الجمعة، 31 مارس 2023

استطلاعات الـ”تيك أواي” لا تصنع مرشحا بل تهدم الأمم

استطلاعات الـ”تيك أواي” لا تصنع مرشحا بل تهدم الأمم

ياسين أقطاي


إنه منذ اللحظة الأولى لدخول التقويم الرسمي للانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية حيز التنفيذ، التي ستجرى في 14 مايو/أيار المقبل تم إيقاف الأعمال الأُخر كلها حتى ذلك التاريخ، ولم يبق هناك مجال لأي موضوع آخر في تركيا غير المسألة السياسية وعلى رأسها الانتخابات. حتى إن كارثة القرن التي أودت بحياة أكثر من 50 ألف مواطن التي كانت متصدرةً للمشهد وحديثَ وسائل التواصل كلها، قد تنحت فجأة عن السياق مع الانشغال بأجندة الانتخابات، وبدا الأمر كما وأن آثارها قد انتهت في وقت لا يتناسب مع حجم الكارثة.

اِختِلافُ النَهارِ وَاللَيلِ يُنسي..

وهكذا فالأحداث الجديدة عالمية كانت أو محلية تتصدر المشهد لمدة، وكأنها صور عدة متحركة على شاشة عملاقة تأخذ كل واحدة منها مساحة تبعًا لحجمها وحداثتها، وذلك مثل الحرب بين روسيا وأوكرانيا التي دخلت عامها الثاني، والاحتجاجات الشعبية الحاشدة في فرنسا، واحتمال اعتقال الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قريبًا، والتقارب بين تركيا ومصر الذي يعد أهم تطورات السنوات العشر الماضية، وافتتاح الرئيس أردوغان لشركة إنتاج البورون كربيد في مدينة “باليكسير بانديرما”، وصدور أولى منتجات سيارة (TOGG)، وبداية الحصول على طلبات الشراء بعد إنتاج أول طائرة قتال تركية وطنية (MMU) وطائرة التدريب والقتال الخفيف التركية (HURJET)، تأتي أجندة الانتخابات التركية لتتصدر المشهد الآن.

ورغم أن العالم سيشهد في العام الحالي 2023 عددًا من الانتخابات في مناطق متفرقة، فإن تركيا هي الأخرى على موعد مع الانتخابات التي ستؤثر في الموازين العالمية بشكل أكثر مقارنة بغيرها من الانتخابات التي ستُجرَى في جميع أنحاء العالم، ويبدو ذلك واضحًا من نظرة الصحافة العالمية والدوائر الدولية إلى الانتخابات التركية واهتمامها الكبير بمتابعة أحداثها حتى قبل أن تنطلق فعليًا، إذ لا يخفى على الإطلاق أن الرئيس أردوغان يمثل نموذجًا غير مألوف في النظام العالمي الحالي، كما أن توجه القوى العالمية لدعم معارضة أردوغان ليس سرًّا وبالطبع ليس من المتوقَّع أن يسفر هذا الدعم عن نتائج تصب في صالح تركيا.. كَيْفَ أُعَاوِدُكَ وَهَذَا أَثَرُ فَأْسِكَ؟!

فإن أيًّا من الدوائر الدولية غير المتوافقة مع إدارة أردوغان لا تريد الخير لتركيا، وإنها ليست راغبة على الإطلاق في حدوث أي تطور حقيقي في تركيا، ولذلك نجد أنفسنا أمام تساؤل مشروع، هو: هل تريد اليونان والولايات المتحدة الأمريكية وأوربا أن تصبح تركيا دولة أكثر ديمقراطية؟! هل مشكلة هؤلاء الحقيقية مع الديمقراطية؟! هل يريد هؤلاء رفاهية الشعب التركي؟! والإجابة بالتأكيد ستكون بالنفي.

إِنَّ الرَّائِدَ لَا يَكْذِبُ أَهْلَهُ.. لا تكن سببًا في خداع الآخرين..

ليس لدى الولايات المتحدة ولا أوربا أي تطلعات أو رغبات حقيقية بشأن أن يصبح أي مكان في العالم الإسلامي أكثر ديمقراطيةً.. إنهم لا يريدون سوى حكومات أكثر انسجامًا مع أجنداتهم ومصالحهم، وهذا غير ممكن في الأنظمة الديمقراطية، ولذلك تجدهم يتواصلون ويتعايشون بشكل أفضل مع الأنظمة الاستبدادية غير الديمقراطية في جميع أنحاء العالم الإسلامي في تناقض عجيب في الموازين. ومشكلتهم الحقيقية مع أردوغان ليست أنه غير ديمقراطيّ بما فيه الكفاية، بل لأنه ديمقراطي أكثر من اللازم أكثر مما يريدون أنه يمثل شعبه ولا يمثل الأجندات الخارجية..

ولو كانت الحقيقة خلاف ذلك لما كان -كما هو واضح- لديهم مثل هذه العلاقات الوثيقة مع أنظمة الشرق الأوسط، حيث لا تُشَمُّ رائحة الديمقراطية، لذلك وبغض النظر عما تَعِدُ به المعارضةُ الشعبَ التركي اليوم، فإنها لا تقدم سوى تقديم تنازلات للأوساط الدولية دون الانشغال بالداخل التركي، الأمر الذي يجعل المعارضة مفضلة لدى الخارج وأكثر انسجامًا معها.

الاستطلاعات من تأسيس للحقيقة إلى صناعةٍ للوهم..

استطلاعات الرأي التي هي إحدى الوسائل الروتينية في العملية الانتخابية التي تعد مؤشرًا مهمًا في بيان ثقل كفة مرشح على آخر إذ إنها عندما تُجرى بشكل صحيح تقنيًّا يمكن الحصول على نتائج حقيقية وبيانات موثوقة حول الاتجاهات العامة في مدة زمنية معينة، لكن أكبر عقبة أمام الوصول إلى ذلك بشكل صحيح هي أن تلك الاستطلاعات غالبًا تكون موجهة، أي يتم إجراؤها حسب الطلب، أي أنها تُجرَى لعرض نتائج معدة سلفًا، فعندما تريد المنظمات القائمة عليها رفع بيانات الواقع الفعلي لا تكون هناك مشكلة حقيقية، ولكن عندما يوجهونها لتصل عادةً إلى النتائج التي يرغبون فيها لا النتائج الحقيقية، فإن النتائج -ظاهريًّا- تأتي كما يرغبون، وتكون تلك الاستطلاعات مجرد توجيهات من المستوى الأعلى ولا علاقة لها بما يجري في ميدان المنافسة الحقيقي.

لو يَعْلَمُ المَرْءُ مَا بِالنَّاسِ مِنْ دَخَنٍ..

ومن الأمثلة الواضحة على ذلك عندما نعرض صورة من المجتمع الدولي نجد أن استطلاع رويترز ذات الاتجاه المعروف فيما يتعلق بالنظام السياسي في تركيا منذ البداية، لا يعدو كونه استطلاعًا مُعَلَّبًا يسير في الطريق نفسه الذي كانوا يسلكونه بشكل روتيني طوال 20 عامًا، فذلك الاستطلاع الذي يَرى أو يُظهِر فرقًا بمقدار 10 نقاط بين أردوغان وكليتشدار أوغلو لصالح الأخير لا يعدو كونه عرضًا لأحلام حزب الشعب الجمهوري، وبالطبع ليس من المفاجئ أن تلعب منظمة مثل رويترز دورَ مفسر أحلام حزب الشعب الجمهوري، لكن دعونا ننتهز هذه الفرصة للتذكير ببعض الحقائق العامة حول استطلاعات الرأي التي تهم الجميع.

بادئ ذي بدء، أدت تقنيات الاتصال الجديدة وأجهزة الكمبيوتر والهواتف ووسائل التواصل الاجتماعي إلى تسريع أعمال الاستطلاع وتسهيلها، وهي إلى جانب ما توفره من وسائل الراحة فإنها تتيح إجراء أنواع الحيل جميعها والخدع كلها، إنها لا شك وسائل وأدوات وأسلحة ذات حدين، وحينما يكون مقصدها الاستجابة للتوجيهات على الفور وفي أي وقت دون رعاية الحقائق فإنها تصير أدوات شيطانية يمكنها الاستجابة للنداءات على الفور وفي أي وقت، لكن الأهم من ذلك كله، أنها تضلل المتابعين لا سيما الذين لا يقفون على أرض صلبة في هذه المسائل المطروحة للنقاش، إذ تمكن بعض المتكبرين من التسويق لأنفسهم قبل أحزابهم السياسية بما تمدهم به من المواد والأرقام التي لا أساس لها في الواقع، لكنها مضلِّلة وتبني للمتابعين بيوتًا من الوهم لا تلبث أن تتلاشى وتترك وراءها حقيقة مُرَّة للغاية.

ومرة أخرى فإن الاستطلاع هو عمل مشروع يمكن إجراؤه بشكل صحيح وبشفافية تامة من قِبَل الذين لديهم رغبة حقيقية في السؤال عما هو واقع في الساحة بالفعل، سواء كان موافقًا لهواهم أو لا. فالذين يقومون بذلك الاستطلاع لا ينبغي أن يكون لهم توجه معين فيما يتعلق بالنتائج، وإذا لم يكن الأمر كذلك فإن عملية الاستطلاع لا تزيد عن أن تكون مجرد سؤال أحمق: أخبرني، هل هناك من هو أفضل مني؟! على غرار الساحرة الشريرة ومرآتها السحرية.

ولذلك فإن واحدةً من نقاط قوة حزب العدالة والتنمية منذ البداية هي أداؤه في إجراء استطلاعات الرأي العام دون إثقال كاهل أيٍّ منها أو توجيه نتائجها، فقد اهتمت قيادة الحزب وخاصة أردوغان بالاختبار الذاتي من خلال إجراء استطلاعات رأي متعددة تختبر بعضها بعضًا دائمًا فيما يتعلق بتداعيات سياسات الحزب. على الرغم من وجود انطباع عام بأن البحث الاجتماعي لم يحظ بقدر كبير من الاهتمام كما كان من قبل، إلا أن اهتمامه بهذا الموضوع لم يكن غائبًا أبدًا، وقد أحدث هذا فرقًا ملحوظًا مقارنة بمنافسيه.

يكفيك أن تدق الباب أو تطل بوجهك من النافذة.. لا حاجة إلى اللف والدوران

إن كليتشدار أوغلو -كما ذكرت من قبل- حينما وُجِّه إليه منذ سنوات عديدة سؤال: “حزب العدالة والتنمية يجري استطلاعات الرأي باستمرار، فهل سبق لك أن فعلت ذلك؟” فأجاب قائلًا: “ليس لدينا أموال ننفقها على الاستطلاعات، فنحن نخصص ميزانيتنا للإعلام”، وهي إجابة تُظهر في الواقع كم كان بعيدًا عن الحوار السياسي أي أنه بعيد عن قياس نبض الشعب وأن يتحاور مع الشعب، إذ إن الإعلام السياسي هو عمل يهدف إلى توجيه الناس دون الاستماع إليهم، فهو كلام “غطرسة نخبوية” من جانب واحد، من خلال تقديم نفسك فقط للآخر. في حين أن الاستطلاع يتطلب منك الاستماع إلى الأشخاص الذين تمارس السياسة معهم.. إنه يجعلك تتطلع دائمًا إلى الإصغاء لصوت الناس والاستماع إلى مخاوفهم باستمرار ومعرفة آرائهم والاستفادة منها في السياسات التي ستضعها والبرامج التي ستنفذها.

الآن نرى أن حزب الشعب الجمهوري ينشر الكثير من استطلاعات الرأي، ويكلف بها الشركات القريبة منه، ومعظمها استطلاعات تسعى لتفسير أحلامهم، ولا تنطلق من الواقع، لأن الحزب ذاته لا يهتم بها كما قال كليتشدار أوغلو، وكنا نود أن نرى اهتمام حزب الشعب الجمهوري بإجراء استطلاعات رأي حقيقية بدلًا من الإعلام، لكن الأمر يبدو خارج طاقته ليستمر الوضع على المنوال المعهود نفسه، إذ لا يجري حزب الشعب الجمهوري استطلاعات الرأي للتحقق من نبض الشعب أو لاختبار سياساته أو خطاباته على أرض الواقع، لكن ليستفيد من تلك الاستطلاعات التي يشتريها -تيك أواي- أو يتصنعها ثم يحولها إلى مواد إعلامية ودعائية لرسم صورة من الضباب الذي سرعان ما ينقشع مع أول ضوء للشمس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق