شمعون المصري تحت ظلال الجهنميّة
بضيافة نادي بيجونفيليا للقراءة، أمضينا، في منتصف الأسبوع، في الكويت، ساعتين في حوار ممتع طويل بين مؤسّسة النادي الشاعرة الكويتية أفراح المبارك الصباح وضيفها الروائي المصري أسامة عبد الرؤوف الشاذلي عن روايته "أوراق شمعون المصري"، وتحدّيات كتابة التاريخ عبر السرد الروائي وكتابة الرواية في رحاب التاريخ.
نجحت الشاعرة أفراح في تقديم الرواية لمن لم يقرأها بعد بأسلوبها السهل الممتنع، كما بيّنت بأسئلتها الذكية مستويات جديدة كثيرة في النصّ لمن قرأها بالفعل، التاريخي، والجغرافي، والسياسي، واللغوي، والإبداعي، والديني أيضاً. وفي إجاباته، كشف الشاذلي عن ثقافته العالية وإحاطته الشاملة بالموضوع التاريخي الذي بنى عليه الفكرة الأولية لشخصية شمعون المصري، وأسلوبه في سرد التاريخ الحقيقي كما لو كان مجرّد رواية، وسرد الرواية الخيالية كما لو كانت هي التاريخ بعينه.
والرواية التي يزيد عدد صفحاتها على 600 صفحة من الروايات القليلة جدا التي قرأتها أكثر من مرّة، ليس لغرابة فكرتها عن خروج بني إسرائيل من مصر نحو التيه عبر أوراق شخصية عبرانية متخيّلة وحسب، ولكن أيضا لأنها كانت في قائمة واحدة من الجوائز الشهيرة التي ساهمتُ بتحكيمها، ما فرض عليّ تكرار قراءتها بعد قراءتي الاختيارية الأولى لها.
وهذا ما جعلني أنتبه إلى مستويات الفهم المتناسل بعضه من بعض فيها، كما أنها تعبّر عن أفكار دينية وتاريخية وفلسفية من دون الوقوع في فخّ المباشرة المتوقعة في مثل هذه الأعمال ذات الطابع الديني والتاريخي.
أضافت نقاشات الحضور الكبير أبعاداً جديدة في مفهوم النقاشات النقدية الجماهيرية، وخصوصاً أن مقدّمة الندوة اتّبعت أسلوبا مرناً وجذّاباً في إدارة النقاشات، تتناسب مع شكل الندوة التي أقيمت في القاعة المستديرة في مركز جابر الأحمد الثقافي، فكانت النقاشات تدور بالفعل ما بين الضيف والحضور بشكل دائري، انداح في فضاء القاعة في ما يشبه الهامش المكمّل متن الحكاية.
قبيل نهاية أسئلة الندوة بقليل، سألَت أفراح الصباح ضيفها أسامة الشاذلي عن الشخص المقصود في إهداء روايته "أوراق شمعون المصري"، فقال: والدي ... وربما ليس هناك من يصدّق هذه الإجابة. استرسل بعدها الشاذلي في الحديث عن علاقته المميزة بوالده الذي رحل قبيل صدور الرواية بشهور قليلة، وعن الأثر الكبير فيه، فأعادتني الإجابة التي صدّقتها فورا إلى أحد مقاطعي الأثيرة في الرواية. كتب الشاذلي فيه على لسان الشخصية المحورية: "تدري يا (شهبور) أن أبي قد مات ولم يكن قلبُه معلقاً بشيء سوى الأرض المقدّسة؟ أشعر أحياناً أنه قد قسا على نفسه، حين علَّق كل بهجة في حياته على تحقيق ذلك الحلم، فمات ولم يهنأ بشيء. أما أنا فأشعر أنني كنت أسعد حالاً منه رغم ما مرَّ بي من مِحَن، منحتني الحياة فرصة كي أقترب وأعرف، فعلمت أن الأرض تتقدّس حين تسود فيها عدالة السماء، فإذا عمَّ فيها الظلم والجور فهي أرضٌ ملعونةٌ، ولن يشفع لها بيتٌ ولا حجر، وعلمتُ أن الإنسان هو أسمى ما على الأرض وأن الرب يَسُرُّه أن تُعمَّر القلوب بالإيمان على أن تُعمَّر بيوته بقلوب خاوية. أدركتُ أن الوطن هو أرضٌ تشعر فيها بالطمأنينة، وأن الأهل هم صحبةٌ تشعر بينهم بالأمان".
من الواضح أن الشاذلي كان يخاطب أباه هو في سورياليته التاريخية، وهذا أحد أسرار الحميمية التي غلفتها منذ الكلمة الأولى حتى توثيق السفر في خواتيمها.
شكراً لنادي بيجونفيليا للقراءة على هذا التنظيم الأنيق جدّا للأمسية التي استمرّت ساعتين بالضبط مليئة بالدهشة والمتعة والمعرفة والأسئلة… والإجابات تحت ظلال زهرة البيجونفيليا أو زهرة الجهنمية كما هو اسمها العربي بدلالاته الموحية بكثير من أسرار الإبداع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق