لماذا ورطت الكتائب نفسها بالهجوم المبادر؟!
أكاديمي ، وأستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية، وعضو عدد من المؤسسات العلمية العالمية.
قال لي: لماذا هاجمت المقاومة الجيش الإسرائيلي، وبادرته بالقتال، وهو من أكبر الجيوش المسلحة في العالم، وما تملكه إسرائيل من ترسانة نووية لا تملكه دولة أخرى، في الوقت الذي لا تكافئ قوة المقاومة فيه هذه القوة الترسانية الكبرى.. كيف تجازف المقاومة ويترتب على مجازفتها كل هذه المجازر؟
قلت له: إن الكتائب لها الحق في أي وقت أن تقوم بهذا وأكبر منه، كونها كيانا مجاهدا مقاوما، منوط به ومن حوله تحرير الأرض التي احتلها العدو، وهل يحتاج أهل البلد المحتلة إلى مسوغ كي يسوغوا به مقاومتهم وتحقيق تحرير الأرض والعرض؟ وإذا كان هذا بحق أي أرض، فكيف بالأرض التي فيها مقدسات، وهي وقف للمسلمين وليست ملكا للفلسطينيين وحدهم، وقد أجمع العلماء في كل عصر على أن أرض فلسطين أرض وقف للمسلمين لا يجوز بيع شبر من أراضيها؟
إن الواجب الشرعي والإنساني، بل إن الواجب العربي المجرد بعيدا عن شرع وإنسانية، العرب بوصفهم قومية وأصالة وأخلاقا، يحتم عليهم القيام بواجب العروبة والنجدة والنصرة الذي تميزت به العرب قديما، بأخلاقها في النجدة والمروءة والنصرة
ثم عليك أن تسمع المزيد: إنها أرض الأنبياء، وأرض الإسراء والمعراج، وأرض المحشر والمنشر، فيها المسجد الأقصى المبارك: أولى القبلتين، وثالث المسجدين، الذي ثبت في السنة أنه ضمن المساجد التي تشد لها الرحال، وأن الصلاة فيه بخمسمائة صلاة فيما سواه، وأن يكون للمرء مثل "شطن فرسه" أي حبل فرسه يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا وما فيها، روى الحاكم في المستدرك، وصححه، ووافقه الذهبي، من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلنا: أيهما أفضل: مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو مسجد بيت المقدس؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض، حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعا» – أو قال: «خير من الدنيا وما فيها».
فقال: كلامك صحيح، ولكن ما جرى بعد ذلك من تحالفات العالم الغربي مع إسرائيل، ووقوفهم صفا واحدا معها: زيارات مباشرة، وإمدادا بالسلاح، وتوصيلا للذخائر والطائرات الحربي، وتسييرا للأساطيل البحرية، في الوقت الذي يتخاذل فيه العالم العربي الرسمي، وبخاصة في دول الطوق .. كان أولى بالحركة وكتائبها أن تحسب حسابه، وتدرك أن العالم العربي الرسمي – إلا من رحم الله – قد قام بالتطبيع العلني مع هذا العدو، وهذا يقضي بأن موقف هذه الحكومات لن يكون أبدا مع المقاومة وضد إسرائيل في الوقت نفسه، أليس من الواجب أن يكون هذا كله في حساب المقاومة وتقيم له اعتبارا وحسابا؟!
قلت له: هذا كله واضح للمقاومة من قبل، وقد طورت قدراتها بما تستطيع أن تعتمد به على نفسها دون ظهير من أحد، متوكلة على الله، وما نراه في الواقع خير دليل يصدق هذا، سواء في مبادرتها بالضربة القوية التي سددتها للعدو في غلاف غزة ومستوطناته، أو بمواجهة العدو والحيلولة بينه وبين الاجتياح البري، وإذا كانوا قد قاموا بواجبهم فلن نقول على الآخرين القيام بالواجب العسكري في مقابل التحالف الدولي مع إسرائيل عسكريا وماليا، وإنما عليهم أن يفتحوا المعابر ويقوموا بتوصيل المواد الإغاثية والطبية والغذائية، وإعادة الإعمار والبناء، والعمل على وقف هذه الحرب الظالمة التي لم يشهد لها الواقع الفلسطيني مثيلا من قبل، والتاريخ سيذكر من أيد ومن تآمر، من قام بالواجب ومن تخاذل.
إن الواجب الشرعي والإنساني، بل إن الواجب العربي المجرد بعيدا عن شرع وإنسانية، العرب بوصفهم قومية وأصالة وأخلاقا، يحتم عليهم القيام بواجب العروبة والنجدة والنصرة الذي تميزت به العرب قديما، بأخلاقها في النجدة والمروءة والنصرة، حتى قال قائلهم:
وننصر مظلوما ونمنع ظالما .. إذا شيك مظلوم بشوكة ظالم
نحن لسنا في معركة عادية، نحن في وقت يتباين فيه الجمعان، ويتجلى الفريقان، ويظهر في العالم فسطاطان: فسطاط الحق وفسطاط الباطل، فسطاس الإيمان وفسطاط النفاق، فسطاط العون والتأييد وفسطاط الخزي والتخذيل.
ثم متى كان المسلمون ينتصرون بكثرة العدد أو كثر العدد؟ ألا تذكر كيف كان المسلمون الأوائل؟ في غزوة بدر كانوا ثلث الجيش الآخر، وفي معركة مؤتة كان عددهم ثلاثة آلاف، وعدد الغساسنة والروم مئتي ألف، حتى حينما كان عددهم اثني عشر ألفا في غزوة حنين، كان عدد جيش الكفار 30 ألفا، ومع هذا هزموا ليس لقلة العدد وإنما للعجب الذي أصابهم من كثرة عددهم رغم أن عدد الكفار ثلاثة أضعافهم، قال تعالى: ﴿ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلن تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين﴾ [التوبة ٢٥].
على أن الله تعالى يطالبنا ببذل الجهد، واستفراغ الوسع، وطرق الأبواب، والأخذ بما نملكه من أسباب، وعندئذ يتسلم الله -جل جلاله- مسار الأحداث ونتائجها، والمهم أن يبذل المسلمون ما في وسعهم، واليقين بأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، فهل بذلنا ما في وسعنا؟! هذا هو السؤال الذي يحتاج لجواب عملي.
فقال لي صاحبي: إن استحضار الأبعاد الإيمانية أمر في غاية الأهمية في مثل ما نحن فيه، وهذا لا يتعارض مع بذل الجهد واستفراغ الوسع، وهو الأهم والمعول عليه، بل هو من تمام اليقين بالله تعالى والتوكيل عليه.
قلت له: نعم، ونحن لسنا في معركة عادية، نحن في وقت يتباين فيه الجمعان، ويتجلى الفريقان، ويظهر في العالم فسطاطان: فسطاط الحق وفسطاط الباطل، فسطاس الإيمان وفسطاط النفاق، فسطاط العون والتأييد وفسطاط الخزي والتخذيل.
وإن ما بعد السابع من أكتوبر 2023م لن يكون كما قبله، وهي خطوة كبرى على طريق التحرير، ومهما قامت إسرائيل بمجازر ومذابح للأبرياء والأطفال والنساء التي يراها العالم متفرجا بل متفهما ومؤيدا، فلن تمحو به عار الهزيمة النكراء التي لحقتها، ولن تستطيع التخلص من الخسائر والضربات التي سددتها لها المقاومة، ولتعلمن نبأه بعد حين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق