الاثنين، 15 مايو 2023

كمال كليجدار العلمانى الذي يعتبر نفسه وريث فكر مصطفى أتاتورك

 كمال كليجدار العلمانى الذي يعتبر نفسه وريث فكر مصطفى أتاتورك

تقرير بقلم رئيس التحرير

سمير يوسف

رئيس منظمة “إعلاميون حول العالم”

“الجزء الأول”

مارس كليجدار نشاطه السياسي في عام 2002 عندما انضم إلى حزب الشعب الجمهوري المسؤول عنه «مصطفى كمال أتاتورك»، حيث خاض انتخابات البرلمان التركي في عامي«2002، و2007» وحينها حصل على عضوية البرلمان عن الدائرة الثانية بـ«إسطنبول».
انتقد كمال كيلجدار أوغلوا بلاده بعدما أعلنت عن قطع علاقتها مع إسرائيل في عام 2008، لأن هذا سيلحق الضرر بـ تركيا وفقًا لتعبيره حبنها، لكن في عام 2009 تقدم بالأوراق الرسمية لترشحه في رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى للانتخابات المحلية.
ومن المتعارف عليه أن كليجدار بعدما تولى رئاسة حزب الشعب الجمهوري المعارض التركي بداية من عام 2010 وحتى الآن، فهو شديد المعارضه لحزب العدالة والتنمية الحكام الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان، وهو من أكبر المدافعين عن القيم العلمانية لتركيا وإرث أتاتورك.
“سآتي لكم بالرفاه والربيع”، هكذا يعد كمال كليتشدار أوغلو زعيم حزب “الشعب الجمهوري” الناخبين الأتراك قبل الانتخابات الرئاسية غدا، من خلفه تظهر المعارضة ممثلة بالطاولة السداسية “موحدة” ليكون مرشحها المنافس الأبرز في وجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في السباق المرتقب، وتلك هي محطات حياته وسياساته.

كمال كليتشدار أوغلو، هو رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض.
وُلد يوم 17 ديسمبر 1948 في بلدة ناظمية بولاية تونغلي شرقي الأناضول، فهو البالغ من العمر 74 عامًا.
عائلته تنتمي للطائفة العلوية.
هو الرابع بين أبناء العائلة السبعة، وأب لابنتين.
أكمل مراحل دراسته الابتدائية والمتوسطة في مدارس ولايته، ثم التحق بمدرسة إيلازيج التجارية الثانوية فأنهاها بمرتبة الشرف عام 1967.
انتقل للدراسة الجامعية في العاصمة فدخل أكاديمية أنقرة للدراسات الاقتصادية والتجارية التي تخرج فيها 1971.
عمل في مؤسسة الضمان الاجتماعي التركية بدءا من 1992، وتولى مسؤولية إدارتها العامة بين عامي 1997 و1999.
بدأ نشاطه السياسي عام 2002 بانضمامه إلى حزب الشعب الجمهوري، الذي يعتبر نفسه الوريث الشرعي لسياسة وفكر مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك.
خاض انتخابات البرلمان التركي في نوفمبر 2002 ثم في أغسطس 2007، وفاز بعضوية البرلمان في الدائرة الثانية في إسطنبول.
ترشح لرئاسة بلدية إسطنبول الكبرى في الانتخابات المحلية التي أجريت في مارس 2009، لكنه نال 37% فقط من الأصوات فخسر المنصب لصالح مرشح حزب العدالة والتنمية قدير توباش.
في العام 2010، انتخبته الهيئة العامة لحزب الشعب الجمهوري رئيسا للحزب بعد استقالة سلفه دينيز بايكال.
شارك الحزب بقيادته -مع حزب الحركة القومية المعارض- في ترشيح أكمل الدين إحسان أوغلو للمنافسة بالانتخابات الرئاسية التي أجريت في أغسطس 2014 للمرة الأولى بطريقة التصويت المباشر، لكنه خسر أمام المرشح القوي لحزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان.
أعيد انتخاب كليجدار عام 2014 رئيسا لحزب الشعب فقاده إلى الانتخابات البرلمانية في يونيو 2015، وفي إعادتها في نوفمبر الموالي، ونال الحزب المركز الثاني في الجولتين، كما أعيد فيهما انتخاب رئيسه لعضوية البرلمان.
معروف عنه معارضته الشديدة لرئيس الدولة رجب طيب أردوغان وسياسة حزب العدالة والتنمية الحاكم، وأيضا يعارض الأكراد وحقوقهم، وهو من أكبر المدافعين عن القيم العلمانية لتركيا وإرث أتاتورك.
يعارض بقوة سياسات حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان، الخارجية لا سيما في موضوع الانفتاح على الشرق الأوسط والعالم العربي.
يعارض التدخل التركي في شؤون سوريا، كما انتقد قطع العلاقات مع إسرائيل لأنها بحسب رأيه تَضُرُّ بتركيا.
من أكثر داعمي النظام السوري، وهو ما يرده مراقبون لخلفيته الطائفية العلوية الشيعية وكون حزبه محسوبا عموما على هذه الطائفة، كما تجمعه علاقة قوية بنظام الحكم في العراق وإيران.
له أيضاً علاقات مع بعض الجنرالات الأتراك المُدانين بقضية محاولة الانقلاب على حزب العدالة والتنمية الحاكم بتركيا.
حين محاولة انقلاب 2016، لإسقاط نظام الحكم والاستيلاء على السلطة, وقف كليجدار ضد الانقلاب وانتقد المشاركين فيه رغم كونه يقود أكبر حزب معارض للنظام الحاكم, وفي صبيحة اليوم التالي للمحاولة، كان حاضرا بين زملائه في البرلمان لإعلان وقوفهم إلى جانب الشرعية الديمقراطية.
رغم معارضته للحكومة وانتقاده المتكرر لسياسات رئيس البلاد أردوغان، فإن كليجدار لبى دعوة وجهها إليه الأخير للقائه في القصر الجمهوري يوم 25 يوليو 2016، وهو اللقاء الذي اعتبر تحولا مركزيا في العلاقات الوطنية التركية.
في يوم 6 مارس 2023 أعلن تحالف المعارضة التركي -المعروف باسم “الطاولة السداسية”- أن كمال كليجدار هو مرشحه للانتخابات الرئاسية لمنافسة زعيم حزب العدالة والتنمية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وضع برنامجًا يحمل عنوان “تركيا الغد” ويقع في 240 صفحة ويتضمن ما يزيد عن 2300 هدفًا، يتفق على أهداف عامة متعلقة بالنظام السياسي والدستوري للبلاد؛ أبرزها العودة إلى النظام البرلماني إلى جانب تحديد ولاية الرئيس وجعل دوره فخريًا.
اللافت أن صور أتاتورك تُرفَع في اللقاءات الانتخابية المؤيدة لكليتشدار أوغلو، فيما تحمل ملصقات المرشح شعار: “مرحبًا أنا كمال أنا آت!”.
يحاول كليتشدار أوغلو، الذي يحظى بدعم غير مباشر من حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، الترويج لإمكانية فوزه في الانتخابات والعمل على تغيير نظام الحكم وإصلاح المشكلات الاقتصادية.

طوى الأتراك مرحلة العلمانية منذ سنوات قليلة، فبات للإسلاميين مرتبة الصدارة في الانتخابات والسلطة وأجهزة الدولة والمجتمع. ما عادوا أعداء الدولة كما كانت تصفهم الحكومات العلمانية السابقة، ولا أعداء الأمّة التركية كما كانت المؤسّسة العسكريّة العلمانية تصنّفهم، بل باتوا أسياد الحكم والجيش والبلاد. فيما تحوّل العلمانيون إلى ما يشبه الفئة المهمّشة وضعيفة التأثير في اللعبة السياسية الداخلية، والتي تجهد للحفاظ على ما تبقى من إرث تركيّا العلماني.

لم يأتِ هذا النجاح الإسلامي من فراغ. بل كان نتيجة نضال طويل لتيار الإسلام السياسي كلّفته الكثير من الجهد والدم للظفر بالسلطة. كما استغلّ هذا التيار ضعف العلمانية التركية في البيئات الاجتماعية المختلفة وسوء تطبيقها، فضلاً عن مفاهيمها الخاصّة والمميزة. فهذه المفاهيم أضرت بالعلمانية وجعلت منها أداة للحكم على نقيض ما تهدف إليه من عدالة ومساواة وفصل للدين عن الدولة.

 
العلمانية التركية ومحاربة الدين الإسلامى

العلمانية أنواع. منها ما يأخذ من الدين موقفاً سلبياً ومنها ما يأخذ منه موقف الحياد، وغيرها ما يتحوّل إلى مجرد أداة إيديولوجية لمجموعة ما، أو إلى نظام عادل يحكم بالمساواة بين جميع الناس. إلا أنّ مجمل أنواع العلمانية لها شرطان ثابتان إن تمّ الإخلال بأيّ منهما فقدت العلمانية جوهرها وعلّة وجودها. الأول يقوم على فصل الدين عن الدولة عبر عدم تدخل المؤسّسة الدينية بالشؤون السياسية، كما عدم تدخل الدولة والسلطة بالشؤون الدينية. فيما الثاني يقوم على المساواة وعدم التمييز بين المواطنين على أساس ديني أو طائفي أو إثني.

إلا أن لتركيا علمانية مميزة، حيث جنح حُكامها الأوائل بعلمانيتهم إلى الإلحاد والعداء للدين من ناحية، كما التفريط بالشرطين الضامنين لأي علمانية ناجحة من ناحية أخرى. فمصطفى كمال “أتاتورك” المتأثر بعلمانية الجمهورية الفرنسية الثالثة ذات الميول الإلحادية، والذي تعلّم فنون العسكرية في ثكناتها وبين ضباطها، سعى إلى تحديث تركيا عبر بتر حاضرها عن ماضيها الإسلامي، وإلى إلغاء كلّ ما يَرمز للدين في الدولة والمجتمع[1]. فجعل من الدين والمؤسسات الدينية الرسمية كما الطرق الصوفية أعداءً له وللدولة منذ توليه حكم الجمهورية الناشئة.

فمنذ العام 1924 بدأ بتحديث تركيا على النمط الغربي وفصلها عن ماضيها، فألغى الخلافة في نفس العام، ثم ألغى كل المدارس والمعاهد الدينية ووحّد التعليم وجعله مختلطاً. كما أقر برلمانه قوانين مدنية وجنائية جديدة مستوحاة من القوانين الأوروبية، وألغى الشريعة الإسلامية وأقرّ المساواة بين الرجال والنساء، ومنعهما من ارتداء الأزياء الإسلامية. بالإضافة إلى ذلك، منعت الدولة “الأتاتوركية” الآذان وترجمت القرآن وحلّت الطرق الصوفية والروابط الإسلامية. ثم ألغت، في العام 1928، الإسلام كدين للدولة بعد أن استبدلت التقويم الإسلامي بالتقويم الغريغوري وجعلت من يوم الأحد يوماً للعطلة بدلاً من يوم الجمعة[2].

وكان “أتاتورك” يهدف من هذه السياسات إلى إحداث ثورة في المجتمع التركي، وإدخال تركيا في ركب الحداثة والحضارة على النمط الأوروبي. وكان يعتبر أنه “لا يمكن للجمهورية التركية أن تبقى محكومة من قبل المشايخ والدراويش والطرق الدينية. إنّما هناك نظام واحد حقيقي وصحيح ومعقول لنا، وهو نظام الحضارة”[3]. غير أن مشروع الدولة “الأتاتوركية” العلمانية حمل بذور فشله منذ بداية وضعه موضع التنفيذ، وذلك لأن الإصلاحات ذات النزعة الإلحادية أتت نتيجة لسياسات تحديثية فوقية فقط، ولم تكن، كما في الحالة الأوروبية مثلاً، رداً على مطالب شعبية نابعة من إرادة المجتمع.

من ناحية أخرى، أخلّ “أتاتورك” بشرطيْ العلمانية، فجعل منها أداة إيديولوجية للحكم وزيادة شرعية السلطة. فنكث الشرط الأول القاضي بفصل الدين عن الدولة وعدم تدخل الدولة بالشؤون الدينية بحيث أنشأ في  1924 “رئاسة الشؤون الدينية”، محولا إياها الى أداة للتبشير بالعلمانية. فكان هذا الجهاز، ولا يزال، المؤسسة الحصريّة المعنيّة بالشؤون الدينية في تركيا، فيما أُنشئ كجهاز حكومي تقوم الدولة بتعيين رئيسه وتحديد مهمّاته، إضافة لتحديد مهمّات رجال الدين ومضمون خطبهم وتعاليمهم، وأقرّت سلّماً لرواتبهم بعد أن جعلتهم موظفين حكوميين[4]. فنكثت بذلك “الأتاتوركية” شرط العلمانية الأول القاضي بعدم تدخل الدولة بالشؤون الدينية، وإن كانت قد كرّست الحفاظ على النصف الثاني من هذا الشرط القاضي بعدم تدخل المؤسسة الدينية بشؤون الدولة والسلطة.

أما الشرط الثاني، فتم الإخلال به بعد أن جُعل من جهاز “رئاسة الشؤون الدينية” المؤسسة الدينية الشرعية والرسمية الوحيدة في تركيا، والتي تعمل، في النهاية، لصالح الأكثرية السنيّة. في حين مَنعت الدولة “الأتاتوركية” الطوائف والمذاهب الدينية الأخرى من أن يكون لها أجهزتها الدينية الرسمية والشرعية. فبقي العلويون الأتراك دون اعتراف بهم كطائفة مستقلة عن الطائفة السنيّة. ولم يُعترف بالمسيحيين السريان كطائفة كذلك، في حين عانت الأقليّات الكرديّة ذات المذهب الشافعي من حصرية اللجوء إلى جهاز “رئاسة الشؤون الدينية” ذات التوجّه الحنفي.

وعلى الرغم من أنّ الدولة التركية ألغت الإسلام كدين للدولة عام 1928، وخلعت الهوية الدينية عن رأس الدولة وحكّامها، إلا أن سنيّتها كانت ظاهرة في سياساتها. فبقيت الدولة “الأتاتوركية”، ورغم علمانيتها المفترضة، تحابي الإسلام السنّي على حساب الطوائف الأخرى، ناقضة بذلك شرط المساواة الذي يُفترض بأي نظام علماني تحقيقه. 

الحفاظ على العلمانية بقوة الأجهزة الأمنية والجيش

 

قبل أشهر قليلة من وفاته، توّج “أتاتورك” سياساته تجاه المسألة الدينية في بلاده بإدخال العلمانية إلى الدستور في العام 1937، وأسند للجيش دور الحارس لها. فيما لم يتوانَ من خلفه عن استخدام العلمانية كأداة إيديولوجية لتحصين الحكم وتسيير الدولة، وإن تطلب الأمر غالباً استخدام القوة والإكراه.

في العام 1950، وفي أول انتخابات تعدّدية في تاريخ تركيا، حصد “الحزب الديمقراطي” الأقل عدائية تجاه الدين الأكثرية البرلمانية، وراح، بقيادة رئيسه ورئيس الحكومة “عدنان مندريس”، يُعيد الدين ورموزه إلى الفضاء التركي العام. فسمح بإقامة الآذان باللغة العربية، وبتلاوة القرآن عبر الراديو الرسمي، وأعطى مدارس “إمام-خطيب” الدينية رخصاً قانونية واهتم بإعمار المساجد، كما شجع الطرق الدينية على العودة إلى لعب دورها الاجتماعي والدَّعويّ في المجتمع.

غير أن هذه السياسات التي أعادت بعضاً من الحرية للمتدينين لم ترقْ للجيش التركي، فقام وباسم المحافظة على علمانية الدولة بانقلاب دموي على الحكومة عام 1960، فيما انتهى أمر “مندريس” مشنوقاً مع بعضٍ من وزرائه على يد الجيش التركي. كما كان هذا الأخير منذ الإنقلاب الأول وحتى العام 2002 بمثابة الحاكم الفعلي لتركيا، وفوّض لنفسه، في الممارسة والدستور، مهمة الحفاظ على تعاليم مؤسّسِه “أتاتورك” وعلمانيته بالقوة.

أنقرة وإسطنبول وإزمير قوى العلمانية تنشط هناك

في المقابل، كانت حركات الإسلام السياسي تنشط في القرى وضواحي المدن الكبرى. وكذلك، كانت الحركات الصوفية الإسلامية تستعيد دورها المؤثر والقوي في الريف الأناضولي، خصوصاً وأن الدولة التركية اعتمدت المركزية في الحكم، وأهملت خلال العقود الماضية، وبشكل حقيقي، تنمية المدن الصغرى والقرى البعيدة عن أنقرة وإسطنبول وإزمير.

فكان الإسلاميون يقودون ثورة في الخفاء، ويألّبون الشباب التركي في المدارس والمساجد والتكايا على العلمانيين، فيما هؤلاء يستخدمون الإكراه والسلطة للحفاظ على علمانية الدولة. فباتت بذلك العلمانية رمزاً من رموز القمع وأداةً للإكراه، خصوصاً مع تعاقب الانقلابات الدموية في تركيا خلال أعوام 1971 و1980 و1997.

وعلى الرغم من أنها كانت موجّهة ضدهم، إلا أن الانقلابات العسكرية الدموية ساهمت في تقوية الإسلام السياسي على المدى المتوسط والبعيد .

و يعود إلى تمكّن الجيش من إضعاف تيار اليسار التركي بشكل كبير خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي،

فاستفاد تيار الإسلام السياسي من غياب ممثلي اليسار فحصلوا على شعبيتهم بين الطلاب والعمال وسكان الضواحي والقرى وزادوا من شرعية تمثيلهم الشعبي. أمّا الثاني فيعود إلى السياسات المزدوجة التي مارسها الحكام العلمانيون والجيش،

والتي قامت على محاربة وقمع الإسلام السياسي من ناحية والسماح بتعزيز الرموز الدينية في المجتمع لتحصد السلطة المزيد من الشرعية وعدم الظهور كمعادية للدين من ناحية أخرى. فأجاز انقلاب الجيش العلماني في العام 1980 التعليم الديني في المدارس، وسمح للمنظمات الإسلامية العالمية بافتتاح مكاتب لها في تركيا، كما زاد من رواتب رجال الدين في “رئاسة الشؤون الدينية”.

فكان لهذه السياسات الحكومية الساعية إلى إلحاق القوى الإسلامية بها وإلغاء دورها كمنافس للسلطة تأثيرٌ كبيرٌ انتهى إلى تقوية تيار الإسلام السياسي.

يعود إلى نضال الإسلام السياسي بذاته، والذي حوّل القمع الحكومي العلماني ضدّه إلى مظلومية عامة زادت من شعبيته وأبرزته كمدافع عن المواطنين وحرياتهم وإيمانهم. فبعد أن حصد حزب “الرفاه” الإسلامي 4.4 في المئة من الأصوات في الإنتخابات البلدية، رفع من شعبيته إلى 9.8 في المئة في الانتخابات النيابية في العام 1987. ثم تابع تقدّمه إلى 11 في المئة في انتخابات العام 1991، فإلى 19 في المئة في العام 1994 حيث حصد رئاسة بلديتي أنقرة واسطنبول التي أُسندت إلى رئيس تركيا الحالي “رجب طيب أردوغان”. ثم تابع الحزب الإسلامي تقدّمه وحصد 21.3 بالمئة من الأصوات في العام 1995 في الانتخابات النيابية العامة[8].

كما أدّت مركزية الدولة من ناحية ولَبرلة الاقتصاد التركي بعد العام 1980 من ناحية أخرى إلى نزوح داخلي تركي من الريف إلى المدن، وذلك طمعاً بالعمل والمال والخدمات والضمانات الاجتماعية. فنقل الريفيون معهم أفكارهم الإسلامية المحافِظة إلى المدن وسكنوا في ضواحيها واغتنى الكثير منهم، فباتوا أقوى في سعيهم للانقضاض على علمانية الدولة ومركزيتها، وشكّلوا العامل الرابع الذي أضعف العلمانية وأعطى للإسلام السياسي المزيد من هامش الحرية والتأثير. في حين يبقى الدور القمعي للجيش والحكومات السابقة، السبب الأساسي في نفور الناس من العلمانية التركية، بعد أن أثبتت دورها كأداة إيديولوجية للقمع والاستئثار بالسلطة.

فهم جديد للعلمانية التركية وفشل العلمانيون في تحقيق المساواة بين المواطنين

لم يكن وصول حزب “العدالة والتنمية” المنشق عن حزب “الرفاه” إلى السلطة في العام 2002 حدثاً عرضياً في تاريخ تركيا الحديث، أو إنجازاً نابعاً من قوة وذكاء رؤساءه فقط. بل إن هذا الانتصار أتى نتيجة استغلال تيار الإسلام السياسي لأخطاء العلمانيين المتتالية، وفشل العلمانيون في تحقيق المساواة بين المواطنين أو تحقيق الاستقرار في المجتمع، كما أتى تتويجاً لنضال الإسلام السياسي الطويل ضد القمع العسكري والحكومي وإيديولوجيتهما العلمانية.

وسعى حكّام تركيا الجدد إلى أسلمة المجتمع والدولة، ولكن بأسلوب نقيض لأسلوب الدولة “الأتاتوركية”. فلم يبدأوا بتغيير تركيا من فوق عبر الدستور والقوانين، أو عبر فرض سياساتهم السلطوية بالقوة والإكراه، إنما عبر إحداث تغييرات في البُنى الاجتماعية والاقتصادية. فأفرزت إصلاحاتهم الاقتصادية الناجحة من ناحية وتلك الاجتماعية شبه المحافِظة من ناحية أخرى قبل العام 2011 شعبية ملفتة لحزب “العدالة والتنمية”، مكنته من الفوز في جميع الانتخابات؛ النيابية والبلدية والرئاسية منذ العام 2002 إلى اليوم. ثم عمد الحزب الحاكم إلى زيادة نسبة أسلمة الدولة والمجتمع التركي وذلك بعد إفقاد الجيش قوته السياسية والشعبية وإخضاعه لسلطة الحكومة ذات التوجه الإسلامي.

فتحولت الأسلمة البسيطة للدولة والمجتمع قبل العام 2011 إلى أسلمة واضحة وعميقة بعد ذلك التاريخ، خصوصاً وأن الدعم الشعبي لها كان في أوجه خلال تلك الفترة.

فما بدأ على شكل إصلاحات محافِظة في البنى الاجتماعية، في المدارس والجامعات والأرياف والنقابات وعالم الأعمال والسياسات المتعلقة بالمرأة، سرعان ما تحول إلى قوانين وقرارات يقدّمها الحِكم على شكل رد على مطالب الناس الطامحة للمزيد من أسلمة الدولة والمجتمع والقانون. وعلى الرغم من أن العلمانية لا تزال مذكورة في الدستور التركي وهي الإطار العام الذي يحكم البلاد، إلا أن للحزب الحاكم فهم خاص لها، ويسعى بشكل دائم إلى إخراج العلمانية “الأتاتوركية” عن مضمونها الأصلي.

فالحزب الحاكم يعتبر أن الصراع بين الدين والعلمانية أبطأ من مسار التنمية والتطور في تركيا. وهو لم يتبنَّ إيديولوجية مباشرة ضد العلمانية إنما قدم فهماً خاصاً بها، وذلك عبر إلغاء كل التأثيرات الغربية (الفرنسية) على العلمانية التركية. كما فهم الحزب العلمانية كدعوة إلى العلم، وتحرير الإنسان وخدمة الخير العام، ورفض مفاهيمها الإلحادية حسب الفهم “الأتاتوركي” لها، كما رفض إبعاد الدين أو رجال الدين عن الفضاء التركي العام، أو الفصل بين الدين والحياة.

غير أن هذا الفهم المرن للعلمانية بالنسبة للحزب الحاكم، لم يعنِ بتاتاً إبعاد الشؤون الدينية وأحكامها عن الحياة العامة، وما السياسة وإدارة الدولة سوى شؤون عامة. لذلك سعى إلى إعادة روحية المفاهيم الدينية كمعايير لممارسة الشأن العام والخدمة، ومارس سياسات يستمد بعضها الشرعية من أحكام الدين، كما أعاد الدين إلى الفضاء العام وزاد من حضوره عبر السياسات التي طبقها تباعاً.

فبات من الطبيعي اليوم في تركيا أن يوجّه ويصلي رجل دين في تجمع للجيش التركي بعدما كان يُحاكم إن لُمح في الشارع معتمراً لباسه الإسلامي. أو أن تدخل المرأة المدرسة والجامعة والبرلمان بلبساها الإسلامي. أو أن يتظاهر أتراك كل فترة أمام متحف “آيا صوفيا” وسط اسطنبول للمطالبة بتحويله إلى جامع. أو أن تشهد ذكرى إعدام “عدنان مندريس” كل سنة تلبية شعبية تزيد عن الاحتفال السنوي الذي يقام لمؤسس العلمانية التركي “أتاتورك”.

أما العلمانية “الأتاتوركية”، فباتت اليوم شعاراً أفرغ من مضمونه، وذكرى ترمز للقمع ودموية العسكر، وما تبقى من فتات إيديولوجية جامدة لم تواكب العصر والتغيرات الاجتماعية التركية، وتركن إليها الأحزاب “الأتاتوركية” عند النضال السياسي والاجتماعي، فتعود خائبة كل مرة وفي كل انتخابات تركية عامة أو مظاهرة شعبية.

العلمانية “الأتاتوركيّة”وخطورتها على الإسلام السياسي

لم تكن العلمانية “الأتاتوركيّة” ناتجة عن مطالب اجتماعية من الأتراك بقدر ما كانت إيديولوجية سياسية وفكرية فرضها “أتاتورك” عليهم بالقوة. وفي مراحل فرضها، أخذت علمانيته بُعداً إلحادياً من ناحية، كما لم تؤمّن منذ البداية شرطيْ المساواة بين الناس أو فصل الدين عن الدولة من ناحية أخرى.
فمن ناحية، كان لإنشاء “رئاسة الشؤون الدينية” أن جعل المؤسسة الدينية في البلاد محكومة من قبل السلطة وأداة إيديولوجية تمكّنها من التدخل في الشؤون الدينية. كما أدت حصرية هذا الجهاز الحكومي في البت في المسائل الدينية، إلى خرق مفهوم المساواة الذي كان من الممكن أن تنجح العلمانية في تحقيقه. فأدى هذا الفهم الخاص للعلمانية إلى فشلها لعدم قدرتها على تحقيق ما تدعو إليه، في حين تولت الممارسات القمعية بإسم العلمانية إلى إبعاد الناس عنها لاحقاً.

القوى العلمانية فى تركيا

بما أن العلمانية في تركيا فرضت بالقوة كان لا بد من وجود مؤسسات تقوم على حمايتها والمحافظة عليها، ويأتي في مقدمة هذه المؤسسات العسكر الذي يعتبر حامي حمى العلمانية حيث تدخل أكثر من مرة لمنع حدوث أي اختراق مثلما حدث في انقلاب عام 1960 حيث قام العسكر بانقلاب على عدنان مندريس واتهموه بالخيانة العظمى وتم الحكم عليه بالإعدام بعد إتهامه بإنتهاك القوانين العلمانية والسماح ببعض المظاهر الدينية في تركيا.

أبرز القوى المدافعة عن العلمانية في تركيا هي الجيش الذي نفذ ثلاثة انقلابات من أجل ذلك، إلى جانب وسائل الاعلام والقضاء وكبار رجال الأعمال والأحزاب اليسارية والجمعيات النسائية

وكذلك انقلاب العام 1971 وانقلاب العام 1980 حيث كانت المسيرة المليونية للاحتجاج على إعلان إسرائيل القدس عاصمة لها في مدينة قونيا والتي دعا إلى تنظيمها حزب السلامة الوطني ذو التوجه الإسلامي سببا رئيسا في القيام بالانقلاب ألاخير وتعطيل الديمقراطية في البلاد، كما أن الجيش كان سببا في انهيار الحكومة الائتلافية التي شكلها نجم الدين أربكان مع زعيمة حزب الطريق القويم تانسو تشيلر عام 1996 بحجة انتشار الرجعية في البلاد وازدياد عدد المدارس الدينية ومراكز تحفيظ القرآن الكريم التي يرى فيها العسكر تهديدا لنظام العلمانية فوجه إنذارا إلى حزب الرفاه عام 1997 وتلا ذلك استقالة أربكان من رئاسة الوزراء في العام نفسه.

وعمل الجيش على مدى العقود السابقة على منع أي نفوذ إسلامي حقيقي في مؤسسات الدولة، ولعل السبب وراء عدم تصادم حزب العدالة والتنمية مع المؤسسة العسكرية تقديمه طرحا متقدما عن خطاب أربكان في الطابع البراغماتي ومتصالحا مع المؤسسة العسكرية والجمهورية الأتاتوركية، ومع ذالك لا ندري إذا كان الوضع سيبقى على حاله في المرحلة القادمة بعد أن تسلم رئاسة الأركان يشار بيوك أنت)الذي أبدى عدم ارتياحه لما تقوم به حكومة أردوغان منذ اليوم الأول لتسلمه لمنصبه الحالي في نهاية أغسطس/ آب 2006.


ومن المؤسسات التي تلعب دورا هاما في الحفاظ على العلمانية في تركيا وسائل الإعلام التي يمتلك 60% منها مجموعة آيدن دوغان، وتأتي في المرتبة الثانية مجموعة جينار، ولوسائل الإعلام في تركيا تأثير كبير على الشارع التركي وتوجهاته، وكما هو معروف أن الإعلام يعد القوة الرابعة إلا أننا في تركيا نقول إن الإعلام هو القوة الأولى في البلد وإذا كان الجيش يذكر قبل الإعلام في الحفاظ على العلمانية فإن الذي يقف وراء تأليب العسكر على الحكومات هو الإعلام وهذا ما حدث مع حكومة أربكان عام 1997 حيث هاجمتها وسائل الإعلام وألبت العسكر عليها وصورت للناس أن الجمهورية في خطر ما أثار حفيظة الجيش ودعا بعض الوزراء من حزب الطريق القويم إلى الاستقالة من الحكومة، وهذا ما اعترف به مؤخرا وزير الصحة في تلك الحكومة وهو من حزب الطريق القويم بأن الإعلام خدعهم وبالغ في تصوير الواقع.

وتعتبر جمعية رجال الأعمال الأتراك التي تضم أغنى رجال الأعمال في تركيا من المؤسسات التي تعمل على حماية العلمانية في تركيا، ويترأس هذه الجمعية دائما أحد القطبين الأكثر غنى في تركيا وهما مجموعة صبانجي ومجموعة كوج، وتسعى هذه الجمعية إلى الحفاظ على العلمانية في تركيا من أجل مصالحها الاقتصادية حيث يعتبر الاستقرار عنصرا أساسيا في تنمية ثرواتهم وأي تغيير في النظام القائم قد يعرض مصالحهم إلى الضرر.

ومن المؤسسات التي تقف في وجه كل من يهدد العلمانية المؤسسات القضائية ومنها محكمة الدستور والمحاكم العليا والمحكمة الإدارية العليا والتي لا تتردد في الحكم لصالح النظام العلماني في كل قضية ترى فيها تهديدا للعلمانية كما في قضية الحجاب وإغلاق الأحزاب ذات التوجه الإسلامي كما حدث في حزب الرفاه وحزب الفضيلة وحزب السلامة الوطني وحزب النظام الوطني التي شكلها نجم الدين أربكان.

كما تعد الأحزاب اليسارية على اختلاف مسمياتها وتوجهاتها حارسة للنظام العلماني بل معادية للدين في كثير من الأحيان، وهذا ما يميزها عن الأحزاب اليمينية والتي تتمسك بالنظام العلماني ولكنها في الوقت نفسه لا تعادي الدين وتميل إلى حرية التدين.

وهناك العديد من مؤسسات المجتمع المدني والنقابات التي تنصب نفسها حامية للعلمانية في تركيا ومنها جمعية دعم الحياة العصرية، وجمعية الفكر الأتاتوركي، ووقف التعليم التركي، وجمعية أتاتورك للغة والتاريخ، ونقابات المحامين والعديد من الجمعيات النسائية.


عودة الحياة السياسية التعددية إلى تركيا

مع عودة الحياة السياسية التعددية إلى تركيا استطاع تيار الإسلام السياسي زيادة شعبيته على حساب القوى العلمانية، في حين بات هذه الأخيرة تمارس القمع والإكراه تجاه الأتراك، فاستغل تيار الإسلام السياسي أخطاءها لحصد المزيد من الشعبية والتأثير. وكانت عوامل أربعة قد مكنته من التقدم في تركيا والظفر في السلطة لاحقاً، إلا أن أبرزها يعود إلى استغلال السياسات القمعية التي مارسها العلمانيون عبر الانقلابات المتتالية، في حين لعب غياب اليسار التركي، والنزوح من المدن إلى الريف، ومظلومية القوى الإسلامية كعوامل ساهمت في زيادة شعبية الإسلام السياسي.

مع وصول حزب “العدالة والتنمية” إلى الحكم، برز فهم خاص للعلمانية في تركيا، فلم يتم إلغاؤها من الدستور إنما أفرغت من مضمونها بعد أن قدم الحزب فهماً خاصاً لها، ومارس سياسات متتالية أعادت الاعتبار للمفاهيم والرموز الدينية في المجتمع والدولة.وعلى الرغم من أن سياسات الحزب الحاكم أصبحت محافِظة أكثر بعد العام 2011، إلا أنه أعاد الإسلام إلى الفضاء التركي العام عبر إحداث تغييرات اجتماعية عميقة غالباً ما ألحقها بقوانين وتشريعات كاستجابة لمطالب المواطنين، وذلك على نقيض “الأتاتوركية” التي فرضت العلمانية بشكل فوقي على الأتراك.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق