الاثنين، 17 نوفمبر 2025

وقفة مع الاستحمار السياسي في زمن التراجعات الفكرية

  وقفة مع الاستحمار السياسي في زمن التراجعات الفكرية


د. عبد الرحمن بشير 
داعية ومفكر إسلامي، من جيبوتي


نحن أمام لحظات صعبة في مرحلة التحولات الفكرية العميقة، لأن هناك ردّة سياسية عند بعض النخب، ولأن البعض منهم تعب مع طول الطريق، فأراد أن يستريح من النضال والجهاد، ولكن على حساب القيم، وهناك من يحاول تغيير القيم الأساسية، والمفاهيم الكبرى، فيكتب هذا العنوان الغريب: (عبادة الرحمن في طاعة السلطان). 

ولدينا من يُفتي بأن السلطان فوق القانون، لأنه يمثل ظلّ الله في أرضه، فهو جاء إلى الحكم بأمر الله، وليس بخيار الشعب، والوقوف أمام إرادة الله معصية. فهذا التحول القيمي لبعض رموز الصحوة الدينية ليس أمرًا عاديًا، بل هو من الردّة السياسية، ويمثل تراجعًا فكريًا عميقًا.

إن من الاستحمار السياسي العيش في ظل الدولة تحت فكرة الوصاية والأبوة. فالدولة ليست عائلة، والشعب ليس أطفالًا يحتاجون إلى رعاية، بل الدولة الحديثة هي فكرة قانونية، وليست فكرة منبثقة من ثقافة المجتمع التقليدي المبني على روح الأبوة؛ فيتحول الحاكم إلى والدٍ، والشعب إلى قُصَّرٍ وأطفال يحتاجون من الوالد رعاية كريمة. ولهذا يُغنّي بعض الشعراء للحكام قائلين لهم: “أيها الوالد”، فينتفخ هو بهذا الكلام السطحي المتناقض مع أبجديات الدولة الحديثة والقانون. 

فالعلاقة بين الشعب والحكام مبنية على التعاقد، وليست مبنية على الدم. فهذا أيضًا من الاستحمار السياسي.

إن من الاستحمار السياسي نشر ثقافة الخوف بين الناس بشكل طفولي، ولا يتوقف الإعلام الرسمي عن ذلك. 

فالجديد اليوم في السياسة خطير، وهو أن بعض المثقفين ورجال الدين يعلنون قناعتهم بذلك. 

وهل السياسة تتعامل مع الثوابت؟ 

وبعضهم يحاول إيقاف الحياة في التاريخ، وكأن السياسة عندنا من الثوابت: 

شعب يمثل رعية، وحاكم يمثل الراعي. 

إن السياسة تنفعل مع المتغيرات، فإذا توقفت الحياة عن الحراك، فإنها في طريقها إلى الموت، والسياسي الذي يخاف من الجديد يخطط للموت. ولكن السياسي في بلادنا يستفيد من الفراغ العلمي والمنهجي، فيتحدث عن الديمقراطية بلا أدوات ديمقراطية، وهناك من يحارب الديمقراطية بأدوات دينية لترسيخ الاستبداد السياسي. والسبب هو الخوف من الجديد، لأن السياسيين الحاليين وبعض رموز الفكر الديني يحبون أن تبقى الأمور كما هي، لأنهم بذلك يكونون نجوم الحياة التي بدأت تتعفن، وتعلن بداية نهايتها.

إن من الاستحمار السياسي الحديث الدائم عن المستقبل، والهروب من الواقع، وتمجيد المشاريع المستقبلية التي لا ترى النور أبدًا؛ لأنها خاوية وليست حقيقية. ومع ذلك تُقدَّم للناس حبوبًا مسكّنة. فالمستقبل ليس ناتجًا من الأحلام الفارغة. وفي هذه الأيام تكثر عندنا (رؤية 2030) في بعض بلادنا، وقد أُعلِن فشلها، ورؤية جيبوتي كذلك للمستقبل لعام (2030م). ولكن الواقع يتحدث عن تخلّف وتقهقر، بل عن فقرٍ ينمو بلا حد، وأزمات تزداد عنفوانًا بلا سقف. 

ولكن السياسيين، ومعهم جماعات كثيرة من النخب المتخصصة في تجهيل الشعوب، يتحدثون بشكل عجيب عن المستقبل الزاهر، بل ويستفيدون من التكنولوجيا المعاصرة لتقريب صورة المستقبل، وبهذا يستحمرون الشعوب، بل ويصنعون حالات استحمارية مستدامة.

هناك علم كامل في الغرب اسمه (علم التجهيل)، وهو علم له أصوله ورموزه ومدارسه ومجالاته. 

ولكنه يعمل في الغرب عند الشركات الكبرى، فيجعلون الشيء الهين عظيمًا، والمهم حقيرًا، ويضخّمون بعض الأمور على حساب بعض الأمور الأكثر أهمية، ويستخدمون لإنجاح مشاريعهم علم النفس الاجتماعي، وعلم النفس الفكري، ويستغلون وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مكثف. 

ولكن علم التجهيل في بلادنا يستخدم الكذب، فالكذب وسيلة مهمة للتجهيل، كما أنهم يستخدمون الرموز الدينية المتخصصة في التنويم، والحديث الدائم عن الحلال والحرام في جميع المسائل. فالتجهيل يعمل في تأهيل المجتمع لمرحلة الاستحمار.

لا يمكن أن تتم سرقة ثروات الشعوب إلا إذا نجحت القوى المستعمِرة في استحمارها، ولا يمكن كذلك تزوير إرادتها السياسية إلا إذا نجحت القوى المستبدة في استحمار الشعوب. فالاستعمار والاستبداد عملة لها وجهان، وكل واحد منهما يخدم الآخر. 

فالمستبد السياسي يستحمر الشعوب، ولكن القوى الاستعمارية تستخدم المستبد لبلوغ مآربها. 

فالأصل هو تغييب الشعوب عن المعادلة، وليست “السنة (القابلية للاستعمار)” إلا عرضًا لمرض الاستحمار المستفحل بين الناس. 

ولولا هذا المرض لما وُجدت تلك السنة التي أعلنها مالك بن نبي رحمه الله.

لا يمكن أن يفهم الإنسان في العالم المتقدم كيف يحكم مصر ذات السكان الهائل (100) مليون نسمة أو يزيدون مهرّجٌ سياسي (السيسي)، الذي لا يستطيع مواجهة الشعب بكلام سياسي يحمل دلالات ومغازي. فهذا النوع من السياسيين يحكمون الشعوب التي تنازلت عن أهم قيمة في الحياة (الحرية)، واستبدلت مكانها (الاستحمار). لأن بعض النخب اختاروا العيش لأجل العيش لا غير. وهكذا ترى بعض البلدان التي يقود سفينتها أبله سياسي، وليست جيبوتي بعيدة عن ذلك المناخ. فالمستبدون يعملون في ترسيخ سياسة الاستحمار. 

ولهذا نجد غياب التنمية، وتسمية التخلف نهضة، والفقر غنى، والمرض صحة. 

فهذا هو ما ذكره كتاب الله:(فاستخف قومه  فأطاعوه). 

فالاستخفاف نتيجة الاستحمار، والثورة على هذا الوضع بداية التحرر من الاستحمار. ومن نجح في ذلك فقد وضع قدميه في طريق الاستقلال والحرية.

قال تعالى: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك يفعلون). 

فهذا الكلام الرباني محكي من ملكة اليمن (بلقيس)، والتي عُرفت بحصافتها وسداد رأيها، وعمق تفكيرها بأن الاستعمار لديه خطة، وهي مكونة من مشروعين: 

مشروع الإفساد الديني والقيمي والأخلاقي والفكري حتى تفقد الأمة المناعة، 

ومشروع الإذلال وتغيير خريطة المجتمع. 

وهذا ملاحظ في العراق واليمن وسوريا، بل وفي البلاد التي تعرضت لغزو غير مرئي. ولكن الملكة عرفت أن المقاومة يجب أن تكون أولًا سياسيًا، ثم تكون عسكريًا. فنجحت المقاومة السياسية، لأنها عرفت أن سليمان عليه السلام ليس ملكًا لأجل الملك، بل هو صاحب رسالة. فحملت معه الرسالة، فنجت، وأنقذت شعبها كذلك بالحكمة والرَّشاد. 

والسبب يعود إلى أن الشعب والحكم لم يتعرضا لمسخ فكري، ولا لسياسات استحمار كما صنع فرعون من قبل، وما زال الفراعنة يعملون حتى اليوم.

إن سياسة الاستحمار تُصنع من قبل الإعلام الكاذب، ورجال الفن المخادعين، وعلماء البلاط الذين يقدمون مصالح البطون على مصالح الدين والقيم، والسياسيين الذين يؤمنون بأن السياسة عمل بلا أخلاق. كل هؤلاء يصنعون معًا سياسة الاستحمار. ولكن الشعوب يمكن لها أن تتمرّد على هذه السياسة إن وجدت المناخ، والرموز الذين يقدمون لأنفسهم وأرواحهم ضحية للمبادئ. فلا يمكن صناعة المستقبل مع سياسات الاستحمار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق