مفاجأة الصحفيين المصريين
كشفت النتائج النهائية لانتخابات الصحفيين المصريين عن تغيير كبير في اتجاهات الرأي العام الصحفي على نحو لم يكن متوقعا؛ فقد أسقط الصحفيون مرشحي الحكومة لمنصب النقيب ولعضوية مجلس النقابة، واختاروا الصحفي اليساري خالد البلشي ومعه أربعة من المحسوبين على تيار الاستقلال من المقاعد الستة التي جرى عليها التصويت في مفاجأة تعني الكثير.
تجددت آمال الصحفيين مع انتخاب النقيب الجديد وتحسين تركيبة مجلس النقابة الذي يتكون من 12 عضوا، وارتفع سقف الطموحات لاسترداد استقلال النقابة، والسعي لاستعادة التوازن في العلاقة مع الحكومة بما يضمن حماية الصحفيين، والدفاع عن حقهم في ممارسة مهنتهم بكل حرية بدون رقابة أو تخويف.
هذا التغيير في التوجه العام للصحفيين كان ظاهرا بوضوح في مناقشات الجمعية العمومية قبل بداية الانتخاب والإدلاء بالأصوات؛ فبرغم الخلافات حول أداء المجلس السابق التي وصلت إلى التراشق بالألفاظ ورفض الميزانية المقدمة، فقد اتفق الصحفيون على القضايا الكبرى وفي مقدمتها حظر التطبيع والدفاع عن حرية التعبير.
حظر التطبيع ودعم الحريات
تناسى الصحفيون مواقفهم المتعارضة، وأجمعوا على تجديد الدعم للقضية الفلسطينية، وتفعيل الحماية القانونية للصحفيين، والمطالبة بسرعة الإفراج عن زملائهم المحبوسين، وكانت القاعة تدوي بالتصفيق مع قراءة النقيب السابق ضياء رشوان لقرارات الجمعية العمومية، التي أكدت وحدة الصحفيين، بغض النظر عن التوجهات السياسية والصراعات الانتخابية.
نصت قرارات الجمعية العمومية على مواصلة حظر التطبيع مع الكيان الصهيوني، وإحالة كل من يرتكب جريمة التطبيع بأي شكل من أشكاله إلى التحقيق.
ودعت الجمعية العمومية إلى “سرعة إصدار قانون حرية تداول المعلومات وإلغاء الحبس في كل قضايا النشر، في كل القوانين المصرية”.
وطالبت الجمعية بـ”إصلاح كل التشريعات الموجودة في البلاد من جنائية ومدنية بما يتناسب مع حريات الصحافة الواردة في الدستور”.
وتوجهت الجمعية العمومية إلى النائب العام وكل الجهات القضائية المختصة بمطلب “الإفراج عن كل الزميلات والزملاء المحبوسين احتياطيا على ذمة التحقيق أو المحاكمة بضمان نقابة الصحفيين أو بأي ضمان”.
وأعلنت الجمعية العمومية “مساندة أسر الزميلات والزملاء المحبوسين احتياطيا، وتقرير دعم مالي شهري لأسر المحبوسين قدره 2000 جنيه، بالإضافة إلى ما يتقاضونه من بدلات”.
هذه القرارات ما كان لها أن تصدر منذ 6 سنوات بمثل هذا الوضوح، ويعد طرحها الآن بهذه القوة تطورا هاما في موقف الجماعة الصحفية؛ فرفض التطبيع والتأكيد عليه إدانة لسياسة الهرولة التي شهدتها المنطقة العربية، ورسالة بالغة الوضوح ضد أي نوع من التواصل المهني والنقابي والشخصي مع الإسرائيليين.
يأتي تخصيص 4 قرارات لإلغاء الحبس الاحتياطي والدعوة إلى الإفراج عن الصحفيين المحبوسين ودعم أسرهم تأكيدًا على رفض الصحفيين لسياسة الدولة لتكميم الأفواه وتقييد حرية الرأي، وهذا الموقف يكشف حجم الانزعاج من وجود العشرات من الصحفيين في السجون فترات طويلة بسبب آرائهم.
فوز البلشي
كثرت التحليلات والتفسيرات لنتيجة الانتخابات، ففريق يرى ضعف المرشح المحسوب على الحكومة خالد ميري، وفريق يرى قوة تيار الاستقلال الذي يمثله خالد البلشي، وآخرون فسروها بعدم دعم الحكومة لمرشحها بشكل سخي، لكن يبدو أن كل هذه الأسباب مجتمعة ومعها حالة الغضب والاحتجاج على سياسة التعامل الحكومي العنيف مع النقابة وأعضائها منذ 2016 هي التي أدت إلى التصويت العقابي الذي جاء بهذه النتيجة.
لقد فاز خالد البلشي بأغلبية الأصوات، ومن المعلوم أن تركيبة النقابة لا تسمح لمرشح حكومي أو معارض بالفوز إلا إذا كان يحظى بقبول واسع، ورغم أن ما يزيد على 70% من أعضاء النقابة من العاملين في صحف الحكومة فإن سلطات الدولة لم تستطع حسم المعركة لصالحها.
من خبرة التجارب الانتخابية السابقة فإن المرشح المنتمي لصحيفة كبرى مثل الأهرام والأخبار والجمهورية لا يستطيع أن يفوز حتى لو كان مدعوما من الدولة إلا بمساندة من تيارات سياسية أو روابط جهوية أو تحالفات انتخابية.
ونفس الأمر بالنسبة للمرشح من الصحف الحزبية والخاصة والمستقلة فهو لا يستطيع أن يفوز إلا بدعم من الصحفيين في صحف الحكومة، وهذه المعادلة كان لها تأثير إيجابي على الصحفيين، حيث تسببت في تقوية علاقات الصداقة بينهم، وساهمت في توطيد العلاقات، ومنعت الصراعات الحادة التي نراها بين السياسيين.
مبادرات إيجابية
من تقاليد النقابة المتوارثة أن المرشح الخاسر يقدم التهنئة للفائز، لأنه قد يترشح مرة أخرى فيحرص على ترك أثر طيب يزيده احتراما بين زملائه، وقد رأينا ذلك من خالد ميري عندما قدم التهنئة لخالد البلشي الذي رد التهنئة بأحسن منها، بل إنه زاره في مكتبه تقديرًا له ولمؤيديه.
ورأينا ضياء رشوان عقب إعلان النتيجة النهائية، يحتفل بفوز البلشي والأعضاء الستة الجدد (عبد الرؤوف خليفة، جمال عبد الرحيم، هشام يونس، محمود كامل، محمد يحيى، ومحمد الجارحي) ويمسك بأيديهم أمام حشود الصحفيين، متمنيًا لهم التوفيق رغم أن منهم من كان يتشاجر معه قبل ساعات.
لقلة عددهم الذي لا يتجاوز 10 آلاف، وبحكم طبيعة عملهم وكثرة لقاءاتهم، يعرف بعض الصحفيون بعضًا على المستوى الشخصي، وهذه العلاقات الإنسانية التي تختص بها نقابة الصحفيين كانت تغلّ يد السلطة عن التدخل الخشن لفرض إرادتها، وكثيرا ما وقف النقباء المحسوبون على الحكومة ضد السلطة في مواقف تتعلق باستقلال النقابة والحريات، ففي معركة النقابة عام 1995 ضد قانون حبس الصحفيين في عهد مبارك انحاز إبراهيم نافع إلى الصحفيين، مما اضطر الرئيس الأسبق إلى سحب القانون.
لا يعني فوز مرشح مستقل أنه سيسعى للصدام مع الحكومة كما يردد المحسوبون على الحكومة، فكل من يتقدمون للترشح في نقابة الصحفيين يتخلون عن مواقفهم الحزبية ويعبرون عن الجمعية العمومية للصحفيين، ومن جهتها كانت الحكومات السابقة تسعى لكسب ودّ الصحفيين وإرضائهم وتجنب إغضابهم، ولذا فإن السؤال الذي ينبغي توجيهه في الاتجاه المعاكس هو متى توقف الحكومة معركتها مع الصحافة؟
إن نجاح الصحفيين في التغيير يفتح باب الأمل، ويؤكد أن ثبات الحال من المحال، ولا يمكن الحكومة أن تتجاهل التيار العام الذي قال كلمته في صندوق الانتخابات، وينتظر الصحفيون الردّ الإيجابي على قرارات الجمعية العمومية، وفي مقدمته إخلاء سبيل كل الصحفيين المحبوسين، واحترام كرامة الصحفي وحريته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق