الجمعة، 17 نوفمبر 2023

ضمائر الشعوب ليست في حاجة إلى قمم

 ضمائر الشعوب ليست في حاجة إلى قمم

عبد الناصر سلامة


مظاهرات الشعوب ضد الحرب (الأناضول)

بيان مشترك للاتحادات العمالية الهندية أكد أن عمال البناء الهنود لن يكونوا بديلًا للعمال الفلسطينيين، الذين أوقفت الحكومة الإسرائيلية تصاريح عملهم، وعقدت اتفاقًا مع الحكومة الهندية يتم بموجبه استقدام عشرات الآلاف من العمال الهنود لسدّ العجز، وفي بلجيكا دعت نقابة عمال النقل هناك أعضاءها إلى رفض تحميل أو تفريغ شحنات الأسلحة التي ترسل إلى إسرائيل، وقال بيان بينما تجري عمليات إبادة جماعية في فلسطين، فإن تحميل أو تفريغ هذه الأسلحة يعني المساهمة في إمداد الأنظمة التي تقتل الأبرياء.

وفي بريطانيا رفض رئيس شرطة لندن مارك رولي للأسبوع الخامس على التوالي، طلب رئيس الوزراء ووزيرة الداخلية المقالة، منع المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، وبلغت الأزمة بين الحكومة البريطانية ورئيس الشرطة مرحلة من التحدي، خصوصًا بعد أن قال رولي: “لسنا في الهند حتى نمنع المظاهرات” في إشارة إلى الأصول الهندية لريشي سوناك رئيس الحكومة، وفي فرنسا كانت المظاهرات فاعلة بشكل كبير لصالح الشعب الفلسطيني، منذ اليوم الأول للعدوان، على خلاف الموقف الرسمي الذي كان في البداية داعمًا لسلطة الاحتلال بشكل مستفز، لدرجة أن الرئيس الفرنسي كان في طليعة قادة الغرب، الذين قاموا بزيارة دعم لتل أبيب.

الشعوب ليست بحاجة إلى قرارات حكومية

نماذج كثيرة، من الولايات المتحدة الأمريكية، إلى النرويج، إلى داغستان، إلى جنوب إفريقيا وغيرها، دللت من خلالها الشعوب على أنها ليست في حاجة إلى قرارات حكومية أو رئاسية، أو حتى إلى قمم دولية أو اجتماعات من أي نوع، حتى يمكنها أن تكون فاعلة في صناعة الأحداث، أو حتى يمكن فرض إرادتها على صناعة القرار الداخلي والخارجي في آن واحد، وهو ما بدا واضحًا بشكل خاص في عدد وحجم المظاهرات الصاخبة في دول الغرب، مقارنة بالدول المعنية بالقضية أو ذات الصلة بمجرياتها، وتحديدًا الدول العربية والإسلامية، التي لم تكن على مستوى الحدث، على المستويين الرسمي والشعبي في آن واحد.

كل ذلك يؤكد ما تناولناه سابقًا من أن الأمر لم يعد في حاجة، ولم يكن قط في حاجة إلى منظمات وتجمعات دولية وإقليمية، حتى يمكن إعمال المنطق والعدل والضمير، وكل ذلك يؤكد أن القرار يجب أن يخضع في نهاية الأمر لإرادة الشعوب، بمنأى عن خطط التقسيم العنصرية، ومؤامرات التهجير الطائفية، وألاعيب الساسة الذين كشفت أحداث قطاع غزة سوءاتهم على مسمع ومرأى العالم، ولم يعد هناك من الأقوال والمزاعم البالية ما يمكنه ستر هذه العورات على مدى عقود وأجيال عديدة مقبلة.

لكن الغريب في الأمر، هو تلك المفارقة الواضحة والمتفاوتة إلى أبعد حد، بين المشاعر الإنسانية للحكام والمحكومين، وكأن الحكام -إلا ما ندر- قد حصلوا قبل اعتلاء سدة الحكم على دورات تدريبة، صهيونية أو نازية، يلقون خلالها إنسانياتهم وأخلاقياتهم في سلة القمامة كشرط للتنصيب، فلا مشاهد قتل الأطفال تؤثر فيهم، ولا أعداد قتلى النساء تستوقفهم، ولا حجم الدمار يؤلمهم، وكأنهم سقطوا من عداد البشر إلى غير رجعة، مما جعل الشعوب لا تعلق أملًا على مواقفهم، ولا تتوقع خيرًا من قممهم.

قد تكون الشعوب بالفعل أمام مشكلة خطيرة من الصعب تجاوزها، حين الاختيار في الانتخابات الرئاسية بين قاتل وقاتل، أو مأجور ومأجور، في هذا البلد أو ذاك، دون وجود البديل المنافس أو البديل المؤتمن، وربما كانت الحالة الأمريكية هي النموذج الصارخ في هذا الصدد، ذلك أن الخيار ينحصر الآن بين الرئيس جو بايدن، كداعم محرض وداعم للقتل في قطاع غزة، والرئيس السابق دونالد ترمب، وهو الأكثر دعمًا وتحريضًا، في سباق واضح على كسب أصوات ودعم اليهود هناك، دون وضع البعد الأخلاقي والإنساني في الاعتبار بأي شكل من الأشكال، وهو الأمر الذي يضع الناخب الأمريكي في موقف لا يحسد عليه، ذلك أنه لا مجال في السباق للبديل، الذي لن يكون له وجود في عالمنا المعاصر على أقل تقدير.

انتفاضة أخلاقية

الحالة في عالمنا العربي قد تكون أكثر سوءًا من كل الوجوه؛ ذلك أن الشعوب في مجملها، غير معنية باختيار القيادات على أي صعيد، لذا كان من الطبيعي أن نستمع لأحد السياسيين والتنفيذيين يجزم ويؤكد على الهواء مباشرة، وأمام ملايين المشاهدين، أن الولايات المتحدة وإسرائيل معًا، يجب أن يوافقا على هذا الشخص أو ذاك قبل اختياره رئيسًا، وهو ما لم يتم نفيه أو حتى التعقيب عليه من القيادة السياسية، في موافقة صريحة على ذلك الاعتراف الصادم، الذي كان على الأقل مثار شك حتى اللحظة قبل أن يتم تأكيده، في زمن لم تعد تستطيع فيه وسائل الإعلام المحلية التشدق بالسيادة والاستقلال، على الأقل في صنع القرار، أو أي شيء من هذا القبيل، إدراكًا للواقع المُرّ أو الحقيقة المؤلمة.

أزمة الشعوب العربية، أصبحت بمثابة مرض شامل لا يرجى برؤه، وقد ساهمت فيها المناهج الدراسية، كما ساهمت فيها وسائل الإعلام، والتربية الأسرية التي آثرت سلامة أبنائها من البطش الرسمي، كما ساهم فيها أيضا، وبشكل خاص، خطباء المنابر في دور العبادة، هؤلاء الذين اجتزؤوا النصوص، وحرفوا التفاسير، واستندوا إلى روايات ضعيفة ومدسوسة، الإسلام منها براء، كما حادوا عن الحق لصالح حاكم جائر، أو ظالم مستبد، وقبل كل ذلك ساهم فيها بطش الحكام الذين امتلأت سجونهم بشرفاء القوم، وهاجر من أوطانهم الأكثر رجاحة وعلمًا، وصمت عن الجهر بالحق في وجوههم الأكثر وطنية وفقهًا.

يجب أن نعترف إذن بأننا في حاجة إلى صحوة ضمير، إلى انتفاضة أخلاقية، إلى ثورة على الظلم يعي من خلالها حكام الداخل وداعموهم في الخارج، أن الأوضاع فيما بعد القتل بدم بارد على مدار الساعة في صفوف الأشقاء في غزة، لن تكون أبدًا كما كانت قبله، وهو الأمر الذي يخشاه هؤلاء وأولئك الآن بالفعل، إلا أنه يحتاج إلى الصراخ بصوت عالٍ، حتى يعي المتآمرون والمتصهينون وحتى الصامتون، أن الحساب قادم لا محالة، وأن وقت التوبة قد نفد، ذلك أن الدماء غزيرة إلى الحد الذي لا يجوز معه أبدًا العفو أو الصفح.. هو إذن دور الشعوب ولا أحد غيرهم، والأمر ليس في حاجة إلى قمم ومؤتمرات، بقدر ما يحتاج إلى إرادة شعبية واعية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق