الخميس، 20 نوفمبر 2025

معارك إسقاط القدوات

معارك إسقاط القدوات

حين نتأمل خارطة الصراع الحضاري اليوم ندرك أنّ المعركة الحقيقية لم تعد فقط على الأرض أو الموارد أو التحالفات، بل على الوعي. 
ولأنّ القدوة هي البوصلة التي يقتدي بها الناس، ويقيسون عليها المواقف، ويستلهمون منها المعنى؛ صارت هدفاً مباشراً للخصوم. 
فمعارك إسقاط القدوات ليست أحداثاً عابرة، بل مشروعاً منظماً يسعى إلى ضرب النموذج البشري الذي يحمل قيم الإصلاح والتغيير.

الخصوم ـ من داخل الأمة وخارجها ـ أدركوا مبكراً أنّ المجتمعات لا تنهض بالنصوص وحدها، بل بالرجال الذين يُجسّدون تلك النصوص في واقعهم. كلّ فكرةٍ مهما عظمت تحتاج إنساناً يتبنّاها ويرفعها، وكلّ قيمةٍ تحتاج نموذجاً حيّاً يُظهر جمالها. لذلك ترى أنّ سهام التشويه لا تُطلق على الضعفاء، ولا تُوجَّه إلى العابرين، بل إلى أولئك الذين تحركهم قناعة، ويتبعهم جمهور، ويغيرون شيئاً في مزاج الأمة وعقلها وإرادتها.

ولأنّ القدوات تُعيد تشكيل خريطة الوعي، كان إسقاطهم يعني إسقاط الأمل، وزعزعة الثقة، وترك الأجيال بلا مرجعية أخلاقية تلتف حولها. 
لهذا تتكاثر الحملات الممنهجة التي تستهدف رموز الإصلاح: 
تشويه السمعة، محاولات تحريف السياقات، تضخيم أيّ خطأ بشري، صناعة روايات زائفة، وتوجيه الجيوش الإلكترونية لتحويل القضايا الصغيرة إلى عواصف كبرى. 
الهدف ليس القدوة نفسها بقدر ما هو جمهورها، وثقتها، ومكانتها، ومشروعها.

والمؤلم أنّ جزءاً من هذا الاستهداف يأتي من الداخل؛ من الحاسدين، والمتضررين من الإصلاح، والباحثين عن نفوذ، أو الذين ضاقت بهم دائرة العجز فصاروا لا يحتملون وجود شخص يتقدّم ويخدم ويؤثر. 
وهؤلاء أخطر لأنّهم يتكلمون بلسان القرب، ويتسللون بثوب النصيحة، ويستخدمون نفس القيم التي يدعو لها القدوة لإسقاطه بها.

ومع ذلك، فإنّ السؤال الأهم ليس:
لماذا يحدث هذا؟ 
فقد علمنا أنّها سنّة ماضية، وأنّ كلّ من حمل مشعل الهداية كان هدفاً للضجيج. بل السؤال الأهم: ماذا يجب على القدوات أن يفعلوا حتى لا يتركوا ثغرات تُستغل ضدهم؟

أول الطريق هو الوضوح الأخلاقي؛ فالقدوة مطالَب بأن تكون أعماله أكثر اتساقاً من غيره، ومساحاته الرمادية أقل بكثير. هذا لا يعني العصمة، بل اليقظة. فالفجوة الصغيرة تتحوّل اليوم إلى ثغرةٍ يستثمرها آلاف، ويموّلها خصوم، وتبني عليها آلات إعلامية روايات كاملة.

ثم تأتي الشفافية؛ أن يكون القدوة صريحاً في مواقفه، واضحاً في قراراته، غير متناقض ولا متردد. الناس تتسامح مع الأخطاء، لكنّها لا تتسامح مع الغموض الذي يفتح الباب للتأويلات.

ثمّ الحكمة في الظهور؛ فليس المطلوب من القدوة أن يكون في الضوء دائماً. بعض النماذج تستهلكها الأضواء قبل أن تستهلكها المعارك. والتاريخ يقول إنّ أعظم من أثّروا كانوا أكثرهم عملاً وأقلّهم صخباً.

وينبغي أيضاً التحصين المعرفي؛ أن يعرف القدوة طبيعة المعارك، وطرق التشويه، وأساليب الخصوم، وأن يبني حول نفسه دائرة من الوعي، لا دائرة من المجاملات. فالحصانة تبدأ من الداخل.

وفي زمن السرعة والتضخم الإعلامي، لا يكفي أن تكون قدوة بمفردك، بل ينبغي أن تتحوّل إلى مدرسة، إلى منظومة، إلى امتداد بشري يحمي الفكرة إن تعرض صاحبها للابتلاء. فالقدوة الفرد يسقط، أمّا القدوة-المنهج فتبقى وتتضاعف.

ورغم كلّ هذا، تبقى الحقيقة الكبرى: 
أنّ القدوة التي تُسقطها الشائعة لم تكن قدوة راسخة أصلاً. القدوة الحقيقية لا تهتز لأنّ الناس لا تتعلق بزينتها ولا بمظاهرها، بل بنبل مشروعها وصدق أثرها. ومن عمل لله بقي، مهما علت الضجة أو كثر التشويه.

وما دامت الأمة قادرة على إنجاب نماذج مضيئة، فإنّ كلّ محاولات الإسقاط ستبقى هامشاً لا يغيّر حقيقة أن الطريق يُضاء بالرجال الذين يثبتون حين يهتز غيرهم، ويواصلون حين يتوقف الآخرون، ويحملون مشعل الإصلاح مهما اشتد الظلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق