الجمعة، 15 فبراير 2013

عن الطائفية في المشهد السوري

عن الطائفية في المشهد السوري

نعلم أن تهمة "طائفي" هي الأكثر رواجا هذه الأيام، وغالبا من أكثر الناس طائفية ومذهبية في العالم العربي والإسلامي، لكن توصيف الوضع الطائفي لا يعني الطائفية، فهذه المنطقة هي من أكثر مناطق العالم زخما بالطوائف التي تتناقض مع عقيدة الأغلبية فيها، لكن ذلك لم يكن مدعاة للإساءة إليها رغم بعض الإشكالات التي نشأت في بعض مراحل التاريخ.

ثم إن العلاقات مع الدول والجماعات لا تتحدد بناءً على الدين والمذهب (الغالبية أخذوه بالوراثة)، بل بناءً على السياسة والممارسات العملية. وحتى لو قال بعضهم إن طبيعة المنطلقات العقائدية تؤثر بدورها على السلوك السياسي، فإن ذلك لا يغير في حقيقة أن تحديد الموقف يكون في النهاية على أساس سياسي، لاسيما أن تغيير العقائد والأفكار لا يتم بالإكراه أو سطوة القوة.

الجزء العسكري والأمني الذي يقتل الناس ويقصف ويدمّر هو غالبا الشق العلوي، وما تبقى من السنّة هم مجرد ديكور، أكثرهم يوجدون في الثكنات ولا يشاركون في المعركة
في مشهد الثورة بـسوريا، يمكن القول إنها لم تبدأ على أساس طائفي، وأن مطالبها كانت جزءا من ظاهرة الربيع العربي بعنوانه الأهم "الحرية والتعددية"، وإنه لو بادر الرئيس السوري بشار الأسد إلى إصلاحات مقنعة، لكان رد الفعل الشعبي عليها إيجابيا، لكنه أبى واستكبر وطغى وتجبر، فكان أن استمرت الثورة حتى اضطرت إلى حمل السلاح تحت وطأة القتل اليومي.
على أن وحدوية الثورة وشعاراتها لا تنفي أن جزءا معتبرا من الوعي الشعبي للغالبية السنيّة كان يستبطن المظالم الطائفية، تماما كما يستوطن الإحساس الطائفي ضمير الطرف العلوي. صحيح أن المرحلة الأخيرة من حكم آل الأسد قد سعت إلى إخفاء هذا البعد، لكن واقع الحال لم يكن كذلك.

عندما تتركز غالبية الرتب العليا في الجيش والمؤسسة الأمنية ضمن طائفة بعينها، فإن ذلك لا يكن توصيفه خارج الإطار الطائفي، بمعنى إدامة سيطرة فئة بعينها على مفاصل السلطة. سيقولون هنا إن وزير الدفاع سنّي، كأن شيئا كهذا يغير في حقيقة الوضع كثيرا.

هنا نشير إلى حقيقة أن من يسيطر على الجيش والأجهزة الأمنية في أي بلد هو الذي يسيطر عمليا على الدولة، وليس الوزير أو رئيس الوزراء في بلد ذي نظام رئاسي، وقد أدرك النظام هذه الحقيقة، فركز على إدامة سيطرة الطائفة عليهما معا، ويعلم الجميع هنا أن ضابطا علويا كبيرا في المخابرات كان طوال الوقت أكثر أهمية وسطوة من أي وزير من الطائفة السنية، كما أن ضابطا صغيرا في الجيش والأجهزة الأمنية كان طوال الوقت أكثر أهمية وسطوة من ضابط سني أعلى منه؛ رغم التراتبية العسكرية التقليدية في مؤسسات من هذا النوع.

وللتذكير، فنحن هنا لا نتحدث عن هيمنة طائفة تشكل 30 أو 40% من السكان، بل طائفة في حدود 12% في أعلى تقدير، وفي جمهورية (ليست وراثية) جرى نقل السلطة فيها من الأب للابن من خلال مسرحية استغرقت دقائق، جرى خلالها تغيير الدستور لكي ينطبق عليه من حيث السن، بعد موت الأخ الأكبر الذي كان معدا للخلافة. ويعلم الجميع أن رموز الطائفة في المؤسسة الأمنية والعسكرية -أكثر من السياسية- هم الذين رتبوا هذه العملية من ألفها إلى يائها.

في ضوء هذا الواقع، كان البعد الطائفي حاضرا على الدوام في وعي الغالبية السنيّة، وليس صحيحا أن الوضع قد تغير كثيرا بعد بشار الأسد، وإثر تطاول العمر على مذابح حماة الشهيرة في عام 1982، ولعله ازداد سوءا عندما مدت الطائفة أذرعها نحو البعد المالي والاقتصادي، كما تجلى في حالة رامي مخلوف وآخرين من المقربين من النظام، حتى لو قيل إن هناك سنّة استفادوا منه، لأن ذلك أمر طبيعي في كل الأحوال، فكيف في حالة طائفة تشكل 80% من السكان؟!


الآن وبعد عامين على الثورة السورية، يمكن القول إن البعد الطائفي قد تجذر أكثر، ولن يكون بالإمكان بعد ذلك إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بحكم الأقلية للأغلبية مهما طالت الحرب.

حدث ذلك في ظل انحياز الغالبية الساحقة من العلويين -ومعهم جزء معتبر من الأقليات الأخرى- للنظام في حربه ضد شعبه، وهنا يبدو من السخف الحديث عن انخراط قطاع من السنّة في المعركة، لأن الشذوذ لا ينفي القاعدة ابتداءً، ولأن الجزء العسكري والأمني الذي يقتل الناس ويقصف ويدمّر هو غالبا الشق العلوي، وما تبقى من السنّة هم مجرد ديكور، أكثرهم يوجدون في الثكنات ولا يشاركون في المعركة، بينما انشق جزء كبير منهم، رغم ما تنطوي عليه مسألة الانشقاق من مخاطر كبيرة على أسر المنشقين بسبب طبيعة النظام الأمنية والدموية والطائفية.
تصحيح الوضع المشوّه القائم لا يعني ظلما للأقليات، رغم أن بوسعنا تفهم بعض هواجسها، إذ إن ربيع العرب يبشر بدولة المواطنة والعدالة
من يعتقد أن هذا الذي جرى -مع ما استدعاه من إرث بائس- يمكن أن ينتهي إلى ركون الغالبية السنية إلى حكم الطائفة العلوية، هو واهم. لاسيما أن الجميع يدرك أن طائفية النظام ستتعزز أكثر في حال بقائه أو نجاته من الهزيمة.

إن حالة من هذا النوع -حيث تحكم أقلية لا تتعدى 12% من السكان بقية الشعب- لم تعد موجودة في العالم أجمع، وسوريا لن تكون استثناءً بأي حال، حتى لو ألقت إيران -ولأسباب أكثرها طائفي أيضا- بكل ثقلها خلف النظام.

ولعل أسخف ما يمكن أن يسمعه المراقب من قادة إيران وحبيبهم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف هو الحديث عن ديمقراطية في سوريا وتحكيم للصناديق والشعب، إذ أي عاقل على وجه الأرض يمكنه أن يصدق أن بشار سيعود رئيسا عبر الصناديق؟!

إن البعد العرقي والطائفي ما زال حاضرا حتى في أعرق الديمقراطيات الغربية، فكيف يُراد له أن يغيب هنا مع كل هذا الإرث الثقيل من الدكتاتورية والقمع والفساد الذي مثلته فئة انتسبت إلى طائفة معينة، حتى لو تحولت عمليا إلى حكم أسرة في بعض تجلياتها؟! تبقى ضرورة القول إن تصحيح الوضع المشوّه القائم لا يعني ظلما للأقليات، رغم أن بوسعنا تفهم بعض هواجسها، إذ إن ربيع العرب يبشر بدولة المواطنة والعدالة، كنقيض لدولة الظلم والتمييز والفساد، بصرف النظر عن الشعار الذي ترفعه أو الستار الذي تختبئ وراءه.
المصدر:الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق