الأحد، 23 نوفمبر 2025

من الهرولة إلى التسول... التطبيع الرخيص

من الهرولة إلى التسول... التطبيع الرخيص

 

وائل قنديل  

ليس مهمّاً ما إذا كان الكيان الصهيوني قد أبلغ الولايات المتحدة بتنفيذ جريمة قصف بيروت قبلها أم بعدها أم في أثنائها، ففي كل الأحوال، يُطرب هذا النوع من العمليات واشنطن ويحقّق لها ما تتمنّاه، وفق معادلة ضبط العرب وإحضارهم إلى حظائر السلام الإسرائيلي جرحى مقيَّدي الأيدي تسيل دماؤهم، كي تفرض عليهم ما تريده تل أبيب.

لا يحتاج العدوان الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية يوم أمس (الأحد) إلى تضييع الوقت في تكرار عملية تعريف إسرائيل، أو إعادة مضغ التصريحات العتيقة أن تل أبيب لا تأبه ولا تلتفت إلى الأيدي اللبنانية الممدودة بغصن الزيتون واستجداء التطبيع معها، كما لا يتطلّب هذا العدوان النداء على المجتمع الدولي، لكي يتحمّل المسؤولية ويردع الاحتلال ويوقف جرائمه، فالثابت أن هذا المجتمع الدولي ليس سوى وهم كبير، أو في أشدّ حالات التفاؤل هو اسمٌ مُهذَّب للإدارة الأميركية التي بات بيتها الأبيض أكثر أهميةً وقدسيةً عند النظام العربي من بيت المقدس والبيت الحرام. 
وبالتالي، كل مناشدة لهذا المجتمع الدولي "الأميركي" ليست إلا التجاءً إلى طرف أصيل في العدوان يتماهى كلّياً مع الأجندة الإسرائيلية.
والحال كذلك، السؤال المنطقي هنا: متى تتحمّل الدولة مسؤوليتها في صدّ العدوان وردّ الإهانة؟ 
ولماذا تبقى محتفظةً بحالة الطرق على أبواب الاحتلال حاملةً عروض السلام، على نحوٍ يتجاوز مرحلة الهرولة إلى مرحلة التسوّل؟ 
يصل رئيس الوزراء اللبناني، نوّاف سلام، في استجداء السلام الصهيوني إلى ما هو أبعد من الهرولة والتسوّل معاً، إلى الحدّ الذي يدفعنا إلى التساؤل: فيما كنّا نعتبر أنطوان لحد والعدو سواء، وماذا لو عادت سهى بشارة إلى شبابها ولبنانها وجنوبها لتسمع رئيس حكومتها يعرض على العدو التفاهم حول خمس مناطق تقتطعها إسرائيل من أرض لبنان وتتمركز فيها؟
يقول نوّاف سلام لوكالة بلومبرغ الأميركية إن إسرائيل تقابل كل سعي لبناني نحو التفاوض بالصدّ والرفض، وإن لبنان يتمنى من الإدارة الأميركية أن تتدخّل لإقناع الاحتلال بالتفاوض، ثمّ يحاول إغراء العدو بإبداء استعداده للتفاوض بشأن الحدود البرّية والمساحات التي تحتفظ بها تل أبيب من الأراضي اللبنانية. 
إن لم يكن هذا الذي يعرضه سلام اسمه قابلية للتفريط في السيادة اللبنانية على أرضها، فبم نسمّيه إذن؟
لا يتوقّف الأمر عند لبنان، بل ينسحب على مجمل النظام العربي في تقرّبه إلى الكيان الصهيوني بالمبادرات والعروض، فيكون الردّ صفعات للكرامة وهجمات صاروخية تنتهك السيادة وتريق الدماء وتدمِّر وتقتطع مساحات، ثمّ تأتي واشنطن لتعلن تفهّمها حقّ إسرائيل في حماية نفسها والدفاع عن أمنها، وكأن تجربة خمسين عاماً من "السلام" المُسمَّم لا تكفي لكي يتعلّم العرب أنه السبب في دفعهم إلى هذه الحالة من انعدام القيمة والتضاؤل إلى الحدّ الذي أوصلهم إلى أن تكون أقصى أمانيهم البقاء في قيد الحياة في الشرق الأوسط الأميركي، بعد أن كان أقصى طموح واشنطن دمج الكيان الصهيوني في المنطقة.
مؤسف أن الوظيفة الوحيدة التي بات النظام العربي يمارسها الضغط على كلّ من يقاوم الانتهاكات الصهيونية، بالوسائل الدبلوماسية والمطاردات الأمنية والحصار الاقتصادي، لكي يتوقّف عن المقاومة، ويستجيب لحكماء الهرولة الذين يطالبونه بأن يدير خدّه الأيسر لإسرائيل إذا ضربته على خدّه الأيمن، وأن يتقرب إليها بالمبادرات كلّما اقتربت منه بالجرائم.
في العام 1995 كتب نزار قباني قصيدة "المهرولون"، عقب توقيع اتفاقية أوسلو بين منظّمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، فشنّ هجوماً كاسحاً على "الهرولة" نحو السلام والتطبيع، استجابة للضغوط والإغراءات الأميركية والصهيونية، فيما عُرف في ذلك الوقت بصفقة "غزّة ـ أريحا أولاً". وقتها انفجر الشارع العربي غضباً على هذا التفريط الفجّ في حقّ الشعب الفلسطيني في كامل أرضه، وقيل وقتها: "لنقبل بهذه "غزّة ـ أريحا أولاً، ثمّ نناضل فوق الموائد وتحتها على الباقي". 
وها نحن بعد 35 عاماً نتسوّل شريطاً ضيقاً في غزّة، ونُقبّل يد العدو لكي يترك لنا الجنوب اللبناني منقوصاً من خمس مناطق، وأن يعفو عنّا ويفرج عن شحنات الغاز المتوقّفة إلى مصر، وأن يكفّ عن صفع سورية كل يوم ويكتفي بما أضافه من مساحات جديدة لخريطته، غير الجولان.
وكما كتب نزار قباني في "المهرولون": 
لم يعد ثمّةَ أطلالٌ لكي نبكي عليها 
كيف تبكي أمةٌ أخذوا منها المدامع؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق