حضور بدر وسابقة الفضل إعفاء من تهمة الخيانة
حاطب بن أبي بلتعة
أحمد هلال..
كاتب مصري وناشط حقوقي
في ليلةٍ من ليالي المدينة الهادئة، حين عسعس الليل وارخى سدوله وغفى الضوء على جدرانها وهدأت خطى العابرين، جاء الوحي يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سر خفيّ يجري بعيداً في طرق الصحراء.
خبرٌ لم تدركه عين بشر ولم يخبر به صاحبه أحد، ولا لامسته ريح، لكنه وصل إلى قلب النبي الذي لا ينطق عن الهوى: امرأةٌ تحمل كتاباً إلى قريش، يفشى ما طوته السرية التي أحاط بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فتح مكة.
لم يكن هذا الإخبار حادثة عابرة، بل لحظة يجتمع فيها غيب السماء مع حكمة القيادة. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم علياً بن أبي طالب، والزُّبير، والمِقداد، في مهمة دقيقة لا تعرف التأخير ولا الخطأ.
أمضوا كالسهام يشقون ليل الصحراء حتى بلغوا روضة خاخ، فوجدوا المرأة كما وصفها الوحي.
أنكرت، وتلجلجت، ثم أخرجت الكتاب من ضفائر شعرها، كأنما كانت تخفي سراً يعجز الحجر عن حمله.
حُمل الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيه ما يدل على صاحبه:
حاطب بن أبي بلتعة، ذلك المؤمن الصادق، البدريّ الذي شهد أعظم معارك الإسلام.
استدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يُبادر إلى الغضب، ولا إلى العقاب، ولا إلى الشكّ في جدارة الرجل بإيمانه. بل جلس أمامه، وأقبل على قلبه قبل فعله، وسأله السؤال الذي لا يطرحه إلا قائدٌ يعرف أن وراء كل سلوكٍ سبباً:
يا حاطب، ما حملك على هذا؟ ،ويا للروعة في القيادة النبوية
لم يكن حاطب خائناً، ولا جاسوساً، ولا ليست له قدمٌ في النفاق، لكنه رجل بلا عشيرة في مكة، يخشى على أهله في مدينةٍٍ تستعر فيها الأحقاد.
قال معتذراً:
والله ما فعلته كفرا، ولا ارتداداً، ولكن كانت لي هناك أهلٌ ليس لهم مَن يحميهم، فأردت أن أصنع لهم يداً. ومن تتمة ما قاله: أعلم أن الله ناصرك!
هنا تجلّت عبقرية القيادة النبوية. لم ينظر النبي صلى الله عليه وسلم، إلى الخطاب وحده، بل إلى النية، والسابقة، والدافع الإنساني. ومن هنا لا نأخذ الرجال من مواقف تعثرت فيها خطواتهم، بل الرجل يبقى رجلا ولو تعثر.
رأى رجلاً صدق مع الله في بدر، حيث تتقرر مصائر الأمم.
وما كان لصاحب بدر أن يُدان كمن خان عمدا ، أو باع سرّ الأمة لمن يبيتها سوءاً. فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم، إلى عمر حين همّ بعقابه، وقال كلمته التي صارت نبراساً في فهم النفوس:
لقد صدقكم، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
لم يكن هذا عفوا يضعف الدولة، بل عفو يرسّخ قوتها. عفو صادر عن ثباتٍ لا عن تردد، وعن بصيرة لا عن سذاجة، وعن ميزانٍ يزن القلوب والأحداث بعمق لا تملكه إلا قيادة ربّانية.
الدروس القيادية من هذا الموقف العظيم
1- القيادة لا تُصدر حكماً قبل أن تسمع الصوت العميق خلف الفعل، وهذا الفعل في علم السياسة خيانة، لكنها تتلاشى عندما يتم التعامل معها بذكاء وعمق وحكمة وهدوء
النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقب بمجرد ظهور الفعل، بل سأل: “ما حملك؟
القادة الراشدون يبحثون عن الدافع قبل الحكم، وعن العذر قبل الإدانة.وكثيرا ما نخسر الرجال بمجرد الحكم على الظاهر من الأفعال دون التثبت والتحقق.
2- النوايا جزء من تقييم الأداء
في الدول الحديثة تقاس الأفعال بنتائجها فقط؛ أما في القيادة النبوية فالفعل يُقرأ مع دوافع صاحبه، لأن معرفة النية تكشف التهديد الحقيقي من الوهمي.وهذا عمق تتفرد به القيادة في الدولة الإسلامية.
3- السابقة الحسنة ليست صفحة تُطوى
رجلٌ شهد بدرًا لا يساوي من لا سابقة له.
وكانت وقفة بدر هي الفرقان في التاريخ وليس من شهد بدرا كمن غاب عنها والقائد الحكيم لا ينسى الأيام التي وقف فيها رجاله معه في لحظات المصير.
4- فرقٌ بين الخطأ الإنساني والخيانة العقدية
حاطب أخطأ، نعم، لكنه لم يخُن.
والقيادة التي تساوي بينهما تخسر رجالها وتشوّه عدلها.
وعلى القيادة في الحركة الإسلامية ان تراجع مواقف أفرادها وتعيد ما فقدته من جهود رجالها.
5- العفو قوة سياسية إذا جاء من موقع اقتدار
لم يعفُ النبي صلى الله عليه وسلم ضعفاً، بل عفا لأنه سيطر على الموقف، وأحبط العملية قبل وقوعها، وأدرك أن العقوبة هنا تفسد أكثر مما تصلح.
6- القائد العظيم يجمع بين العدل والرحمة
فالعدل يحفظ النظام، والرحمة تحفظ النفوس.
ولا تستقر دولةٌ تسود فيها واحدة دون الأخرى.وما بين الرحمة والعدل تكون قرارات القيادة الراشدة.
7- حماية أسرار الدولة واجب، لكن فهم ظروف الأفراد ضرورة
القيادة ليست نصوصاً جامدة، بل فهمٌ للواقع، وتقديرٌ للإنسان، وبناءٌ للثقة.
في قصة حاطب، كان النبي صلى الله عليه وسلم قائداً يرى ما لا يراه الآخرون:
يرى الإنسان خلف السلوك، والإخلاص خلف الزلّة، والسبق خلف العثرة.
فكان العفو هنا ليس تجاوزاً عن خيانة، بل اعترافاً بأن القلوب المؤمنة تهفو، لكنها لا تغدر، وأن الرجال الكبار قد يخطئون، لكنهم لا يبيعون دينهم.
ربما تكون قرارات القيادة الراشدة مثيرة للجدل أحيانا، لكنها ان ارتكزت على تلك الحكمة والعمق والرشد فإنها سياجا يحفظ النظام ويحمي الأفراد.
وهكذا بقي حاطب في جيش النبي، يقاتل يوم الفتح تحت راية من عفا عنه، ويعلم أن العفو الذي تلقاه لم ينقذه وحده، بل أرسى مبدأً ستقوم عليه حضارة:
أن العدل لا يكتمل إلا بالرحمة، وأن القيادة لا تعلو إلا بالإنصاف.
وكم في التاريخ من قصص وكم في الأحداث من عبر
ولعلنا نستعيد في قصص الصحابة العبرة والدرس ما نحفظ به دعوتنا وحركتنا ونستجمع قوتنا في تلاحمنا وتراحمنا
أحمد هلال حاطب بن أبي بلتعة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق