هل شاهد العالم جنة أمريكا في العراق؟
عشرون عامًا مرت على سقوط عاصمة الرشيد، لم ينهض العراق بعدها إلا بوجع، وما نام إلا على وجع، وبين الوجعين صنوف متعددة من الأوجاع، فذاق من الديمقراطية المزعومة التي روجت لها أمريكا وحلفاؤها الثلاثون كل خراب ودمار.
وبالقطع لسنا بحاجة لسرد فظائع ما جرى، فهو حديث مؤلم على النفس الذكية من جهة، ووقائعه معروفة للناس من جهة أخرى، ويكفي أن نقول إن كل شيء فيها صار مهيئًا للسرقة والبيع، الأرواح والأعراض والخبرات والآثار والتاريخ والأموال.
الخسائر كلها بالملايين إن لم تكن بالمليارات، ملايين الشهداء ومرارات الفقد للأحباء شيبًا وشبابًا وأطفالًا ونساء، ملايين اللاجئين والمشردين في الداخل والخارج، ملايين الفقراء الذين لا يجدون ما يقتاتون عليه بعد أن كانت بغداد أو “البغددة” مرادفة للرفاهية والترف الذي حلمت به الكثير من الشعوب.
بعدها احتل العراق الصدارة في كل ما هو مشين، الأقل في جودة التعليم، الأدنى في الرعاية الصحية، الأكثر انفلاتًا أمنيًا، الأعلى في معدلات الفساد، الأكثر هدرًا للموارد، فأصبح العراقيون الأقل سعادة في العالم، بعد أن كانوا الأفضل.
تقلص حلم العراقي الذي بلغ عنان السماء ذات يوم إلى مجرد توافر موارد الطاقة والكهرباء رغم أن بلده يحتل صدارة منتجي البترول، واضمحل حلمه لأن يهاجر إلى بلاد كان شبابها يذهب للعراق بحثًا عن الرزق.
انكفأ العراق على نفسه عقدين من الزمان يحاول أن يلملم آثار الانشطار الذي خلفه الغزو الأمريكي للبلاد، الذي مزق البلاد شر ممزق، فتشظت اللحمة التاريخية بين مكوناته إلى شيعي وسني، وعربي وكردي وتركماني، ومن بين كل فئة فيهم تفرق الناس بين موالٍ لأمريكا، وموالٍ لإيران، فيما صار المجُّرم بين هذا وذاك أن تكون مواليًا للعراق.
سقوط المزاعم
سقطت المزاعم جميعها التي اتخذتها أمريكا ومن معها سببًا لارتكاب هذا الخراب كله بحق العراق وشعبه، ولكن لم تسقط آثار الجرائم، ولن ينسى أحد أن العراق ما عاد للعراقيين بعد.
سقطت مزاعم النووي التي اتخذوها كحصان طروادة للتنكيل بهذا البلد المقاوم، وأقر القاصي والداني بعدم امتلاك العراق برنامجًا للسلاح النووي تمامًا كما كانت تقول قيادات هذا البلد قبل العدوان، ولكن الغرض مرض والنية مبيتة.
وفي نظري يحق لكل بلد في العالم امتلاك الأسلحة التي يريدها لحماية أمنه، طالما كان هناك من يمتلكون مثلها ويهددون استقراره.
وسقطت أيضًا مزاعم محاربة الاستبداد، فالقاصي والداني يعرف أن الولايات المتحدة هي من ترعي الاستبداد في بلداننا وتدافع عنه، ولولا حمايتها له ما كان حال العرب كما هو عليه الآن.
وسقطت مزاعم تهديد الأمن الإقليمي حيث أن من يتخذونه ذريعة لغزو العراق هم أنفسهم من يسمحون لإسرائيل بأن تقصف أي بلد عربي دون حتى كلمة تنديد واحدة، ويبررون لصواريخها أن تنطلق فتقتل من تقتل في لبنان وسورية والسودان والعراق وإيران، ويتسترون عليها كأبشع وآخر قوة احتلال عسكري في التاريخ.
كما أن قولهم بأن أمريكا تسعى لنشر الديمقراطية في العالم ليعد من قبيل الكذب البواح، فأصابعها واضحة في تخريب ثورات الربيع العربي المطالبة بالديمقراطية والاستقلال الوطني، وهي الثورات التي إن نجحت لأقصت نفوذها المتزايد تمامًا من هذه البقعة من العالم.
الفوضى الخلاقة
أليس هذا المشهد هو المجال التنفيذي للفوضى التي وصفتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس بالخلاقة؟ أليست هي “خلاقة” بالفعل، ولكن من المنظور الاستعماري الغربي الهادف لمحو كل مراكز التأثير والاعتراض في عالمنا العربي، وهو ما حدث فعلًا؟
ألم يكن العراق ضمن الدول التي وصفتها القائمة التي حددتها الولايات المتحدة في العقد الأخير من نهاية القرن المنصرم بالدول المارقة، التي تقصد بها تلك الدول الرافضة للانضواء تحت العباءة الأمريكية والغربية؟
وقد بدأت تلك القائمة بخمس دول فقط حتى انتهت بعد الإضافات لتشمل عراق صدام حسين، وليبيا القذافي، ويمن علي عبد الله صالح، وسوريا الأسد، وسودان البشير، وغزة حماس، وإيران الإسلامية.
وشملت القائمة من غير دول الشرق الأوسط كذلك أفغانستان طالبان، بالإضافة إلى كوريا الشمالية والصين وروسيا.
وبنظرة تأمل واحدة على الخريطة العربية ستدرك أنه قد حدث لباقي الدول العربية التي شملتها القائمة الأمريكية ما حدث للعراق بالضبط من تخريب واستدمار.
سقوط الأمة
في الواقع أن سقوط بغداد عام 2003 لم يكن إدانة للعراق ولا لجيشها الذي قاوم حتى الرمق الأخير أعتى إمبراطوريات العالم الحربية دفاعًا عن استقلاله، ولكن كان سقوطًا للنظام الرسمي العربي الذي دشنته بريطانيا في منتصف القرن الماضي، وتأكيدًا للمؤكد بأن الجميع يقبعون داخل الحظيرة ولا مجال للتمرد عليها.
فيما جاء الربيع العربي بعد ذلك محاولة فاشلة -ستَترى بعدها المحاولات الناجحة- لدفن ما سقط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق