كيف أسست الماسونية الولايات المتحدة الأميركية؟(22)
الحديث عن دور الماسونية في تأسيس الولايات المتحدة الأميركية أمر مألوف وشائع ومثبت تاريخيا، ولا علاقة له بالنظرية التآمرية لا من قريب ولا من بعيد. وقد رأينا في المقالات الثلاث الماضية ظروف الانطلاق الرسمي للماسونية في بريطانيا عام 1717، ودورها في تأسيس الجمعية الملكية في لندن عام 1660، وعلاقتها بالسلطة الحاكمة، ودفاعها عنها، ووقوفها إلى جانبها، واحتضانها للحركة التنويرية في أوروبا، وانتشارها في جميع دولها، ورأينا كيف تسللت عن طريق الحملات الملكية البريطانية إلى أقطار العالم، وكيف كان دورها في مساندة الثورات السياسية وحركة التغيير السياسي والفكري في أوروبا.
كان هذا يحدث في الوقت الذي كانت فيه القوات البريطانية والفرنسية تتنافسان فيما بينهما للاستيلاء على أراضي السكان الأصليين في أميركا الشمالية ونهب خيراتها وشحنها إلى القصور الملكية في كل من لندن وباريس.
السمعة الحسنة التي كانت تتمتع بها الحركة الماسونية في أوساط النخبة السياسية والعلمية والفكرية، لدورها في قيادة الفكر الإصلاحي السياسي والاجتماعي والديني في أوروبا، سهل التحاق معظم القادة المؤسسين للولايات المتحدة بها
المؤسس الأعظم
بعد اكتشاف كريستوفر كولومبوس الأميركيتين عام 1492 تدفقت الحملات الأوروبية لاستعمارهما مطلع القرن 17. وكان وجود الحملتين البريطانية والفرنسية في أميركا الشمالية، حيث خاضتا عدة مواجهات فيما بينهما، انتهى بسيطرة التاج البريطاني قبيل الثورة الأميركية أواخر القرن 18. وانتقلت الماسونية مع الحملة البريطانية إلى أميركا الشمالية، التي بلغ عدد سكانها بعيد الاستقلال مباشرة نهاية القرن 18 حوالي 4 ملايين نسمة، وانتقلت معها أفكار التنوير الأوروبية إلى المستعمرات الأميركية عن طريق المحافل الماسونية. وقد ساعد تبني الماسونية لأفكار التنوير على فتح الطريق أمامها للانتشار في أوساط هذه المستعمرات، وتدفق الناس عليها للالتحاق بعضويتها.
وقد وجدت الماسونية في الولايات المتحدة الفرصة السانحة لبسط هيمنتها على الدولة الوليدة التي بدأت تتشكل بدعم وإسناد من المحافل الماسونية في سائر الولايات الأميركية. حيث كانت الحركة الماسونية تتمتع بسمعة حسنة في أوساط النخب السياسية والعلمية والفكرية، لدورها في قيادة الفكر الإصلاحي السياسي والاجتماعي والديني في أوروبا، ودورها في تنظيم الحياة السياسية في بريطانيا ودعم الثورة الفرنسية، مما سهل التحاق معظم القادة المؤسسين للولايات المتحدة بها، وسهل لها الانفراد بتأسيس هياكل الدولة وإعداد دستورها، وقيادة المواقع السيادية العليا فيها، مما يدفع إلى القول إن الحركة الماسونية كانت المؤسس الفعلي للولايات المتحدة الأميركية.
هيمنة كاملة
عدد كبير من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، كانوا أعضاء كبارا في الماسونية، مثل جورج واشنطن، وبول ريفر، وجوزيف وارين، وجون هوك، ممن وقعوا على إعلان استقلال (الدستور) الولايات المتحدة. وبحسب "مادالينا كالانس" أستاذة الاقتصاد وإدارة الأعمال في جامعة "إياسي" برومانيا، في دراستها تحت عنوان "العقل والحرية والعلم.. مساهمة الماسونية في عصر التنوير"، فقد تم تصميم هيكل الدستور وفقا للعقيدة الماسونية للقوانين والحقوق الأساسية.
وقد استخدم النظام الفدرالي الذي نص عليه الدستور التنظيم الذي تقوم عليه لائحة المحفل الماسوني الكبير، حيث تتمتع المحافل الثانوية بالسيطرة على الشؤون المحلية للولايات الفدرالية بموجب مجموعة من اللوائح الداخلية المحددة لها، بينما يدير المحفل الكبير الشؤون العامة للماسونية. وعلى حد قول جون ديكي، مؤلف كتاب "الحرفة: كيف استطاعت الماسونية صناعة العالم المعاصر" فإن الماسونية أصبحت عقيدة الأمة الأميركية في عهد جورج واشنطن (1732-1799)، قائد الثورة الأميركية وأول رئيس للولايات المتحدة الأميركية، وقد تأسس أول محفل ماسوني في أميركا عام 1730 في ولاية فيلادلفيا.
تولى جورج واشنطن رئاسة الدولة لفترتين متتاليتين (1789-1797)، التحق بالماسونية عام 1752 في ولاية فيرجينيا، وعمره حينها 20 عاما، متأثرا بمبادئها ومبادئ التنوير الأوروبي، وعلى رأسها العقلانية والأخوية، حسب الموقع الذي يحمل اسمه على الإنترنت. وقد تدرج واشنطن في الماسونية حتى عرض عليه أن يتولى منصب السيد الأعظم للمحفل الكبير في ولاية فيرجينيا عام 1777 ولكنه اعتذر، لأنه كان في منتصف خدمته كقائد عام للجيش القاري البريطاني في ذلك الوقت. ومع ذلك، فقد ساعد منصبه على قيام المحافل الماسونية المنتشرة في المستعمرات الأميركية آنذاك، على أن تلعب دورا في المجهود الحربي ضد البريطانيين.
لم يكن جورج واشنطن الماسوني الوحيد في قيادة الثورة الأميركية، فقد كان معظم الآباء المؤسسين لأميركا ماسونيين، من أمثال: بنجامين فرانكلين، وصمويل آدامز، وجيمس ماديسون، وألكسندر هاميلتون، وريتشارد هنري لي، وجون هانكوك، حيث كان هؤلاء القادة الاستعماريون يستخدمون المحافل الماسونية لعقد اجتماعاتهم قبل الحرب وأثناءها، لمناقشة خططهم للوقوف ضد الاضطهاد البريطاني.
ومع اقتراب حرب الاستقلال الأميركية من نهايتها عام 1783، تولى واشنطن منصب السيد الأعظم لمحفل الإسكندرية في فيرجينيا. وعندما تولى منصب الرئيس الأول للولايات المتحدة كانت الماسونية قد أصبحت جزءا كبيرا من حياته السياسية، فكان الكتاب الذي أقسم عليه جورج واشنطن اليمين الرئاسية أثناء تنصيبه مأخوذ من محفل "سانت جون" الماسوني، وكان المسؤول عن هذا القسم الرئاسي هو العضو الماسوني "روبرت ليفينغستون". وعند تنصيبه لولاية ثانية التقط للرئيس واشنطن صورة باللباس الماسوني الكامل ليتم وضعها في محفل الإسكندرية.
حافظت الماسونية على مكانة بارزة لها في السياسة الأميركية، ووصل عدد رؤساء الولايات المتحدة الذين تأكد التحاقهم بالماسونية إلى 16 رئيسا، أي أكثر من ثلث الرؤساء الذين حكموا الولايات المتحدة حتى اليوم
رافقت الطقوس الماسونية تنصيب الرئيس واشنطن، ووضع حجر الأساس لمبنى "الكابيتول" في واشنطن العاصمة، مع وضع الرموز الماسونية في الاعتبار، حيث يمكن رؤية الرموز الماسونية التي وافق عليها الرئيس واشنطن في تصميم الشعار العظيم للدولة عام 1782، الذي كان يحتوي على رمز خطوط الأشعة الماسوني وفي وسطها 13 نجمة سداسية مرصوصة على شكل نجمة سداسية، وتحتها عبارة (E PLURIBUS UNUM) باللاتينية، وتعني "واحد من بين كثيرين"، ويشير الرقم 13 إلى عدد حروف هذه العبارة. ومن ذلك أيضا الرموز التي على الورقة النقدية فئة الدولار الواحد، كرمز العين فوق الهرم وهو من أبرز رموز الماسونية دون جدال، وتحته عبارة (NOVUS ORDO SECLORUM) باللاتينية، وتعني "النظام الجديد للعصور" أو "النظام العالمي الجديد"، كأحد أهداف الماسونية طويلة الأمد. وعند وفاة واشنطن، أقيمت له جنازة بشرف ماسوني، وقام الماسونيون ببناء العديد من المعالم المعمارية تكريما له.
شخصية أخرى كان لها دور كبير في نشر الماسونية وتغلغلها في الدولة الوليدة، وهي "بنجامين فرانكلين" (1706-1790) الذي ترافق صورته ورقة المئة دولار أميركي. كان فرانكلين أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، وهو فيلسوف وعالم ومخترع وكاتب ورجل دولة، وأحد الذين صاغوا إعلان الاستقلال، كان قد التحق بالماسونية عام 1731 في ولاية بنسلفانيا، وصعد سريعا في سلم المحفل ليصبح الرئيس الأعظم للمحفل عام 1734، وفي العام نفسه قام بإعداد ونشر أول كتاب عن الماسونية في الأميركيتين.
وعندما ابتعث ممثلا للولايات المتحدة في فرنسا قبيل الثورة الفرنسية، في الفترة (1779-1785)، كان عضوا نشطا في محفل "الأخوات التسع" الماسوني الذي تأسس في باريس عام 1776، على يد عالم الفلك الفرنسي الماسوني "جوزيف دي لالاند" (1732-1807)، وهو المحفل الذي كان متبنيا لثقافة العلوم والأدب والفلسفة والفنون، وكان رأس الحربة في التنوير الفرنسي، وتتردد عليه النخب الفرنسية والأوروبية، وكان له دور كبير في تنظيم الدعم الفرنسي للثورة الأميركية، وقد تولى بنجامين فرانكلين منصب السيد الأعظم للمحفل في الفترة (1779-1781).
ومنذ ذلك الوقت، وحتى يومنا هذا، حافظت الماسونية على مكانة بارزة لها في السياسة الأميركية، ووصل عدد رؤساء الولايات المتحدة الذين تأكد التحاقهم بالماسونية إلى 16 رئيسا، أي أكثر من ثلث الرؤساء حتى اليوم، وهم -إضافة إلى جورج واشنطن- جيمس مونرو، وأندرو جاكسون، وجيمس بولك، وجيمس بوكانان، وأندرو جونسون، وجيمس غارفيلد، وويليام ماكينلي، وثيودور روزفلت، وويليام هوارد تافت، وأرين هاردينغ، وفرانكلين روزفلت، وهاري ترومان، وليندون جونسون، وجيرالد فورد، ودونالد ريغان. طبعا عدا رؤساء المحكمة العليا وأعضاء الكونغرس وغيرهم، حيث يقدر عدد الأعضاء الماسونيين في الولايات المتحدة حاليا بأكثر من مليوني عضو.
وقد أثارت هذه المكانة العديد من الانتقادات والاعتراضات من العقود الأولى لتأسيس الدولة، حيث ظهرت مجموعات تعارض هيمنة الماسونية على الدولة، وبدأ الحديث عن نظرية المؤامرة. يقول "أندرو بيرت"، مؤلف كتاب "الهستيريا الأميركية: القصة غير المروية للتطرف السياسي الجماعي في الولايات المتحدة" إن نظريات المؤامرة يجب ألا تكون خاطئة تماما، حيث إن نصف الحقيقة هو ما يجعلها خطيرة للغاية.
كيف هيمنت الماسونية على حركة التنوير في بريطانيا؟ (19)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق