اعتذار النبلاء
أبو ذر الغفاري نموذجا

أحمد هلال
كاتب وناشط حقوقي
لا تخلوا الحوارات من بعض التجاوزات، وربما سقطات ناتجة عن اندفاعات غير محسوبة حينما يتمسك كل طرف برأيه ويعيش كل إنسان في زاوية رؤيته المحدودة التي يعتقد أنها كل الحقيقة، ولا غيرها يمكن أن يكون صوابا.
كان هناك حوار في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، بينما كان هناك تداول للحديث حيث تسقط الألقاب وترتفع القلوب، وقعت الكلمة التي هزت أركان العلاقة الروحية التي جمعت بين قلوب صادقة، تركت معها اوزار الجاهلية.
قالها أبو ذر بغير قصد سوء: يا ابن السوداء لبلال مؤذن الرسول.
لم يندفع بلال بن رباح نحو الانتصار لنفسه، بقدر تمتعه بهدوء كان بردا وسلاما على ذلك التجمع الراقي الذي عكر صفوه كلمة من كلمات بقايا جاهلية، حتى يصل الخبر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ربما كانت كلمة لم يدرك أبعادها ولا أثرها أبو ذر.
لم يكن رد فعل النبي عادياً. لم يكن توبيخاً خفيفاً، بل كانت صفعة تربوية تهز الوجدان: إنك امرؤ فيك جاهلية.
كلمة واحدة كفت لتحويل مسار تاريخي كامل في نظرة الإنسان لأخيه الإنسان.
ولم يستمر ذلك المشهد طويلا
ما حدث بعدها كان أجمل مشاهد التصحيح. وضع أبو ذر خده على التراب وقال لبلال: طأ بخدك حتى أطأ بخدي. لكن بلالاً العظيم رفض أن ينتقم، فكان رفضه انتصاراً آخر لمبدأ المساواة.
هنا لم تكن القضية شخصية بين رجلين، بل كانت معركة ضد جاهلية متجذرة. كان العقاب النبوي موجهاً لمرض في الأمة، لا لمجرد خطأ فردي.
روعة المشهد ما بين الخطأ والاعتذار تسموا معه العلاقات الإنسانية وترتبط برباط العقيدة الإسلامية الصحيحة التي جمعت شتات تلك القلوب المتنافرة ولو انفقت ما في الأرض جميعا ما الفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم.
بشرية الصحابة وثقافة الاعتذار: منهج تربوي للأمة
“يا ابن السوداء”.. كلمة خرجت من قلب مؤمن لم يتخلص بعد من رواسب الجاهلية. ليست طعناً في الدين، بل زلة من زلات البشر. وفي الموقف النبوي مع أبي ذر وبلال تتجلى فلسفة كاملة في التعامل مع بشرية الدعاة.
الاعتذار: شجاعة لا ضعف
ما أن نطق أبو ذر رضي الله عنه بالكلمة حتى اهتز كيانه. لم يبرر، لم يقل لم أقصد، أو كانت غلطة. بل سارع بالاعتذار بشكل يذيب القلب: وضع خده على الأرض وقال لبلال: “طأ بخدك حتى أطأ بخدي”.
هذا هو الاعتذار الحقيقي: اعتراف بالخطأ، وشجاعة في تحمل التبعات، وتواضع في التصحيح. لم يكن أبو ذر منافقاً، بل كان بشراً يعترف ببشريته.
ما الذي يمكن أن يخسره المعتذر من كرامته او مكانته او شخصيته؟
لماذا لا يبادر كل من أخطأ بالاعتذار بشكل يذيب الحواجز التي يمكنها أن تكون اسوارا بين القلوب والنفوس؟
لماذا لا يعتقد من أخطأ ان الاعتذار قوة عظمى لا تزيد صاحبها غير مصداقية ومروءة ورجولة؟!
الرسول صلى الله عليه وسلم والمعالجة التربوية
لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: أنت منافق أو أنت مطرود من رحمة الله”.
قال: إنك امرؤ فيك جاهلية. فرق كبير بين الحكم على الفعل والحكم على الشخص. بين القول: أنت عنصري والقول: في سلوكك بقايا عنصرية.
بلال.. الدرس الآخر
رفض بلال رضي الله عنه أن يطأ خد أبي ذر. قال: “بل أعفوا وأصفحوا”.
هنا تكمن العظمة: قدرة المظلوم على العفو، والقدرة على فصل الخطأ عن الشخص.
دروس للحركة الإسلامية المعاصرة
1- الدعاة بشر لا قديسون
يخطئون كما يخطأ الناس، ويصيبون كما يصيب الناس. الفارق أن عندهم آلية للتصحيح، وشجاعة للاعتراف، وتواضع للاعتذار.
2- الخطأ لا يلغي الفضائل
أبو ذر بطل من أبطال الإسلام، صاحب مواقف مشرقة، لكنه بشر. لا نغض الطرف عن خطئه، ولا ننسى فضائله.
3- الاعتذار قوة لا ضعف
في زمن أصبح الاعتذار فيه هزيمة، نتعلم من أبي ذر أن الاعتذار نصر للنفس على الأنا.
4- التمييز بين الخطأ والشخص
كما ميز النبي صلى الله عليه وسلم بين أبو ذر وبين خطئه، يجب أن نميز بين الداعية وبين زلته.
5- العدالة والرحمة
عقاب النبي صلى الله عليه وسلم كان حازماً في التصحيح، رحيماً في التعامل. لم يكسر أبو ذر، بل بناه.
قصة أبو ذر وبلال ليست قصة عنصرية واعتذار فقط، بل هي قصة بشرية المؤمن التي تتعثر فتنهض، وتخطئ فتعترف، وتزل فتتوب. هي منهج كامل في التعامل مع أخطاء الدعاة والعاملين للإسلام.
فالداعية الناجح ليس الذي لا يخطئ، بل الذي يعترف بخطئه ويتعلم منه. والجماعة الصحيحة ليست التي تنتج قديسين، بل التي تنتب بشراً يتقون الله ويصححون أخطاءهم.
قصة أبو ذر وبلال ليست مجرد حادثة تاريخية، بل هي منهج كامل في التعامل مع أخطاء الدعاة والعاملين للإسلام. إنها تذكرنا أن الداعية الناجح ليس الذي لا يخطئ، بل الذي يعترف بخطئه ويتعلم منه.
فليكن هذا الدرس نبراساً لنا في طريق الدعوة، نتعلم من أخطائنا، ونعتز ببشريتنا، ونسمو باعترافنا بتقصيرنا.
فليكن شعارنا: “اعترف تنتصر، اعتذر تعلو، أصلح تستمر”. فهكذا تبنى الحركات، وهكذا تُصنع النهضات.
هذه القصة تصلح أن تكون منهجاً في تقييم الأشخاص، وفن التعامل مع الأخطاء، وبناء ثقافة الاعتذار في مجتمعاتنا الإسلامية.
المراجع:
1- صحيح البخاري، كتاب الأدب
2- مسند الإمام أحمد
3- السيرة النبوية لابن هشام
4- سير أعلام النبلاء للذهبي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق