المتحف الكبير والسطو على التاريخ وتدويل الآثار
دول العالم تقيم المتاحف لعرض تراثها والتعبير عن نفسها، والمباهاة بحضارتها، لكن أن تقيم متحفا للتعبير عن حضارة عدوها فهذا لا يحدث في أي دولة حتى لو كانت دولة مخطوفة، ومستعمرة تابعة لقوى خارجية.. لكن هذا للأسف ما يجري في مصر حيث يتم بناء أكبر متحف في العالم لتجسيد رحلة خروج بني إسرائيل من مصر القديمة.
الحقيقة الصادمة أن المتحف المصري الكبير الذي يتم بناؤه بجوار الأهرامات الثلاثة جزء مكمل للمتاحف اليهودية في أوربا، التي تحكي تاريخ الشعب اليهودي ورحلة الشتات، وتستخدم التصميمات الهندسية والرموز الماسونية لربطها بحائط المبكى والهيكل المزعوم في القدس المحتلة.
لم يكن الإعلان عن تأجير منطقة الأهرام لشركة بريزم إنترناشيونال الإماراتية لمدة 20 عاما إلا حلقة واحدة من سلسلة السطو الصهيوني على الحضارة المصرية، وانتزاع ملكية الآثار من الحكومة المصرية، وتدويلها ليسهل تزييف التاريخ بما يخدم المزاعم الإسرائيلية، التي تدعي أن اليهود هم بناة الأهرامات.
حاول اليهود كثيرا من خلال علماء الآثار الصهاينة تقديم تفسيرات كاذبة مفادها أن بني إسرائيل هم الذين بنوا الحضارة المصرية، لإضفاء أهمية للوجود اليهودي في مصر، ووصلت المبالغات إلى الادعاء بأن مزامير داوود وألواح موسى في غرفة سرية بالهرم لم يتم اكتشافها (انظر كتاب المؤامرة الصهيو-عالمية على الآثار المصرية للأستاذ محمود عابدين).
من المعروف أن الحركة الماسونية تتخذ الهريم الذهبي وهو المثلث الصغير الذي تخيلوه فوق الهرم الأكبر رمزا، ووضعوا صورته على الدولار الأمريكي، ولم تتوقف المحاولات اليهودية عن التنقيب داخل الهرم، تحت شعارات البحث عن أسرار الأهرامات، من خلال أثريين يهود يأتون إلى مصر عبر شركات وكيانات أجنبية.
كتب التاريخ تفضح الادعاءات اليهودية، فالأهرام بنيت في عهد الدولة القديمة بينما جاء اليهود إلى مصر في عهد الدولة الحديثة، أي بعد بناء الأهرامات بقرون، ويمكن الرجوع في هذا إلى كتاب العالم الأثري نور الدين عبد الصمد بعنوان “العبرانيون وبنو إسرائيل واليهود في مصر خلال العصر الفرعوني”.
أن تستمر عمليات التنقيب الصهيونية في إطار المحاولات المعزولة التي لم ولن تثبت هذه الادعاءات فهذا متوقع، لكن أن يتم تسخير السلطات في مصر لبناء أكبر صرح أثري بالديون التي سيتحملها المصريون، يخدم المزاعم اليهودية، لتغيير التاريخ المصري فهذا هو الخداع والاستغفال الذي يفوق كل الحدود.
تم الإعلان عن الشروع في بناء المتحف المصري الكبير في عام 2002 على مساحة 117 فدان، على بعد 2 كم من هضبة الأهرام، وتمت الموافقة على التصميم الصهيوني الوارد من الخارج بعد مسابقة دولية تحت رعاية اليونسكو، وأشرف عليها الاتحاد الدولي للمعماريين.
بدأ التنفيذ بقرض ياباني قدره 300 مليون دولار ثم تواصل الاقتراض ليصل إلى أكثر من مليار دولار، وتجري عملية جمع الآثار من كل أنحاء مصر ووضعها في مكان، يقوده مجلس بتشيكل خاص، ثلثه من الأجانب وباقي الأعضاء شخصيات غير أثرية، والأخطر هو التصميم الذي وضعه الصهاينة بالرموز الماسونية التي تحكي قصة اليهود في مصر وهروبهم من فرعون إلى القدس.
الاطلاع على تصميم المتحف يعطي انطباعا بأنه في الكيان الصهيوني وليس في مصر، ويؤكد أن قطاع الآثار المصري مخترق بشكل فاحش، وأن العقل الذي يدير ملف الآثار عقل لا ينتمي لمصر وشعبها.
يمكن تلخيص الرؤية الصهيونية التي تتجسد في المتحف فيما يلي:
1- تتكون واجهة المتحف من وحدات هندسية مثلثة تعرف باسم مثلث سربنسكي الذي له رمزية ماسونية ويستخدم في المتاحف اليهودية والتصميمات الماسونية في أوربا وأمريكا، ويعرف مثلث سربنسكي في التراث الشعبي اليهودي باسم مفتاح سليمان السادس.
2- رسم نجمة داوود السداسية على واجهة المتحف بجوار المدخل الرئيسي، ومكررة من خلال المثلثات الممتدة بطول الجدار، وهي تعبر بشكل صريح عن شعار الدولة اليهودية.
3- يحتوي المتحف على تقاطع شبه متعامد بين زاويتين هندسيتين، الأولى يتجه ضلعاها إلى الأهرامات من نقطة خارج أرض المتحف، والثانية تنظر إلى القاهرة، ليتشكل من تقاطع الشكلين زاوية ضلعها الجنوبي يتجه إلى رأس الهرم الأكبر، ويتجه الضلع الشمالي في خط مستقيم الي حائط المبكى في القدس المحتلة، وهي الزاوية المعروفة في كتب بعض علماء المصريات باسم زاوية المسيح وهي تتحدث عن مسار خروج بني إسرائيل من مصر، وأول من أطلق اسم زاوية المسيح الإيطالي تشارلز سميث عام 1864 في كتاب بعنوان (The Great Pyramid Its Secrets And Mysteries Revealed) ومن أبرز الكتب التي تناولتها (The Great Pyramid Decoded) الذي صدر عام 1971 للباحثين الأمريكيين ريموند وسكوت.
4- المتحف مبني على 7 جدران تحمل الكتلة المعمارية وهي ترمز للشمعدان السباعي المعروف باسم “المنوراه” الذي يرمز في المعتقدات الإسرائيلية إلى الحماية الإلهية لليهود لحظة هروبهم من مصر.
5- المعالم الأساسية للمتحف تجسيد رحلة الخروج اليهودي من مصر، حيث تم وضع تمثال رمسيس الثاني في الفراغ أمام الفجوة التي تمثل انفلاق البحر، الذي تم التعبير عنه بستة أسقف متموجة تشبه الأمواج، مع وضع متنزهات خلف المبنى الرئيسي للمتحف أطلقوا عليها إسم “أرض مصر” تعبر عن المملكة المصرية القديمة، ووضعوا متنزهات أمامية بها نخيل للتعبير عن السبعين نخلة التي أكل منها اليهود وأنقذتهم من الجوع بعد خروجهم من البحر والسير في الصحراء.
من يريد الاطلاع على تفاصيل التصميم الهندسي وما يحتويه من رموز يهودية يرجع إلى الدراسة الرصينة التي نشرت في المجلد الرابع لـ ” إنترناشيونال ديزاين جورنال” للأساتذة أحمد محمد عوض وعبد الرحمن بكر وأشرف حسين، وهي دراسة موثقة عن الهدف من إنشاء المتاحف مع عقد مقارنة بين المتحف اليهودي في برلين والمتحف المصري الكبير في الجيزة.
تشبه الخدعة الهندسية الصهيونية في بناء المتحف المصري الكبير ما حدث في برج العرب بدبي عندما اكتشفوا بعد الانتهاء من البناء أنه أكبر صليب في العالم.
الكارثة الثانية في المتحف الكبير هي عملية نقل الملكية التي تتم للآثار المصرية بحيلة خبيثة، لإخراجها من سلطة الدولة المصرية إلى مجلس دولي يشارك فيه الأجانب.
لقد أصدر مجلس الوزراء برئاسة شريف إسماعيل القرار رقم 2795 لسنة 2016 بانشاء المتحف الكبير، ونص على أن يكون له مجلس أمناء يصدر بتشكيله قرار من رئيس الوزراء ويتكون من الشخصيات العامة الوطنية والعالمية، وألا يقل عدد أعضائه عن 15 عضوا ولا يزيد على 21 عضوا من بينهم وزراء الآثار والسياحة والمالية، وألا يقل عدد الأثريين عن 5 أعضاء، وأن يكون ثلث المجلس من الأجانب.
وأكد القرار أن مجلس أمناء المتحف هو السلطة العليا المهيمنة على شؤونه وتصريف أموره، وأعطى للمجلس سلطة التعاون بشتى الصور مع المتاحف العالمية، وحرية التصرف في العائدات الناتجة عن نشاط المتحف وعدم خضوعه لأي جهة رقابية في الدولة.
في خطوة لها دلالات، تدخل عبد الفتاح السيسي ليكون المتحف تحت إشرافه ويرتبط باسمه، ونشرت الجريدة الرسمية القرار 1633 لسنة 2017 بتعديل القرار السابق بتعيين رئيس الجمهورية رئيسا لمجلس الإدارة لكن المفاجأة هي تخفيض عدد الأثريين في المجلس من 5 أعضاء على الأقل إلى عضوين فقط، أي إبعاد الأثريين المصريين من هذا الصرح الذي ستنقل إليه الآثار المصرية.
وأهم فقرة في القرار الأصلي وتم الإبقاء عليها في التعديل هو صدور القرارات بالأغلبية، أي لو حضر في الاجتماع 9 أعضاء منهم 5 أجانب فالقرار للأجانب، ولا يفرق كثيرا حضور أو عدم حضور رئيس الجمهورية فصوته مثل أي عضو من الأعضاء الحاضرين، ونفس الأمر بالنسبة لوزير الآثار.
ولا يمكن تجاهل أن عملية اختيار الشخصيات في مجلس الأمناء لن تخرج عن الإطار الصهيوني الذي يدير الملف منذ بدايته وحتى الآن.
الصياغة التي صدر بها قرار إنشاء وتأسيس المتحف الكبير تعطي مظلة قانونية لأكبر عملية سطو على الآثار المصرية، التي يتم شحنها من متحف التحرير ومتاحف المحافظات ومخازن وزارة الآثار الى الصرح الجديد، أي سحب كنوز مصر من الإشراف الكامل للدولة المصرية إلى الإشراف الدولي، ومشاركة الأجانب في إدارة تراثنا الحضاري.
عملية التدويل التي تجري للمتحف الكبير تتم أيضا مع متحف الحضارة بالفسطاط الذي يتم تدويله بشكل مشابه لمتحف الهرم وتنطبق عليه ذات الشروط بقرار منشور في الجريدة الرسمية.
ما جرى في المتحف الكبير أكبر عملية نصب في مصر، لا يتوقف تأثيرها على الحاضر والمستقبل فقط وإنما يمتد إلى الماضي، وبدلا من محاكمة المتورطين في هذه الجريمة متعددة الأبعاد نرى الإصرار على التنفيذ وفقا للتصور الإسرائيلي، وكأن التهويد لا يقتصر على الاقتصاد والسياسة والمجتمع وإنما يمتد إلى التاريخ لمحو الذاكرة وتركيب عقل صهيوني للدولة المصرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق