الحد الفاصل بين الحضارة والوحشية
بعد "طوفان الأقصى" سارع رئيس الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو إلى إعلان الحرب على حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ووصف هذه الحرب بأنها حرب الحضارة والعالم المتحضر ضد الوحشية، واصفاً حماس بالنازية والداعشية (نسبة إلى تنظيم داعش). فإذا كانت حماس بقيامها بهجوم طوفان الأقصى حركة وحشية نازية، وما هي إلا ساعات حتى بدأ رد الفعل الصهيوني/ الأميركي على قطاع غزة بهدف القضاء على حركة حماس، في همجية دموية ووحشية بربرية وحرب إبادة لم يشهد لها العالم مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية، راح ضحيتها في الأسابيع الثلاثة الأولى أكثر من ٨ آلاف قتيل و٢٠ ألف جريح، حوالي ٦٥٪ منهم من الأطفال والنساء، تحت ركام منازلهم التي دمّرتها القذائف والصواريخ الصهيونية القادمة من الجو والبر والبحر، والتي أتت على أكثر من ثلث الوحدات السكانية في مدينة غزة وحدها، ومع ذلك مازال نتنياهو يكرر أن هذه الحرب هي حرب العالم المتحضر، ومازالت الولايات المتحدة والدول الغربية الرئيسية تؤيده في ذلك وتشجعه على مواصلة حربه (الحضارية) حتى تحقيق هدفه. فما الحد الفاصل بين الحضارة والوحشية؟
عربدة القوّة، هي التي تصوغ الاتفاقيات والمعاهدات والمواثيق وتفرضها على غيرها من الدول والمنظمات والمجتمعات، وهي التي تكافئ الملتزمين بها، وتعاقب المخالفين لها، وهي التي تحدد تعريفات المصطلحات بما يتراءى لها، فتجعل من القتل والدمار والإبادة عملاً حضارياً أو عملاً وحشياً، وتجعل من القتلى أبطالاً مخلّدين أو ضحايا أو إرهابيين مجرمين.
عربدة القوّة
تأملت الوقائع التاريخية القديمة والحديثة، ورجعت إلى المواثيق الدولية والإعلانات الحقوقية والتعريفات الاصطلاحية، بحثاً عن إجابة لسؤال: ما الحد الفاصل بين الحضارة والوحشية؟ فوجدت الإجابة تكمن في أمر واحد، ألا وهو عربدة القوّة. فالقوّة بجوانبها المختلفة: العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية والفكرية والإعلامية، هي التي تصوغ الاتفاقيات والمعاهدات والمواثيق بما يتناسب مع مصالحها، وهي التي تفرضها على غيرها من الدول والمنظمات والمجتمعات، وهي التي تكافئ الملتزمين بها، وتعاقب المخالفين لها، وهي التي تحدد تعريفات المصطلحات بما يتراءى لها، دونما اعتبار للجهات المعترضة والمتحفظة.
القوّة هي التي سوّغت للامبراطوريات والممالك استباحة الأراضي واستحلال الدماء وتسخير الشعوب لصالح أهدافها، ولتكريس الغلبة وفرض الهيمنة الإقليمية والدولية، تحت شعارات المدنية والتحضّر ومحاربة التخلف وقوى الشر والإرهاب. القوّة هي التي تسببت في إراقة دماء ملايين البشر في أوروبا في ثورات وحروب طاحنة، المنتصر فيها هو رافع لواء الحضارة والتقدم والتنوير، والخاسر فيها هو المتسبب في التخلّف والرجعية والفساد والاستبداد. والقوّة وحدها هي التي سوّغت للثورة الروسية الحمراء سفك دماء عشرات الملايين من البشر تحت الذرائع نفسها أو ما يعادلها، وهي التي سوّغت لروسيا المعاصرة احتلال شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا.
عربدة القوة هي التي سوّغت للولايات المتحدة إلقاء القنابل النووية على هوريشيما ونجازاكي لتخليص العالم من شرور الإمبراطورية اليابانية، وحتى الآن لم تعترف الولايات المتحدة بأنها ارتكبت جريمة إنسانية بحق المدنيين الأبرياء لعدة أجيال. القوّة وحدها هي التي تجعل من القتل والدمار والإبادة عملاً حضارياً أو وحشياً، وتجعل من القتلى أبطالاً مخلّدين أو ضحايا أو إرهابيين مجرمين.
إن عربدة القوة هي الحد الفاصل بين الحضارة والوحشية، وهي التي جعلت من حماس منظمة إرهابية نازية، ومن العدو الصهيوني البربري نموذجاً للحضارة والتقدم في الشرق الأوسط.
ما أشبه الليلة بالبارحة
قبل ٢٢ عاماً، بعد الهجمات التي قام بها تنظيم القاعدة على مركز التجارة الدولي في نيويورك، سارع الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، وسارع وراءه العديد من المسؤولين الغربيين؛ إلى تعريف الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على أفغانستان أواخر العام ٢٠٠١م بأنها حرب العالم المتحضّر ضد العالم المتوحش متمثلاً في (تنظيم القاعدة). وقفت الولايات المتحدة، والدول الغربية الرئيسية (المتحضّرة)، وهي الدول نفسها التي وقفت إلى جانب الكيان الصهيوني من اللحظة الأولى، مشددة على هجومه الهمجي الجنوني على قطاع غزة.
تسببت هجمات ١١ سبتمبر في مقتل ما يقرب من ثلاثة آلاف إنسان، وبضعة مئات من مليارات الدولارات، لتقوم بعدها الولايات الأميركية باحتلال أفغانستان لما يقرب من ٢٠ عاماً، بهدف القضاء على القاعدة وإقامة حكم ديمقراطي وغرس ثقافة الحرية وحقوق الإنسان في المجتمع الأفغاني، فماذا حدث؟ قررت الولايات المتحدة إنهاء مهمتها في أفغانستان بعد أن فقدت أكثر من ٢٥٠٠ جندي، وأنفقت حوالي ٢ ترليون دولار وخدمة ديون تصل إلى ٢ ترليون دولار، أي معدل يصل إلى ٢٠٠ مليار دولار سنوياً، وإصابة نحو ٢٠ ألف جندي، عدا خسائر دول التحالف البشرية والمالية. أضف إلى ذلك أكثر من ١٦٠ ألف قتيل ومثلهم جرحى من الأفغان، ما بين قوات الحكومة الموالية للغرب وحركة طالبان والمدنيين، فضلاً عن سرقة عقدين من الزمان من عمر أفغانستان، تعطل فيها النمو، وتغلغل فيها الفساد، وعاش فيها الشعب رهين الرعب والقلق والمعاناة والاستغلال.
انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان دون أن تعترف بالفشل، ودون أن تقدم اعتذاراً عما اقترفته في أفغانستان، ودون أن تقدّم تعويضاً عن الجرائم التي ارتكبتها هناك طيلة ٢٠ عاماً، وحتى دون أن تعتذر للشعب الأميركي عن خسائرها البشرية والمالية التي أهدرتها في هذه المدة التي تعاقب عليها ٤ رؤساء، جميعهم مجرمون في حق أفغانستان وحق شعبهم.
عربدة القوّة هذه هي التي جعلت الإدارات الأميركية تكرر قولها بأهمية إسرائيل بالنسبة لها، وبأنه لو لم يكن هناك إسرائيل لقاموا بإيجادها، وهي التي فرضت على الشعب الفلسطيني لأكثر من ٧٥ عاماً أن يخضع لعربدة قوة الاحتلال تحت الحماية الأميركية، وأن يخضع لمراوغات الولايات المتحدة المتتابعة وأكاذيبها حول السلام والاستقرار والدولة الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني.
إن عربدة القوة هي الحد الفاصل بين الحضارة والوحشية، وهي التي جعلت من حماس منظمة إرهابية نازية، ومن العدو الصهيوني البربري نموذجاً للحضارة والتقدم في الشرق الأوسط. وهذه المسألة، تطرح نفسها بقوّة على المنظمات الدولية والمشرعين وخبراء العلوم السياسية والاجتماعية والفلاسفة وذوي الاختصاص، لمراجعة المواثيق والمعاهدات الدولية وهياكل المنظمات الدولية، وإعادة بنائها وتطويرها بما يمنع عربدة القوّة من التمرّد عليها، والتدليس السياسي على دول العالم باستخدام المصطلحات كيفما يحلو لها، بما يتعارض مع مواثيق الأمم المتحدة ومنظماتها وإعلاناتها وهياكلها، وبما يؤدي إلى زعزعة الاستقرار والسلم الدوليين وانتهاك حقوق الإنسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق