السبت، 29 نوفمبر 2025

من الدروس ما لا يمكن تعلمه.. إلا بدفع أثمان باهظة !

 من الدروس ما لا يمكن تعلمه.. إلا بدفع أثمان باهظة !


أحمد بركات 


بُعثت من الموت بعد ١١ عاماً، ولكنني لم أنتقل بعد كُلّيّا إلى الحياة، لازلت في مرحلة إنتقالية غريبة، فكارثية الأوضاع والمواقف التي مررت بها لا يمكن تجاوزها بسهولة، ولقد طغت على ذاكرتي فما عُدت أذكر أنني عشت يوما قبلها في خير وعافية !
ومن المؤلم الذي لا يمكن تجاوزه أبدا، ذكرياتي مع بعض الرفاق الذين قضيتُ رفقة عدد منهم أضعاف أضعاف الأوقات التي قضيتها مع أهلي وعائلتي وأقرب الناس إليّ، والذين ألتزم تجاه الصالحين المفكرين منهم بالمسئولية وبعهد قطعته على نفسي.
بعض آثار محنتي لا أسعى إلى تجاوزها، بل تذكرها دائماً والإستفادة من دروسها، ومشاركة تجربتي وما خرجت به منها من نتائج على الملأ، علّها تصل إلى مَن تنفعه ويستفيد منها، ويتجنب الأخطاء ويلتمس الصواب، ولعل من آثارها ما قد ينفع بعض مَن كانوا في نفس محنتي، ومَن خاضوا معي الدروب العسيرة !
إنني بعد توقفي على النسخة الأخيرة مني، لستُ نادماً ولا آسفا على محنتي ولا أيّ لحظة فيها، ولا على اللحظات الأشد صعوبة وقسوة بها، وذلك لظني أنني تعلمت الدروس المطلوبة، وحققت النتائج المرجوة، بفضل الله ربي الكريم وعنايته وجميل قضائه وقدره .. !
وعلى هذا.. فأنا لا أدّعي أنني أمتلك الحق المطلق، فلا أنا ولا أنت نحتكر الحقيقة، وكلٌ يؤخذ منه ويرد، ورأيي سأطرحه عليك بكل إصرار وجرأة، وسأستمع لرأيك بكل انتباه وإنصات، لعل الحق يكون معك، ولست أطرح رأيي وأنصت لك إلا لأنتفع أو أنفعك.. واحذر.. فقد يكون الفرد منا في أقصى إيمانه بقناعاته وهو في الحقيقة في غي وضلال..
"وإنا أو إياكم لعلى هُدى أو في ضلال مبين" .. !
يعرف مَن يعرفني جيداً، أنني لا يُملى عليّ شيئاً، أستمع جيدا لنصائح أفاضل وأساتذة كبار، وأنصت لكل تعليق أو نقد أو رأي يُقال، ولا أعبر في النهاية إلا عمّا أحسبه حقا مُطلقاً، وعما أؤمن به وأقتنع به، وأراه الطرح الأكثر مناسبة للحق وملاءمة للأوضاع والظروف والواقع، ولا أتردد عن تنقيحه أو تعديله فوراً حين تبيني خللا فيه .. !
أنا لا أنتقد فيك ما كنت أرجوه، فقبل دخولي السجن عُرضت عليّ كثير من العروض للسفر إلى الخارج رفضتها جميعاً، ويعرف مَن يعرفني جيداً مخاطر ما شاركت فيه وما خضته من الدروب دفاعاً عما كنت أؤمن به حينها، ويفوق تصوراتكم ما فعلت وما بذلت من جهود لخدمة أفكاري وقناعاتي حينها، منها ما عرضني لمخاطر جسيمة، ومنها ما كلفني أثمانا باهظة، ولم أتردد حتى دخولي السجن، فأنا من النوع الذي يعبر عن أفكاره وقناعاته ويخدمها ويضحي من أجلها، متى ظنّ أنه على الحق والهدى والصواب .. !
يعرف بعضكم أيضاً أنني سنحت لي فرص بمجرد خروجي من السجن للمغادرة، لم أتجاوب معها حتى اللحظة، وإن كان يظن أحد ما أنني مضطر للتعبير عما أطرحه، فهو مخطئ تماماً، فأنا أعبر عنه بقناعة تامة، ليس لصوابه المطلق، إنما ربما لمناسبته الواقع والأحوال، ووفق الموازنات بين المصالح والمفاسد، ولستُ أبحث عن بطولة، وبالإمكان أن أدعيها، بمجرد صمتي، وتبيان قوتي وثباتي، أو الهروب للخارج، لأسمي نفسي مهاجراً، وأتسق مع سرديات "المهاجرين"، وأحاضر في ثبات الرفاق وصمودهم، وأقدم نفسي كبطل لا يزال ثابتاً على آرائه، وأحقق المكاسب المادية، لكنني حينها سأكون قد خُنت نفسي ومبادئي والرفاق الذين تركتهم خلفي، وبالتالي فلن أفعل، لن أتكسب على حساب معاناة أحد، ولن أخون الرفاق والأوطان !
لن أسافر إلى الخارج إلا في حال عجزي عن توفير مصدر للرزق لضيق حالي الشديد الذي سببته المحنة، وإن سافرت فإنني لن أتسق مع أي فئة أو مجموعة من عُباد مصالحهم الضيقة، ولا مع سردياتهم العقيمة، ولن أذهب إلى أماكنهم حيث أضطر إلى مهادنتهم طلبا للأمان والحماية، وأصير شيطانا أخرسا غير قادر على تبيان غدرهم وضلالهم وفسادهم، وبقائهم حجر عثرة أمام استنقاذ الضحايا ومصالح الأوطان!
وإن اضطررت للسفر بحثاً عن مصادر الرزق، فلن أسمي نفسي "مهاجراً"، ولن أشبه نفسي بالشجر يموت واقفاً أو صامداً أو شامخاً، ولن أستشهد في حق نفسي بالآية "والذين هاجروا في الله من بعد ما فُتنوا لنبوأنهم في الدنيا حسنة"، ولا أدعوكم حين موتي أن تدفنوني واقفاً، أو أن تزفوا جثماني بالآية " ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله"، فتلك الآيات في هذه الحالة لا تناسبني، إنما أنا هارب من شدة العيش إلى رغده، ومن الخوف إلى الأمان والحماية، ومن المسئولية إلى الغدر والخيانة .. !
حين تحدثت عن الهاربين، وهاجمت منهم الخونة الغدارين، فحديثي حينها لا يشمل الأشخاص الذين خرجوا للرزق أو بسبب الخوف دون مسئولية أو صفة، ودون أن يدعوا أنهم قادة مسئولين، أو ينخرطوا في الكيانات الخائنة المجرمة، أو ينتبهوا أموال الضحايا وحقوقهم، أو يساهموا في المعادلة الصفرية القذرة والخطاب التحريضي الخسيس، الذي لم يحقق مصلحة إلا لهم، ومن قاموا بالحيل والتضليل، ومن وقفوا في وجه كل محاولات الحل، ومن تاجروا في الذمم والولاءات، ومن وسموا أنفسهم بالمراتب والألقاب، فالهارب الخسيس لا يمكن أن يدعي لنفسه فضيلة، ولا أن يحاضر في الثبات والصمود والشرف، ولا أن يتخذ موقفاً صلِفاً متعنتا يحقق له المكاسب والأموال والمناصب، ويدفع ثمنه آلاف الأبرياء، بل الوطن بأكمله .. !
الخلاصة، فأنا لا أتحدث عن المسافرين لخوفهم أو طلبا للرزق الحلال، إنما كان حديثي عن كل من ادّعى لنفسه منصباً أو لقبا أو صفة، وأتباعهم ومن انخرط معهم في مسيرتهم الخسيسة، وسلوكهم الإجرامي، ومواقفهم القذرة، ولم يقف في وجههم، أو ينكر خيانتهم وغدرهم وضلالهم وفسادهم .. !
يعرفني أيضا من يعرفونني من رفاق المحنة، أنني لا أعرف الغدر والخيانة، مهما بلغ الخلاف والإختلاف، وأصون الود والعلاقات الشخصية جيداً مهما اختلفنا، فإنما نحن نبحث عن الحقيقة، وبالتالي فما بيني وبين كل رفيق أو صديق أو صاحب فضل من علاقة شخصية مصون تماماً من جانبي، وأحترم شخصه تماماً وأقدره، وتلك العلاقة الشخصية لا يمكن أن تدفعني للتوقف عن انتقاد فكره وميوله، إنما على العكس، سأكون أكثر حرصاً على تبيان الفساد والضلال في رأيه وفكره ومبدأه من وجهة نظري، وسأستمع بكل توقير لرأيه أيضا، لعلنا نصل إلى الحقيقة، وننتفع بعلاقتنا، ولا تكون سبب ضلالنا وفسادنا.. !
إنّ كل فشل وضلال في المسعى، ناتج عن ضلال وفساد في الفكر والمنهج، وإن من تقابله مشكلة فيواجه أعراضها دون الإلتحام مع أصولها فهو يهدر وقته ويضيع جهده، ولابد دوما من التفكر والتدبر .. !
إنّ منطق المعادلات الصفرية وشيطنة الآخر لمنطق فاسد وضيع، وإن التضحيات العظيمة والدماء الذكية مصانة في ديننا، وتبذل رخيصة حين تعود بنفع أكبر ومردود عظيم، ولا تُلقى هدراً فتفتن الناس وتُضلهم !
إن كلّ رأي أو فكرة سأطرحها، ثقوا أنها ليست نزوة أو تفريغا للغضب أو الألم، إنما وراءها مجهود كبير وتدبر طويل وبحث عميق، وأطرحها رغبة في الإفادة والإصلاح، ولا أدعي أنها الحق المطلق، بل سأظل دوماً أبحث خلف الحقيقة .. !
"قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق