الثلاثاء، 18 نوفمبر 2025

جريمة عربية في مجلس الأمن

 جريمة عربية في مجلس الأمن

وائل قنديل

قادنا حسن الظن إلى سيناريو مثالي في مجلس الأمن يُتيح للدول العربية الإسلامية الثماني الإفلات من قبضة الضغوط الأميركية عليها، التي تُلامس حدود الإرهاب والابتزاز من أجل تمرير قرار دونالد ترامب المُتعلّق بمستقبل غزّة، وكان هذا السيناريو المُفرط في التفاؤل والأمل يقوم على أنّ هذه الدول سوف تسند المهمة لروسيا والصين من خلال استخدام حق النقض (الفيتو) في وقت يذهب الصوت العربي لمصلحة ترامب، وبذلك تتجنّب غضبه وعقابه وهو صاحب السلطان عليها، من ناحية، ومن الناحية الأخرى تحبط قراراً يفرض الوصاية الأميركية، ليس على غزّة وفلسطين فحسب، وإنما على الوطن العربي والشرق الأوسط كلّه.


أمّا وأنّ روسيا والصين قد امتنعتا عن التصويت، وهي طريقة أكثر انحطاطاً من الموافقة الصريحة على قرارات ظالمة وجائرة واستعمارية بامتياز، فإنّنا نكون بصدد حالة نفاق رخيص ممّن افترضنا فيهم أنهم أقطاب دولية تمنع انفراد واشنطن بالكوكب كلّه، وفي قلبه منطقة الشرق الأوسط، ذلك أنّه كان بإمكان روسيا التي وصف مندوبها ما جرى بأنّه يوم حزين للعالم ولفلسطين ولمجلس الأمن ولقيم العدالة، كان بإمكانها التصويت ضدّ القرار فتنقذ العالم من الحزن وتنقذ كرامة مجلس الأمن وتنقذ الشعب الفلسطيني من خطر وجودي يتهدّد أرضه ووطنه.


لم تكتفِ روسيا والصين بالتعبير عن الحزن فحسب، بل ساق مندوباهما كلّ الأسباب والحجج التي تحتّم إبطال هذا القرار، والذي بحدّ توصيفهما ينزع من الشعب الفلسطيني ملكيته على قطاع غزّة، وينتزع منه حقّه في مقاومة احتلال يمارس أبشع الجرائم ضدّ الإنسانية، ويجرّده من الحلم بوطن يُستعاد من بين أنياب الذئاب، وبالتالي لا يكفي هنا لتبرير هذا النفاق والخذلان من جانب الروس والصينيين أن يقال إنّ ذلك كان استجابة لضغوط وتوسّلات من دول عربية وإسلامية تطلب عدم استخدام "الفيتو" والاكتفاء بعدم التصويت لكي يمرّ القرار، الذي هو بمثابة جريمة اغتيال للقضية الفلسطينية بمشاركة عربية صريحة وواضحة، تجسّدت في الصفعة التي وجهتها الجزائر على وجه التاريخ والمنطق، كون الإفراط في حسن الظن كان قد أوصلنا إلى قناعة بأنّ جزائر المليون شهيد ضدّ الاحتلال تغرّد خارج سرب التبعية للقرار الأميركي والخضوع للغطرسة الإسرائيلية.


في احتفاله بالحصول على شرعية لأطماعه وأحلامه الإمبراطورية كرّر ترامب ما سبق وأنّ قاله بعد حصوله على كلّ ما يريد من مؤتمر شرم الشيخ المشؤوم الشهر الماضي، إذ خرج بتفويض عربي إسلامي بحرية التصرّف في غزّة، التي اعتبرها تفصيلة صغيرة في شرق أوسط الأحلام الصهيونية الأميركية، ترامب وهو يتحدّث سعيداً بقرار مجلس الأمن كان أوّل ما نطق به أنّ القضاء على قدرات إيران النووية كان الخطوة الأولى على طريق تحقيق الشرق الأوسط الذي يريده، وما غزّة وفلسطين كلّها إلّا قطعة صغيرة على رقعة الشطرنج. لكن الأخطر والأسوأ من ذلك أنّ إتمام عملية قتل القضية الفلسطينية ستدور هذه المرة بأيدٍ عربية سوف تنتشر عسكرياً في قطاع غزّة، تحت قيادة ترامب وبتنسيق كامل مع إسرائيل، في مهمّة وحيدة هي نزع سلاح الفلسطينيين بالقوّة، والقضاء على المقاومة وإنهاء وجودها، مبدأً ومشروعاً وممارسةً، على أرض غزّة وفلسطين، لنكون وللمرّة الأولى في التاريخ أمام إمكانية حرب عربية على المقاومة الفلسطينية، خدمة لأهداف إسرائيلية بالضرورة، وتنفيذاً لأوامر أميركية بالطبع.


ليس من قبيل التجنّي القول إنّ القضية الفلسطينية ذُبحت في شرم الشيخ ودُفنت في مجلس الأمن، إذا لا كلام عن دولة فلسطينية في المستقبل المنظور، ولا تصوّر لدور الفلسطينيين في إدارة شؤونهم، لنكون بصدد عودة إلى الوراء أكثر من ثمانين عاماً، إذ يحلّ الحاكم الأميركي بديلاً للحاكم البريطاني على فلسطين، التي تنتقل من وضعية دولة متوقّعة في المستقبل إلى بقايا جماعة بشرية منقرضة، تحقيقاً لإرادة دونالد ترامب الذي أدار مشروعه موزّعاً الأدوار والمكافآت على كلّ رجاله، الذين لم يترك واحدهم مناسبة إلّا وأعلن فيها التزامه العمل تحت قيادة الرئيس الأميركي، والتعبير عن شرف الالتحاق بمشروعه في غزّة والشرق الأوسط، وهكذا مضت الأمور: "لا للتهجير" مقابل "نعم للوصاية الأميركية الكاملة على غزة وفلسطين والشرق الأوسط كلّه"، ألم يقل أحدهم بملء فمه أنه موجود حيث يوجد الرئيس ترامب؟



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق