مناقشة رؤية المسيري حول مصادر قوة إسرائيل
"ليسَ لدى إسرائيلَ قوّة خاصّة بها. لديها فقط دعايةٌ تبدو قوية جدًا. هناك مصدران خارجيّان للقوّة يبقيانها على قيد الحياة: الأوّل هو الدعم غير المحدود من الولايات المتّحدة. والثاني هو اللامبالاة غير المحدودة للدول العربيَّة".. هذا ما قاله عبد الوهاب المسيري في مقابلة أجراها قبل وفاته مع قناة الجزيرة، راسمًا صورةً أخرى للإرهاب الإسرائيليّ، وجرائم الإبادة التي نعيشُ حالةً صارخةً لها اليوم. نقول: "صورة أخرى"؛ لأنه لا يمكن تلخيص هذا الإرهاب في صورة واحدة. لكن قبل أن ننتقل إلى الصور الأخرى، دعونا ننظر إلى هذه الصورة بمزيدٍ من العمق.
أولًا: الدعم غير المحدود من الولايات المتحدة
تبدو إسرائيل اليوم قوّة كبيرة تشبه ثورًا هائجًا انحلّ خِطامُه، وذلك بفعل الدعم غير المحدود الذي تقدّمه لها الولايات المتحدة. إنها تسبّب أضرارًا كبيرة بهذه القوة التي تظهرها بسبب فقدانها السيطرةَ، لكن مصدر هذه القوة لم يعد أيضًا تحت سيطرتها، فالولايات المتحدة التي تقدم لها الدعم غير المحدود تفقد يوميًا- بسبب ذلك- قدرتها على أن تكون محورًا في النظام العالميّ.
نحن نعلم أنَّ تاريخ أميركا يشمل: إبادة الهنود الحُمر، والعنصرية والعبودية ضدّ السود، وهيروشيما، وفيتنام، وأفغانستان، والعراق، ولذلك فمن غير المنطقي أن نتوقّع منها أن تتصرف بشكل مختلف اليوم، وهي تروّج للقيم الأميركيّة.
أميركا في جوهرها قامتْ على اللصوصية، والإبادة، وجرائم الحرب، ولم تتم محاسبتُها على ذلك أبدًا. وبالنسبة لها، الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات والعِلمانية هي مجرد أدوات للخطاب الإمبريالي تستخدمه كحصان طروادة لاختراق البلدان الأخرى، وأداة لجذب العملاء في إطار المنافسة على قيادة النظام العالمي. ولكن يجب ألا ننسى أنّه لا توجد قوة غير محدودة. فكل كيان قوي يصاب يومًا بالضعف، ويكتشف أنّ قوته قد نفدت.
عندما سُئِل وزير الخارجية الأميركي بلينكن- الذي التقى في الأردن بنظيرَيه المصري والأردني- عن جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل أمام أعين العالم، وهجماتها على المستشفيات والمدارس التي أوقعت آلاف القتلى من الأطفال والنساء والمدنيين، لم يخجل وهو يردّد التميمة المحفوظة: "لإسرائيل الحقّ في الدفاع عن نفسها"، لكنّه تعثّر كثيرًا بعد أن قال ذلك.
لقد كان لهذه الكلمات قَبول أوسع في الماضي، ولكن الآن يرى الجميع- من عاصمة بلده إلى عواصم العالم الأخرى- أنّ إسرائيل تُظهر عدوانيّة غير مسيطر عليها ووحشية وبربريّة وظالمة، لا علاقة لها بالدفاع عن نفسها. يرون هذه الدعاية الخادعة في عيون الأطفال الممزّقة التي لم تغلق. يرونها في جثة جنين لا يزال في بطن أمّه التي قتلت في القصف. يرون القسوة في استهداف المُصابين مرّة أخرى وهم في المُستشفيات. ويثورون على خطاب الضحيّة الذي يستخدمُه اليهود منذ 75 عامًا للتغطية على جرائمهم الشنيعة. يكشفون عن آلة الإبادة الجماعية التي تحوّلت إلى وحش وهي تردّد عبارات الشّفقة على نفسها.
"أعمال المسيري هي تنبيه للعالم العربيّ- الذي أدمن الاستسلام لإسرائيل؛ اعتقادًا في القوة الهائلة المنسوبة إليها- بأنَّ لديه ما يكفي للمقاومة وللتغلّب عليها"
ثانيًا: اللامبالاة غير المحدودة للعالم العربي
في مواجهة الدعم غير المحدود الذي تقدمه أميركا لهذه الوحشية، هناك لا مبالاة غير محدودة من العالم الإسلامي، وذلك أيضًا مصدر قوة هام لإسرائيل.
نحن لا نتحدّث عن الشعوب بالطبع. بل عن بعض القادة الذين يرون أنهم يدينون بوجودهم وبقائهم للقوى ذاتها التي أنشأت إسرائيل، فتنعقد ألسنتُهم وأيديهم.
لكن ينسى هؤلاء أنَّ مئة عام مرَّت على تلك الفترة التأسيسيّة، والعالم لم يعد كما كان. ومن منظور علم الاجتماع السياسيّ، فحتّى الدول التي تبدأ معتمدةً على غيرها، أو يبدو أنّها تمّ تعيينها كنائب عن الحكم الاستعماريّ، يمكنها في النهاية أن تصل إلى إمكانات ومجالات تتيح لها التحرك بشكل مستقل. وحين تتاح هذه الإمكانات ولا تستخدم فإنَّ ذلك يعني أنّ قادة هذه الدول، إما غير قادرين على التغلب على عجزهم المكتسب، أو أن لديهم ولاءً صادقًا لمن منحهم السلطة يمنعهم من الاستقلال.
وإلا، فكيف لا يهتم عربي أو مسلم بهذا الاغتصاب لكرامة الإنسان والحياة والمقدسات في فلسطين؟ المسجد الأقصى هو مقدس ولا يمكن لمسلم أن يقف مكتوفَ اليدَين تجاهه. الهجمات على المسجد الأقصى، والقدس، وأطفال ونساء ومدنيي غزة، هي إهانة وإذلال وهجوم مباشر على كل دولة عربية وإسلامية. وصمتُ ولامبالاة العالم العربي والإسلامي والتركي، هما أكبر قوة لإسرائيل. وإلا، فلا قوة لدى إسرائيل في حد ذاتها.
لقد أثبتت كتائب القسَّام ذلك منذ 7 أكتوبر. وكشف "طوفان الأقصى" للعالم أجمع أنّ إسرائيلَ ليس لديها جانب مخيف. من قطعة أرض صغيرة جدًا تعيش تحت أشد حصار في التاريخ الحديث منذ 17 عامًا، قام عدد قليل من المقاتلين بتلطيخ كرامة وزهو جيش كبير (لديه دعم غير محدود من الولايات المتحدة وتجاهل غير محدود من العالم العربي). لقد أظهر هذا أنّ إسرائيل، بجيشها وما لديها من دعم، ليست أكثر من فقاعة.
القوة المطلوبة
الرسالة الرئيسيَّة لهذا العمل يجب أن تكون للعالم الإسلامي. إذا وجهوا بنادقهم إلى إسرائيل، فكل شيء سيكون مختلفًا. وحتى لو لم يوجهوها إلى إسرائيل، فإن مجرد عدم توجيهها إلى شعوبهم سيكون كافيًا لمواجهة إسرائيل. القوَّة التي يحتاجها العالم الإسلامي للتصدي لإسرائيل وأميركا اللتين تظنان أنهما قوة لا حدود لها، موجودة فقط في أنفسهم. أظهرت كتائب القسَّام ذلك بقلّة عددها وإمكاناتها. أظهرت أن إسرائيل ومَن خلفها لا تشكلان قوة تستحق الخوف.
الولايات المتحدة وإسرائيل لا يمكنهما أن تكونا مصدر فائدة أو ضرر للمسلمين، وقد أثبتتا أنهما غير قادرتَين على الوفاء بما تقدمان من وعود.
لقد حان الوقت، واقترب يوم الحساب. في العالم الذي نشأ بعد 7 أكتوبر، لن يقف أي من دول العالم الإسلامي خلف من كانوا يعتمدون عليه، ولن يتمكنوا من القيام بذلك. وسيرون أن إسرائيل والولايات المتحدة، اللتين كانوا يثقون بهما كثيرًا، لن تكونا أبدًا صديقتين لهم، بل إنهم يرون ذلك الآن.
للكاتب عبد الوهاب المسيري، الذي كان ماركسيًا ثم تحول إلى إسلامي الفكر والتوجه، دراسات قيمة للغاية حول إسرائيل والصهيونية، من بينها كتاب عنوانه: "الصهيونية وخيوط العنكبوت. "
في ذلك الكتاب، يقول المسيري: إنَّ أفضل ما يمكن أن يعبّر عن قوة إسرائيل هو "خيوط العنكبوت". مستعيرًا في ذلك الوصف القرآنيّ في سورة العنكبوت: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. بيت العنكبوت هو أضعف المنازل، بل أكثرها ضعفًا. بالطبع، لم يهدف المسيري بذلك إلى الاستهانة بقوة إسرائيل، بل لمعرفتها بشكل أفضل، وعدم الاغترار بها.
أعمال المسيري هي تنبيه للعالم العربي- الذي أدمن الاستسلام لإسرائيل؛ اعتقادًا في القوة الهائلة المنسوبة إليها- بأنَّ لديه ما يكفي للمقاومة وللتغلّب عليها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق