لماذا تتصارع الدول الكبرى على البحر الأسود، وما أهميته؟ في ضوء إسقاط روسيا طائرة أمريكية
أعلنت قيادة القوات الأمريكية في أوروبا في 14 مارس سقوط طائرة مسيرة من طراز "ريبر MQ9″، بعد اصطدامها بمقاتلة روسية بها فوق البحر الأسود، فيما كشفت وسائل الإعلام الأمريكية، نقلاً عن مسؤولين أن الطائرة المفقودة أقلعت من رومانيا في مهمة استطلاع لمراقبة شبه جزيرة القرم قبل أن تتحطم على بعد 40 ميلاً من سواحل القرم، فيما اندلع سباق بين الروس والناتو على وصول كل منهما قبل الآخر لحطام الطائرة.
يسلط الحادث الضوء على أهمية البحر الأسود في الصراع بين القوى الكبرى، وهو صراع قديم متجدد بين مقاربتين، الأولى تدفع باتجاه دفع روسيا إلى الانكفاء للداخل لتصبح دولة غير فاعلة عالمياً، والثانية تقوم على انفتاح روسيا بحرياً إلى الخارج انطلاقاً من البحر الأسود نحو البحر المتوسط لتستعيد دورها المؤثر على الساحة الدولية.
انشغل المخططون الاستراتيجيون الأمريكيون بالبحر الأسود بالأخص منذ سيطرة روسيا على القرم في عام 2014، ومن آخر ما نُشر بخصوصه دراسة لمركز الدراسات الدولية والاستراتيجية في فبراير 2023 تتحدث عن معالم استراتيجية أمريكية جديدة لمنطقة البحر الأسود، بينما سبق لمركز راند أن نشر في عام 2020 كتاباً بعنوان "روسيا والناتو وأمن البحر الأسود".
البحر الأسود من الماضي إلى الحاضر
برز البحر الأسود كخط صدع في المنافسة الاستراتيجية بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية طوال القرن الثامن عشر إلى أن سيطر الروس على شبه جزيرة القرم في عام 1783، لتبدأ هيمنتهم على البحر الذي اعتُبر سابقاً بمثابة بحيرة عثمانية. ثم اندلعت حرب طاحنة بين الطرفين لمدة 3 سنوات (1853-1856)، اجتاح خلالها الروس إقليم الأفلاق والبغدان التابع للدولة العثمانية، والواقع حالياً ضمن رومانيا، وهو ما دفع بريطانيا وفرنسا للتدخل بجوار العثمانيين، فنفذا إنزالاً بحرياً ناجحاً سيطرا خلاله على ميناء سيفاستوبول على البحر الأسود، ما دفع روسيا للقبول بعقد اتفاق سلام انسحبت بمقتضاه من الأراضي العثمانية التي احتلتها مقابل حصولها على مكاسب شملت تعهد الأستانة بتمتع صربيا والأفلاق والبغدان باستقلال ذاتي ضمن السيادة العثمانية، دون أن يحق للسلطان التدخل عسكرياً في شؤونها سوى بموافقة الدول الكبرى.
خلال الحرب العالمية الأولى فشل الروس في السيطرة على مضيقي البوسفور والدردنيل اللذين يربطان البحر الأسود بالبحر المتوسط، كما أرست اتفاقية مونترو الموقعة 1936 السيطرة التركية على المضائق. ولكن مع نهاية الحرب العالمية الثانية طلبت موسكو من أنقرة إعادة التفاوض بشأن اتفاقية مونترو بهدف تقاسم السيطرة على مضيقي البوسفور والدردنيل، وهو ما دفع أنقرة لطلب المساعدة من واشنطن التي سارعت لإرسال سفنها للمنطقة، ثم قُبلت عضوية تركيا في حلف الناتو عام 1952 ليمثل مظلة حماية لها ضد روسيا، ولتمثل نقطة ارتكاز في سياسة الاحتواء الغربية للتهديد الروسي.
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وتوسع حلف الناتو في شرق أوروبا تغيرت خريطة البحر الأسود ليضم 6 دول (روسيا وتركيا وأوكرانيا ورومانيا وبلغاريا وجورجيا)، من بينها 3 دول أعضاء في الناتو، فازدادت أهمية البحر الأسود لدى روسيا التي رأت في وعد الناتو لأوكرانيا وجورجيا بضمهما لصفوفه تهديداً بتحويله إلى بحيرة من خمس دول أعضاء بالناتو، ما يخنق موسكو بحرياً، بينما أصبح حلف الناتو يرى المنطقة كخط صدع مع روسيا يشمل تأثيره جنوب القوقاز وشرق البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط وغرب البلقان.
التمدد الروسي من البحر الأسود نحو الخارج
في ظل سعي الرئيس بوتين لاستعادة النفوذ الروسي، لعب البحر الأسود دوراً حيوياً في تنفيذ عمليات التمدد الروسية نحو الخارج، حيث سيطرت موسكو على شبه جزيرة القرم في عام 2014 بعملية عسكرية، وهو ما منحها حرية التحكم في القاعدة البحرية بسيفاستوبول، والتي تُعد ثاني أهم موضع في البحر الأسود بعد المضائق التركية. ثم في عام 2015 تدخلت موسكو في الحرب بسوريا، ليصبح البحر الأسود هو شريان الحياة اللوجستي للقاعدة البحرية الروسية في ميناء طرطوس، وللقاعدة الجوية في حميميم باللاذقية. وانطلاقاً من سوريا وصلت قوات فاغنر الروسية إلى ليبيا للقتال بجوار حفتر في عام 2019، ثم عززت وجودها في مالي وإفريقيا الوسطى، كما تسعى موسكو لبناء قاعدة عسكرية بحرية في بورتسودان. وبذلك انفتحت روسيا وفق التعبيرات العسكرية على شمال إفريقيا الذي يمثل في الوقت ذاته الجبهة الجنوبية للناتو، كما بدأت في التمدد إلى وسط وشرق القارة الإفريقية.
عقب اندلاع الحرب مع كييف في عام 2022، أصبح بمقدور موسكو عرقلة تصدير نحو 95% من الحبوب الأوكرانية المصدرة للخارج عبر البحر الأسود، وهي ورقة مهمة تستطيع روسيا من خلالها التأثير على أسعار الغذاء عالمياً. كما نشرت في البحر الأسود سفناً تحمل صواريخ كاليبر التي يصل مداها إلى 2500 كيلومتر، ما يهدد أوروبا.
البحر الأسود في استراتيجية الولايات المتحدة والناتو
تولي استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الصادرة في عام 2022 أهمية قصوى لمنطقة المحيط "الهندي – الهادئ"، وتشدد على أن المنافسة فيها مع الصين خلال السنوات العشر المقبلة ستكون حاسمة في تشكيل النظام الدولي، بينما تهمل الإشارة إلى البحر الأسود باعتبار أن التهديد الروسي يأتي متأخراً عن التهديد الصيني. ولكن انشغل عدد من المخططين الأمريكيين بسد تلك الفجوة، فقدم نائب الكونجرس "ميت رومني" مشروع قانون يدعو إلى صياغة استراتيجية أمريكية رسمية تجاه البحر الأسود، فيما أشار عدد من الخبراء إلى أهمية الاعتماد على الحلفاء الإقليميين في المنطقة بدلاً من تخصيص جزء من الموارد العسكرية المخصصة للتنافس مع الصين، وفي مقدمة هؤلاء الحلفاء تركيا التي تتحكم في حركة المرور عبر المضائق، كما تملك قدرات عسكرية متطورة مقارنة ببقية البلدان الصديقة المطلة على البحر الأسود، وبدأوا في مناقشة عروض يمكن لواشنطن تقديمها لأنقرة من قبيل تحجيم الدعم الأمريكي المقدم للمليشيات الكردية في سوريا، وتمرير الكونجرس لصفقة بيع طائرات F-16، والدفع لتخفيف التوترات بين تركيا واليونان، وإبداء التفهم لمصالح تركيا في شرق المتوسط.
وقد سبق أن تعهد قادة دول الناتو خلال قمتهم في عام 2016 بزيادة حضور قوات الحلف في البحر الأسود، وهو ما تجلى في تكثيف زيارات قوات الناتو البحرية إلى الموانئ الرومانية والبلغارية، وتعزيز التدريبات البحرية المشتركة، وتبادل المعلومات الاستخبارية. ثم تبنوا في قمة الناتو عام 2022 مفهوماً استراتيجياً جديداً يعتبر أن روسيا هي التهديد الأكثر أهمية للحلف، وقدموا لأوكرانيا أسلحة متطورة مكنتها من إغراق الطراد الروسي "موسكوفا" في البحر الأسود خلال عام 2022، والذي كان مفخرة البحرية الروسية.
في ظل تلك السياقات التي تبرز أهمية البحر الأسود، جاء حادث تصادم الطائرتين الروسية والأمريكية فوق مياهه، ليمثل أول احتكاك مباشر بين الجانبين منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، وليمثل رسالة من موسكو بأنها لن تتساهل مع الوجود الأمريكي الذي يُستخدم لإمداد كييف بمعلومات استخبارية دقيقة تساعدها على استهداف القدرات العسكرية الروسية في القرم، وهي تطورات تدفع بالبحر الأسود إلى مقدمة مناطق التنافس الدولي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق