بعد إقصاء عن الساحة الفنية امتدّ سنتَين، عاد محمد سلام بتأشيرة اضطرارية ظهر فيها أولاً أمام سيادة الرئيس في حفل "وطن السلام"، ليبثّ بعدها بأيّام أوّل مسلسل من بطولته، "كارثة طبيعية"، وهو العمل الثاني لكاتبه أحمد عاطف فياض، ليستعرض قصّة زوجين شابين في مُقتبل حياتهما، إذ تُقدم الزوجة على خلع "اللولب" خلسةً، ليُفاجأ الزوجان بحملها.
وهي المفاجأةُ التي لم تكنْ مفاجأةً بما يكفي نسبةً لما سيأتي بعد قليل، حين اكتشفا أنّها حامل في خمسة أطفال، وامتدّت المفاجأة لتشمل طفلين لم يظهرا في السونار، فصارا أبوين لسبعة، ثم مفاجأة ضياع مولود، لتتعرّف الأم بالخطأ على طفل مجهول النسب، فانضمّ ثامناً للسبعة الإخوة.
ومن هنا يسير المسلسل في سياق سخرية سوداء، لاذعة، بين المعاملات الحكومية العقيمة، وغياب دور السلطة في الرعاية، والضياع بين البيروقراطيات الساذجة، وتوظيف الإعلام "لترفيه" المواطنين، وتحويل المأساة إلى "حلقة لذيذة".
ضابط الرقابة، الذي ربما شاهد العمل على عجَلة، أو من دون فهم عميق، كما هو متوقّع، ربما قرأ الكتاب من عنوانه، وتخيّل أنّ ذلك ممّا يحقّق غرض سيادة الرئيس في إيصال معدّل المواليد في مصر إلى أقلّ من طفل واحد لكلّ أم، وأنّ ذلك سيُكرّه الناس في الولادة، ويعقّدهم من الخلفة، ويصبح "التوائم السبعة" الكابوس الذي يلاحق كلّ راغبة في الحمل، ويصبح "اللولب" طوقَ نجاة، إن تركته الزوجة غرقت وأغرقت البيت معها، مع تشديد رقابة الأزواج على زوجاتهم والسؤال بين حين وآخر عن متابعة وسائل منع الحمل، حتى لا تحدث "كارثة طبيعية".
كذا خُيّل لسيادة الرقيب، لكن الحقيقة، وربما هو شعور يشاركني فيه الكثير، أنّ ما شعرت به لم يكن الخوف من الإنجاب بل النقمة على السلطة، التي تحوّل الإنجاب إلى بُعبُع، فيما تفشل في رعاية المواطنين، وأبنائهم، بالحدّ الأدنى من الرعاية اللازمة، ولو لحالة نادرة نسبياً كتلك، لكن الأكثر إثارةً لإعجاب المواطن هو استعراض العمل لمسائل الغلاء والتضخّم في مساقٍ غير مبتذل، من دون سخرية هدفها تفريغ غضب مجتمعي وحسب، وإنما في تحميل المسؤولية لمن فرّط بها، وفي نقد جريء لقرارات "سيادية" نبعت من دماغ سيادة الرئيس نفسه، مثل "التعويم"، مع الإشارة لفساد وحوش الرأسمالية بالمناخ الاقتصادي المصري مثل شركة الاتصالات "بلو" التي يعمل بها محمد، بطل المسلسل.
عاد محمد سلام، وربما إلى سلام بلا عودة، لو فتح "الريّس" بالخطأ تلفازه، فأدرك أنّ الناس، على عكس المتوقّع، لم تكره الإنجاب، بل ازدادت كرهاً للسلطة
يمضي المسلسل مُستعرضاً في لحظات حرجة ومؤثّرة أثر الفشل الاقتصادي على الجميع، على الأسرة الصغيرة التي لم تحلم إلّا أحلاماً صغيرة أيضاً لكنها باتت مستحيلة، حتى مع بيعها كلّ شيء، بما في ذلك أثاث الشقة، لتحصيل ثمن تأشيرة عمل إلى الخليج، مهرباً وحيداً من "الكارثة الطبيعية" في مصر، وعلى الرجل الكبير من أيام الزمن الجميل، والد شروق زوجة محمد، حين أنفق كلّ ما ادخره، بالإضافة إلى معاشه، على تجهيز ابنته للزواج، بأجهزة ومفروشات بيعت بالفعل اليوم لتحصّل ثمن علبة الحليب وربطة الخبز، ثم حين يريد ذلك الأب المُتحسّر على ماضيه، وعلى حاضره الذي يتحجّج فيه بزيارة ابنته، بينما كلّ ما في الأمر أنّه يريد ألّا ينام جائعاً، ثم حين يريد أن يفطر سيأخذ من ابنته خمسين جنيهاً قد لا تكفي لغرضه حتى.
وصحيح، لم ينتهِ المسلسل بعد، وربما يكون المنعطف الدرامي (البلوت تويست) فانتازياً بما يكفي ليجاوز الرقابة، أو يغازل السلطة، أو يبعث برسالة ترضية نهائية "تُمَرهِم" السلطة (تداهنها)، حتى يمرّ المسلسل، لكنه العمل الدرامي الاحترافي الأوّل تقريباً وسط عشر سنوات جامدة، الذي يجرؤ على كسر جدار الصمت الفني، الذي اعتاد التطبيل للسلطة وامتهان الشعب، لا مجرّد السير بجوار الحيط. عاد محمد سلام، وربما إلى سلام بلا عودة، لو فتح "الريّس" بالخطأ تلفازه، فأدرك أنّ الناس، على عكس المتوقّع، لم تكره الإنجاب، بل ازدادت كرهاً للسلطة.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق