينجدوهم بالماء بعد أن جف لبنها، وما تلى ذلك من انفجار ماء زمزم، الماء الذي أثار انتباه قافلة من العرب كانت متجهة إلى الشام بعد ملاحظتهم لتحليق الطيور فوق المكان كعلامة على وجود مياه.
فطلبو مجاورة هاجر وإسماعيل وبدأ من هذه اللحظة التاريخية تواجد بشري وعمارة لهذا المكان الذي كان قبلها خاليا من كل نشاط اجتماعي، وكان لسيدنا إبراهيم رحلات يقوم بها من الشام إلى مكة قام في أحدها- رفقة سيدنا إسماعيل- ببناء الكعبة التي دله الله على قواعدها: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) ثم قاما ببناء الكعبة: (وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإسماعيل رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، وأمره الله أن يؤذن بالحج: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ)، لتكون ديانة الناس هي الإسلام الحنيف ملة إبراهيم هادم الأصنام والذي كان له من الآيات في مواجهة الشرك ما علمته العرب وتعبدت به الله واتبعته في مناسكه ورتبت الحج على أساسه، أي أساس التوحيد.
فيمكننا القول إن التوحيد وقصة سيدنا إبراهيم وهاجر وإسماعيل -عليهم السلام- هي أصل تكوين حضارة حول مكة ونشوء مجتمع هناك فيها وأن القيمة التي تمركز حولها هذا التجمع البشري هو التوحيد ونبذ الشرك والوثنية.
وبقي تعظيم الكعبة والتوحيد في العرب حتى تنافسوا على خدمة الحجيج وإطعامهم والقيام بأمر الكعبة، إلى أن جاء زمن آل فيه أمرها لرجل اسمه عمرو بن لحي من قبيلة خزاعة، جاء في البداية والنهاية لابن كثير عنه:
“قالوا: وكان قوله وفعله فيهم كالشرع المتبع لشرفه فيهم، ومحلته عندهم، وكرمه عليهم.
وقال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم: أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، وهم ولد عملاق، ويقال: ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: ألا تعطوني منها صنمًا فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنمًا يقال له: هبل، فقدم به مكة فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه” انتهى.
وكانت هذه بداية دخول الأصنام لجزيرة العرب وعبادتها، وانتشرت بعدها الأوثان في الجزيرة ثم جمعت في مكة وأصبحت العرب تعظمها وتعتقد فيها النفع والضر وتذبح لها القرابين و… وقد حرف ابن لحي التلبية في الحج وأحدث تشريعات مخالفة لأصل التوحيد.
قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيب السوائب”.
فإذا كانت رسالة -خليل الله- إبراهيم على أثر محاربته للوثنية وعبادة الحجارة وتوحيد الله وصرف العبادة له وحده، وكانت هذه القضية هي مركز تكوّن الاجتماع البشري في مكة، فقد أعاد عمرو ابن لحي هذه الوثنية حين استجلب الصنم من الإمبراطورية الرومانية المهيمنة على الشام حينها. ثم بعث الله الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالإسلام ليقيم به من جديد صرح التوحيد ويزيل ما سواه من خرافات وأباطيل وأصنام
وقد كان الجيل الذي تربى في مدرسة النبوة ومن بعدهم من أئمة الهدى شديدي الحرص خلال احتكاكهم بغيرهم من الملل على وزن ما عندها من قيم سائدة بمعيار علاقتها بالمفاهيم المركزية لرسالة الإسلام، ويترتب على ذلك قبولها أو رفضها، رغم المرونة التي اتسمت بها حركة انتشار الإسلام بين الأمصار والقارات والشعوب والعرقيات، هذه المرونة التي أودعها الله في هذا الدين حتى تتلقاه البشرية في مشارق الأرض ومغاربها، إلا أن هذه الحركة استطاعت خاصة في صدر الإسلام أن تحافظ على سلامة التصور والتدقيق في التبادل الحضاري بما لا يمس من مركزية المفاهيم المميزة لهذه الأمة، خاصة وأنها واجهت أعتى إمبراطوريات الأرض بكل ما يملكونه من تقدم مادي وعسكري من جهة، وكل ما ورثوه من خصائص الوثنية والفلسفات الوضعية من جهة أخرى.
ومن ذلك ما جاء في هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- حين رأى صحيفة من صحف النصارى بيد سيدنا عمر -رضي الله عنه -وقد كان هذا في صدر الإسلام فغضِب وقال:
أَمُتَهَوِّكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاءَ نقيَّة، لا تسألوهم عن شيء، فيخبروكم بحقٍّ، فتُكذِّبوا به، أو بباطل، فتُصدِّقوا به، والذي نفسي بيده، لو أنَّ موسى كان حيًّا، ما وسعه إلا أن يتَّبعني.
وفي ذلك توجيه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه الكرام والأمة للاكتفاء في عالم القيم والمعايير بما جاء به الإسلام، وفي غضبه صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة دليل على خطورة إعلاء أي قيمة من الخارج خاصة قبل التشبع بقيم الإسلام.
وقد كان للخليفة الراشد عمر -رضي الله عنه- باع كبير في تنظيم القضاء وتعريب الدواوين وإدارة الرواتب وقام بتمصير الأمصار وبنى المدن وربط بينها بتعبيد الطرقات وأمر ببناء المستشفيات وكانت له بصيرة واسعة في تسيير البلاد الإسلامية المتسعة بعد كل فتح جديد، لكنه مع هذا كان شديد الحرص على سلامة القيم المميزة لهذه الأمة حتى لا تطغى عليها قيم أخرى من خارجها.
وبقي هذا المعنى حي في وجدان المسلمين حتى في وقت ارتهلت فيه القوة المادية والعسكرية في مقابل سلامة التصور وترتيب القيم الإسلامية في عموم الأمة، فقد اعتدى التتار والمغول ونالوا من حصون المسلمين ومدنهم وشهد التاريخ تلك المشاهد من الإيغال في التقتيل والوحشية، لكن ورغم هذا لم يستطيعوا اختراق عالم أفكار المسلمين أو هزّ قناعاتهم في عقائدهم، وسلبهم مميزاتهم الحضارية، وقد كان نتيجة هذا أن دخل التتار والمغول بعدها في الإسلام كحادثة نادرة يعتنق فيها الغالب معتقد المغلوب.
لا يخفى عن المتابع لأخبار الأمة في هذه اللحظة التاريخية من الزمن أنها تعيش براكين وزلازل يومية تحاول تحريك وخلخلة مساحات كاملة من ثوابتها الدينية كمقدمة لهضم حقوقها في ثروات أرضها وفي امتداد حتى على أدمية وفطرة شعوبها، إن الأمة اليوم تعيش تكالب حقيقي للأعداء من الداخل والخارج، وقد برهنت الأحداث أن هذه الشعوب لازالت تحمل بذرة الحركة تحت رماد من عقود الاستبداد، وأنها قادرة على كنس الطغيان من جذوره، وقد رأت أنوار الحرية بالأمس القريب، وأن هذه الأنوار ستبقى مصدر خطر على كلاب الحراسة في الداخل ومن يمسك بالحبال المربوطة على أعناقهم من الخارج.
ولهذا تشتد الهجمة وتتصاعد، وبما أن الأعداء يعلمون جيدًا أن المعركة مع هذه الشعوب معركة صفرية لا حلول وسيطة بينها، تجدهم يميلون لاستهداف أبعد نقطة في الصراع وهي القيم الحاملة لوجود هذه الأمة كأمة، والمتمثلة في دينها ولغتها وتاريخها. وإذا كانت كل أمة تعتمد على مميزاتها الحضارية التي تحميها من الاضمحلال والذوبان في الحضارات الأخرى، تستهدف الهجمة المعاصرة الأمة في مميزاتها هذه بالتحريف والتشويه والترهيب.
فكم هي تلك الأفكار القاتلة التي تنشر عبر برامج متخصصة ودعاة مجندين لنشر الإلحاد في صفوف شباب الأمة، وكم هي البرامج الإعلامية التي تعمل على طمس الشخصية الإسلامية بحقن التفاهة ثم جعل صناع هذه التفاهة مشاهير جيلهم وقدوات، حتى يغيب أبناء هذه الحضارة عن التحديات الحقيقية التي تواجهها أمتهم.
وامتدت الهجمة إلى النظام الاجتماعي، كان من أبرز مميزات هذه الأمة وحصنها الحصين الذي تصدر من خلاله تصوراتها ويتجانس فكرها مع واقعها، ليستبدل بأنظمة غربية من بقايا الاستعمار فصلت المسلم عن الحياة بدينه حتى عادت شعوبنا تعيش الفصام النكد، بين المفاهيم الدافعة للإسلام، والواقع الذي تعطل فيه أحكام الله وتعمل فيه أحكام وضعية علمانية مستقاة من فلاسفة المادية في أوروبا فيما يسمى بعصر الأنوار.
ختامًالقد عادت الأصنام اليوم في شكل جديد، فأصبحت تيارات فكرية جارفة يعتقد معتنقيها فيها المثالية والقداسة، وارتكست الفطرة الإنسانية أمام بريق المادة، واستطال تجبر الفراعنة على الجماهير التي ما أن تفيق من سياط الاستبداد حتى تحقن بجرعات من التخدير الإعلامي.
إن الأمة تواجه اليوم تهديد في خصائصها ومميزاتها الحضارية، تهديد من الذين يشيعون التبعية إلى الغرب من داخلها عبر المنهزمين حضاريًا والمنسحقين تحت آلة الغرب المادية، أو من قوى الهيمنة العاملة على دعم ونشر كل ما يمكنه تغييب هذه الشعوب وإلهائها لتواصل عملية نهب الثروات، ولوأد كل محاولة تحرر من الاحتلال المعاصر، ولكل فرد في أمتنا اليوم دور ينبغي أن يقوم به لكسر أغلال الاستعباد وبلوغ الحرية، الحرية بمعناها الشامل لأمة تعرف طريقها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق