الاثنين، 15 مايو 2023

نكبتُنا: الطعن بالمقاومة والشكّ بالديمقراطية

نكبتُنا: الطعن بالمقاومة والشكّ بالديمقراطية

وائل قنديل


في ذكرى النكبة، أنهى الاحتلال الصهيوني عدوانه على الشعب الفلسطيني في غزّة، مضطرًا ومرغمًا على الاستعانة بالوسيط (المصري) من أجل التوصّل إلى وقف إطلاق النار.

لا تذهب إسرائيل إلى وقف إطلاق النار إلا حين تُدرك أن الصمود الفلسطيني لن تكسره ترسانة أسلحتها التي تضرب بمنتهى الخسّة والوضاعة، تبتعد كثيرًا عن قيم المحاربين وأعرافهم، وتنتمي بالكلية إلى أخلاق اللصوص السفلة.

لا يطلب الاحتلال التهدئة إلا حين يتلقّى من المقاومة ما يوجعه ويجعله يتخبّط في جنونه العسكري وهذيانه السياسي، ومن ثم لا جديد هذه المرّة أيضًا، إذ يمكن للصهيوني أن يختار توقيت بداية المعركة، لكن النهاية يحدّدها المقاوم الفلسطيني. ولذا حين يقال إن الشعب الفلسطيني، بمقاومته، خرج منتصرًا فإن ذلك ليس من قبيل رفع الروح المعنوية وبلسمة الجراح، بل هو تقرير لواقع على الأرض.

نعم، انتصرت المقاومة، على الرغم من أن أرقام خسائرها البشرية أعلى من أرقام خسائر العدو، المدجج بأضخم ترسانة عسكرية، والمُحاط بحزام من المطبعين والأصدقاء والحلفاء العرب، الذين لا يشعرون بالخجل وهم يحملون لقب الوسيط، بدلًا من الشقيق لفلسطين، ومحميًا بدبلوماسية دولية عوراء، تقف ضد الاحتلال الروسي أوكرانيا، لكنها تدعم الاحتلال الصهيوني فلسطين.

غير أن من العرب من يرفض هذه الحقيقة الناصعة التي كتبتها بطولات المقاومة، وكأنه لا يريد أن يصدّق، أو أنه يعجز عن التصديق بالنظر إلى سلسلة طويلة من الهزائم والانكسارات أفقدت الذات العربية الإيمان بالقدرة على الفعل، فتلجأ إلى مضغ المقولات الجاهزة المبردة من عيّنة أن الاحتلال يضرب غزّة كلما أراد أن يستريح بعض الوقت من صداع أزماته الداخلية، بل تصل الواحة أحيانًا إلى حد التلميح بأن المقاومة تقدّم له هذه الخدمة، وتوفّر له المجال اللازم للهروب بمشكلاته
.
هذه الطائفة من كارهي فكرة المقاومة والمشكّكين في قدرتها وجدارتها تجد على رأسها محمود عباس، رئيس السلطة التي تعتبرها تل أبيب جزءًا من منظومتها الأمنية، وتجد فيها طيفا من المحللين القاعدين والمثقفين المنفوخين استعلاءً، ممن صارت كراهيتهم فكرة المقاومة، أكبر من كراهيتهم الاحتلال، فتنطلق من عندهم دائمًا تلك الروح الشرّيرة لاصطناع تناقضٍ بين مقاومة غزة ومقاومة فلسطين، وتحاول اختراع سرديةٍ منحطّةٍ تقوم على أن غزة شيء وفلسطين شيء آخر، وأن صواريخ المقاومة المنطلقة من غزة تصيب القضية الفلسطينية، قبل أن تؤلم العدو، وتمضي إلى ما هو أبعد إلى الأسفل، حين تتحدّث عن مقاومات فلسطينية متباينة، لا مقاومة موحدة ومتناغمة ومشتركة.
على ضوء ذلك، يمكن اعتبار أهم ملامح انتصار المقاومة الفلسطينية هذه المرّة أنها ظهرت أكثر اتحادا واصطفافًا، من حيث التنسيق وإدارة العمليات والأداء في ميدان المعركة، وهو ما أدّى إلى ملمح أهم وأجمل للانتصار، وهو هذا الاندماج الكامل بين الشعب الصامد ومقاومته، على الرغم من سُخف التلميحات والتعليقات الساذجة على استهداف بعض قادة المقاومة في منازل بعينها. 

وكما أن كثرة الهزائم تقود إلى الشكّ في إمكانية المقاومة، فإن طول البقاء تحت الاستبداد يؤدّي إلى الخوف من الديمقراطية والتشكيك فيها، كما تجد في بعض التفاعلات مع مشهد الانتخابات التركية التي فرضت نفسَها الحدث الأول والأكبر في العالم كله، إذ لا يريد بعضُهم أن يصدّق أن شعبًا يشبهنا نجح في الوصول إلى حالةٍ مُبهرةٍ من النضج السياسي والاجتماعي.

الغارقون في مستنقعات الاستبداد، كرهًا أو طوعًا، يجدون صعوبةً في الإقرار بأن ما يرونه واقع متحقق وليس أوهامًا أو ظلالًا مثل التي اعتادها سجناء الكهف في أسطورة أفلاطون الشهيرة، إذا باتوا يرون الأوهام والظلال حقائق، بينما الحقائق عندهم أوهامٌ وظلال أشياء.

لا يريدون تصديق أن رئيس الدولة، الذي رشّح نفسه لفترة أخرى، يقف في طوابير الناخبين، مثل أي مواطن عادي، فيكون الحل الأسهل اعتبار هذا المشهد مسرحية، مثل التي اعتادوا عليها في حظائر الطغيان، حتى باتت عندهم هي الحقيقة، وما عداها أوهام وتمثيل.

انتقد أردوغان كما تشاء. شخصيًا انتقدته في مواقف عديدة، بدا فيها متناقضًا مع ما يقوله، وقد نالني كثير من بذاءات "المتأردغين الجدد"، لكن الموضوعية تقتضي القول إن هذا الرجل نجح في حماية دعائم تجربة ديمقراطية تركية وتثبيتها في فترة ليست طويلة، والأهم أنه يعلن احترامه الفعلي لها ويلتزم بمخرجاتها، ولذلك حين أجد كل أشرار العالم متكتلين لإسقاطه، فإنني تمنّيت له الانتصار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق