كشف مقطع الفيديو الذي خرج فيه قائد مرتزقة فاغنر الروسية يفجيني بريغوجين، عن حجم الخطر الذي سيهدد الدول من وراء نماذج المرتزقة التي ميّزت الحروب في العالم، ورأت فيها الدول طريقا سهلا رخيصا لتحقيق بعض أهدافها وأغراضها السريعة، بينما دفعت وستدفع ثمنا باهظا حال هدوء الغبار، حين يحين دفع الفاتورة لهذه المليشيات المرتزقة، بعد أن تكون قد قويت وتعزز وجودها وحضورها، وتمكنت من أجهزة الدولة، وغدا لها اقتصاد وحاضنة مجتمعية، ومؤسسات أشبه ما تكون بمؤسسات الدولة.
فمليشيات فاغنر غدت جيشا روسيا موازيا، يستمد قوته من علاقة بريغوجين مع بوتين حيث يسمى بطباخ بوتين، بالإضافة إلى فتح السجون الروسية أمام هذه المليشيات لتكون ساحة تجنيد لها، حيث يقبع المجرمون والقتلة هناك، فجندت من خلالها أكثر من خمسين ألف مجرم للحرب في أوكرانيا. وزادت من قوتها تحركاتها في المناطق ذات النفوذ الروسي إن كان في سوريا أو في ليبيا والسودان، وفي أفريقيا بشكل عام حيث النفوذ الروسي المهدد من قبل هذه المليشيات، حيث يخوض مرتزقة فاغنر في السودان معارك إلى جانب حلفاء روسيا، ويقومون بدور استخراج المعادن الثمينة في أفريقيا كالألماس، وكذلك الذهب من حميدتي في السودان، وفي سوريا تشرف فاغنر على آبار نفط وغاز وفوسفات ونحوها.
الخلاف الناشب اليوم بين الجيش الروسي وفاغنر خرج إلى العلن، ولم يعد سرا، بعد الشتائم المقذعة التي وجهها بريغوجين لوزير الدفاع شويغو، ورئيس الأركان غراسيموف، واتهمهما بأنهما عملا على تأخير إرسال الذخيرة لقواته، مما أدى إلى مقتل عشرات الآلاف منهم في باخموت وغيرها، حين ظهر في الفيديو بجانب الجثث التي سقطت، فشتم القيادة العسكرية الروسية وهاجمهم، وهدد بالانسحاب من باخموت الأوكرانية، إن لم يتم تزويده بالذخيرة مع العاشر من الشهر الجاري.
في السودان، ظهرت مليشيات التدخل السريع في المجازر التي تعرضت لها دارفور أيام عمر حسن البشير؛ التي ظهر فيها حميدتي بقوة وأثبت قدرته وقوته، ثم برز بقوة الصاروخ في الانقلاب على البشير ليتحالف مع البرهان في إسقاط البشير. لكن تحالفه مع روسيا وتلقي الدعم من فاغنر، وحراسته لمناجم الذهب، وفرت له كما يُتداول أكثر من سبعة مليارات ذهب في أرصدته، فلكم أن تتخيلوا كم حصلت روسيا من وراء هذا الذهب الذي شحنته إليها.
ونرى ما يجري في ليبيا عبر الدعم الذي يقدمه حفتر، حيث يقوم على تعزيز ودعم قوات حميدتي في السودان في مواجهة الجيش السوداني الرسمي والنظامي، وهو الأمر الذي أثار حفيظة مصر فوقفت إلى جانب الجيش النظامي، وكل هذا يؤكد خطر المليشيات والمرتزقة على الدولة.
لقد رأينا انهيار الدولة وتمزقها في سوريا من خلال جلب مليشيات طائفية عابرة للحدود، قُدر عددها بسبعين مليشيا طائفية تديرها إيران، ومعها مليشيات محلية يدعمها النظام السوري، وهو ما جعلها في بعض الحالات أقوى من الدولة ذاتها.
ولعل الاستقبال الذي حظي به الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في ضاحية السيدة زينب بدمشق وغيرها من الأماكن، يعكس قوة وسطوة هذه المليشيات، وهو الأمر الذي تفضله إيران، بحيث تدعم المليشيات المسلحة البعيدة عن سيطرة ومركزية الدولة، وذلك لإضعاف الدولة، الأمر الذي يسهّل وييسر تحركها في التمكن والتجذر بكل أجهزة الدولة، وهو الأمر الذي بدأته في العراق يوم حُل الجيش العراقي، وفرضت تشكيل المليشيات الطائفية، وقام فيلق القدس بتحريك هذه المليشيات وجمعها في الحشد الشعبي الشيعي، كل ذلك كان على حساب الجيش العراقي، وعلى حساب الدولة العراقية. ورأينا في حالات كثيرة حين سعى بعض أركان الدولة إلى تحجيم هذه المليشيات، كيف فشل وكيف اصطدم برفض إيراني بشكل مباشر أو من خلال أذرعها؛ وهي المليشيات الشيعية المدعومة من الحرس الثوري الإيراني.
تفكيك الدول إنما يبدأ من التخلي عن المؤسسات الحكومية والدولية، التي ينظر إليها المواطن على أنها تمثله بأطيافه وألوانه وأجناسه كافة، وحالما تتشكل مثل هذه المليشيات المرتزقة الخاصة بجهة معينة وفصيل معين وشريحة معينة ودولة معينة، يبدأ المواطن التخلي عن مظلة الدولة لمظلات أخرى، وتضيق مساحة المظلة مع استمرار الصراع، ومع فقدان الدولة لمصداقيتها لصالح كيانات موازية، وفي ذلك الخطر الأعظم من تفكك وتفتت الدولة، ومن ثم تتعمق الجراحات الاجتماعية، وتزداد معها معاناة الأهالي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق