السبت، 22 نوفمبر 2025

المتهمون الأبرياء.. ولماذا العقاب إذا؟

  المتهمون الأبرياء.. ولماذا العقاب إذا؟

كعب بن مالك ورفيقيه

أحمد هلال
كاتب وناشط حقوقي

كانت أجواء المدينة المنورة في ذلك القيظ من عام 9 للهجرة تشهد مشهداً فريداً في تاريخ الدعوة الإسلامية. لقد كانت غزوة تبوك لحظة حاسمة، اختباراً إلهياً مزلزلاً للقلوب قبل أن تكون مواجهة عسكرية.

امتحان في حر الصيف

الظروف القاسية:
اختار الله تعالى لهذه الغزوة وقتاً عسيراً؛ فالصيف بلغ ذروته، والحر لا يحتمل، والثمار قد أينعت والنفس تتوق للاسترخاء في الظل مع الحصاد. كانت الأرض مجدبة، والقحط يضرب المنطقة، والسفر إلى تبوك مسيرة شهر ذهاباً وإياباً في ظروف بالغة المشقة.
العدو المرعب: لم يكن العدو كسابقيه، فارس كانت قوة عظمى، وجيشهم مجهز بأفضل العتاد. كانت المواجهة مرتقبة وكأنها نهاية العالم في نظر البعض..

وبعد اكتمال الترتيبات توجه الجيش حيث الإعلان الأول عن الوجهة دون مواربة او تورية، حتى يتهيأ الرجال لصعوبة الطريق ومشقة السير.

عاد الجيش من بعد معركة فاصلة رغم عدم حدوث قتال حقيقي، وكانت توابع المعركة لا تزال في المدينة المنورة

 كعب بن مالك رضي الله عنه في تخلفه عن غزوة تبوك هي من أنصع الدروس في التربية القيادية والعدالة الإلهية التي تختلف كلياً عن العدالة البشرية القاصرة.

استدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من تخلف عن المعركة ليستمع إليهم، عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكثير الذين لم يخبروه صدقا.

لكنه توقف عند من صدق الحديث معه وبدلا من قبول صدق مقالته كان العقاب الذي لم يكن متوقعا ان يكون بكل تلك القسوة المتدرجة حتى بلغت ذروتها بمقاطعة، ضاقت معها الأرض عليهم بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم كذلك.

لماذا كان العقاب متدرجا اذا ولماذا كان قاسيا:

لنفهم المغزى من التدرج العقابي الشديد الذي تعرض له وحده ومن معه، بينما غفر النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة لمن جاءوا يعتذرون بأعذار واهية، علينا أن نلمح الحكمة الإلهية والنبوية في هذه الواقعة.

الاعتراف بالذنب ليس مثل الكذب والتصنع

المنافقون وأصحاب الأعذار الكاذبة: جاءوا إلى النبي ﷺ يحلفون بأيمان كاذبة ويلقون على أسماعه مسوغات مصطنعة. الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. لم يدركوا ان الله يسمع كلامهم وسيفتضح أمرهم 
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ)

هؤلاء مشكلتهم النفاق، وهو مرض في القلب. والقلوب لا يصلحها إلا الله.

العقاب المباشر لهم قد يزيدهم نفاقاً وإصراراً، أو يدفعهم للانفضاض عن الجماعة تماماً.

فكان الصفح الظاهري عنهم هو نوع من الإمهال والحكمة السياسية، لأن فضحهم علناً قد يثير فتنة. عقابهم المؤجل كان بوحي من الله: لم يُعفوا، لكن عقابهم كان في قلوبهم وخزياً في الدنيا، ومصيرهم في الآخرة إلى الله.

وهكذا الضعفاء وأصحاب المصالح والمطامع في صف الدعوة يجب التعامل معهم بقبولهم على اوضاعهم حتى ينصلحوا او ينكشفوا وفي نفس الوقت يظنون ان القيادة في صفهم يعطونهم ما يرغبون ويدعمونهم بما يحبون، لكنها القيادة الواعية النابغة التي تحسن معرفة معادن الرجال.

كعب ورفيقاه (مرارة الصحابة): 
هؤلاء كانوا صادقين مع أنفسهم، مؤمنين في قرارة قلوبهم. مشكلتهم ليس في النفاق، بل كان التهاون والفتور والاستجابة لنداء الراحة والدعة. هم لم يكذبوا على الله ولا على رسوله.

قال كعب كلمته الخالدة: والله ما كنت قاطعت أمراً أعلم أني أستطيع عليه أحضر منه. 
هو قال الحقيقة المرة: كان قادراً على الخروج ولم يفعل.

تفصيل من بعد إيجاز:

الحكمة في الظل النبوي: لماذا عُوقب الصادقون وغُفر للكاذبين؟

المغزى من التدرج العقابي الشديد مع الصادقين:

1- تطهير القلب قبل تطهير الجسد:

العقوبة لم تكن انتقاماً، بل كانت مدرسة تربوية لثلاثة رجال مؤمنين. الهدف كان تنقية قلوبهم من أي بقايا غبار للتهاون، وتثبيت قيمة الصدق حتى لو كان مراً. لو عوقبوا مباشرة كما غفر للآخرين، لربما تسرب إلى قلوبهم حسرة أو ظن سوء.


2- عدالة النية لا الفعل فقط: النظام الإسلامي لا يحاكم النتائج فقط، بل يحاكم النوايا. الذين كذبوا كانت نيتهم الهروب من المسؤولية وتجميل الصورة. أما كعب ورفيقاه، فنيتهم كانت الصدق مع الله ورسوله، ولو كلفهم ذلك كل شيء. فالعقاب هنا كان تكريساً لفضيلة الصدق، وإعلاءً لشأن النية الصادقة حتى في لحظة الخطيئة.

3- الامتحان لتمييز الخبيث من الطيب:

فترة المقاطعة (خمسين ليلة) كانت امتحاناً عملياً لصدق إيمانهم. هل سيصبرون؟ هل سينقلبون؟ هل ستأتيهم رسالة طمأنة من ملك الغساسنة (كما حدث لكعب) فينخدعوا ويتركوا دينهم؟ كانت محنة لتصفية الإيمان من أي شوائب. نجاحهم في هذا الامتحان هو الذي رفع درجاتهم إلى ما لا يعلمه إلا الله.

4- درس للجماعة المسلمة: القيادة الرشيدة تتعامل بمنطقين:مع المنافقين والمرتابين: الحكمة والمرونة الظاهرية ودرء المفسدة.
مع الصادقين المخطئين: الحزم والتأديب ورفع الدرجات.

هذا يعلم الأمة أن الصدق مع القيادة، حتى في الخطأ، هو الطريق الوحيد للإصلاح والثقة. بينما الكذب والمراءاة، حتى لو جاءا بنتيجة ظاهرية (العفو)، هما الطريق إلى الهلاك في الدنيا والآخرة.

5- العقاب العلاجي العقاب الردعي: عقاب الكاذبين كان ردعياً سلبياً (بالإمهال والإرجاء). أما عقاب الصادقين فكان “علاجياً نشطاً”، مثل الجراحة التي تستأصل الداء لتنقذ الجسد. كانت المقاطعة هي المشرط الذي أخرج كل أثر للتواني والكسل من قلوبهم وقلوب جميع الصحابة الذين شاهدوا هذا المشهد

وفي مشهد يختزل حكمة القيادة النبوية، نرى النبي صلى الله عليه وسلم يقف ليستمع للمتخلفين. يأتيه المنافقون وأصحاب الأعذار الواهية، يحلفون كاذبين، ويُظهرون من التبرعات المصطنعة ما يُخفي نفاق قلوبهم. فيقبل الرسول صلى الله عليه وسلم علانيتهم، ويترك سرائرهم لله، معلناً العفو الظاهري عنهم. كانت هذه هي الرحمة التكتيكية؛ ففضحهم قد يزيد الشر تمرداً، والصفح عنهم كان إمهالاً حكيماً لعل القلوب تتوب أو تتضح الأمور.

بيد أن المشهد يتغير عندما يأتي دور كعب بن مالك ورفيقيه. يقف الرجل، وقد امتلأ قلبه إيماناً ولسانه صدقاً، فيقول الكلمة التي خلدها القرآن: والله ما كنت قاطعت أمراً أعلم أني أستطيع عليه أحضر منه”. إنها الحقيقة المرة، الاعتراف بالتفريط بلا مواربة. وهنا، لا يكون العفو السريع، بل تبدأ رحلة عقابية متدرجة وصارمة: مقاطعة جماعية، واعتزال للزوجات، ووحشة روحية طالت خمسين ليلة.


فما الحكمة من هذا التباين في التعامل؟

لقد كان العقاب الذي ناله كعب ورفيقاه عقاباً تكريمياً، بينما كان العفو الذي ناله غيرهم عفواً إمهاليا.
 فالمشكلة في الفريق الأول كانت مرض النفاق، وهو داء قلبي لا يصلحه إلا دواء طويل المدى. 
 أما مشكلة الفريق الثاني فكانت غبار الفتور والتهاون على قلوب صادقة، فجاءت المقاطعة كالمبضع(المشرط) الجراحي الذي ينقي تلك القلوب ويعيدها نقية طاهرة.

لقد كانت هذه الفترة امتحاناً لتمييز الخبيث من الطيب. بلغت الشدة ذروتها حين وصلت إلى كعب رسالة من ملك الغساسنة تُعرض عليه الأمان والمتاع، فردها قائلاً: “وهل أبقى لي من الإسلام شيء إذا فعلت؟. 
في هذه اللحظة كان الانتصار الحقيقي؛ انتصار الصدق على كل مغريات الدنيا.لا تنخلع البيعة لهذا الدين من رقاب الرجال ولو تداعت عليهم الابتلاءات والإغراءات.

فلم يكن الهدف من العقاب إذلال الصادقين، بل كان تثبيت قيمة الصدق كأعلى مراتب الإيمان. 
لقد أرادت القيادة النبوية أن تعلّم الأمة أن الصدق مع الله ورسوله، حتى في ساحة الخطيئة، هو الطريق الوحيد للنجاة. 
بينما الكذب والمراءاة، حتى لو أديا إلى عفو ظاهري، هما الطريق إلى الهلاك الباطن.



الدرس الأكبر هو: لا تخف من قول الحقيقة لله ولواليك، حتى لو كانت الحقيقة قاسية ومذلة في الظاهر. العقاب الصادق خير ألف مرة من الغفران الكاذب.



هذه هي حكمة القيادة النبوية: ضبط البوصلة لا يكون بتسوية الجميع في العقاب، بل بمعرفة نفسية كل فرد ومعالجة داءه بالدواء المناسب.



لقد خرج كعب من هذه المحنة وقد غفر الله له، وأصبحت قصته منارة تهتدي بها الأجيال. بينما بقي أولئك المعتذرون بأعذار كاذبة محكومين بنفاقهم في صفحات التاريخ. وهنا تكمن الحكمة الخالدة: أن العقاب على الصدق خير من المكافأة على الكذب.

ثم جاءت البشارة الكبرى الى يوم الدين:

وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)



فلا يظن الضعفاء وأصحاب الهوى في صمت القيادة عنهم أنهم في منعة من التأديب او التهذيب غير أنهم في نظر القيادة لايستحقون معاتبتهم او مراجعتهم او حتى عتابهم.

فإنهم قد اختاروا مكانهم بسوء أفعالهم وحماقة تصرفاتهم، وتبقى الجماعة قوية برجالها من امثال كعب ورفيقاه

المتهمون الأبرياء الذين استحقوا العقاب حبا وكرامة.



المراجع:



١- القرآن الكريم، سورة التوبة، الآيات ٤٣-١١٨.



٢- البخاري، محمد بن إسماعيل. (ت ٢٥٦ هـ). الصحيح. كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك.



٣- ابن حجر العسقلاني. (ت ٨٥٢ هـ). فتح الباري شرح صحيح البخاري. دار المعرفة.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق