الطموح
محب الدين الخطيب
محب الدين الخطيب
خلوت بنفسي ليلة، وحاولت الالتجاء إلى سكينة الماضي؛ لأستريح من ضوضاء الحاضر؛ فتَمَثَّلْتُ أجيال البشر الغابرة، وجماعات الأمم الخالية، كأنها المواكب تجتاز الوهاد والآكام، أو المراكب تمخر في بحار الأيام.
وما من موكب سائر في قفر، أو مركب سائر في بحر، إلا وله عند الأفق مَشْعَل تلوح أنواره من بعيد، وهذا المشعل هو المطمح السياسي العام الذي تتخذه القوميات هدفًا لها في كلِّ أعمالها، فتتجه نحوه الأنظار والألباب، وتتوحد به الجماعات والأحزاب.
إن الارتفاع والانحطاط من شأن هذه المواكب وهي في قفارها، ومن دأب هذه المراكب وهي في بحارها؛ ففي حالتي الاعتدال والارتفاع يكون المشعل باديًا لطالبيه، ومِنْ ثَمَّ يكون السير مستمرًّا على هدى نحو الهدف المعين.
وأما إذا جاء دور الانحطاط فهنالك تغيب أشعة المشعل عن الناظرين إليها، فتختلف الأفكار في تعيين الغاية المنشودة، وبالتالي تتعدد المسالك، ويتشتت شمل سالكيها، ولذلك قال الدكتور غوستاف لوبون:
ليس التاريخ إلا رواية الأحداث والأفعال التي قام بها الناس سعيًا وراء المطمح...
وإن انحطاط الأمة يبتدئ يوم لا يكون للأمة مطمح تحترمه بجملتها، فيجاهد كل فرد منها بنفسه في سبيل حمايته والذود عنه.
وفي اعتقادي أنه ليس هناك كبير خوف على المطمح إذا كانت الأمة تعرفه وتتعلق به، وتلمح أشعته أثناء سيرها في موكب الأيام مع طبقات الأيام.
وإنما الخوف من انحطاط يخفى فيه على الأمة مطمحها؛ فتجهل غايتها العامة، ومقصدها الأسنى.
وحينئذ يظهر في الأمة أناس ممتازون من أهل الطموح فيفنون في أمتهم، ويتنازلون عن شخصياتهم، ويصرفون كل قوتهم في سبيل إنهاض موكبهم إن كانوا في بر، أو مركبهم إن كانوا في بحر، حتى يجعلوه في مستوى معتدل أو مرتفع، فيلوح للأمة حينئذ شُعَاعُ مشْعَلِها؛ فتهتدي إلى طريقها على نور المطمح السياسي العام.
المطمح السياسي لهذه الأمة - في كل أعصارها وأقطارها- هو الحرية والاستقلال، وأهل الطموح هم الذين يأخذون بيد الأمة، وهي سائرة في موكب الأيام، فيرتفعون بها من وَهْدَةٍ إلى أَكَمَةٍ، أو ينتشلون مركبها من هوة إلى رأس لجة، حتى تكون مُبْصرةً مِشْعَلَها المنيرَ في الأفق، فتسير نحوه بأقدام ثابتة، كإقدام الأسود، وبخطوات واسعة، كخطوات المرَدَةِ.
مثل ذوي الطموح في الأمم كمثل العزم النوراني الشفاف المنبث في مواكب الأيام يدفعها نحو مشاعلها المتألقة في الآفاق، أو كالقوة البخارية التي تحرك مراجلَ مراكبِ الأنام؛ لتبلغ بها غاياتها المنشودة.
وكما أن قيمة المواكب تقاس بمبلغ ما فيها من نور العزائم، وقيمة المراكب تقاس بقوة البخار المحرك لمراجلها- فكذلك الأمم ما زالت، ولن تزال تقدر بأقدار أفرادها الممتازين، ورجالها البعيدة مرامي أنظارهم، الذين ندعوهم بذوي الطموح...
هذا هو الطموح الذي جعلته موضوع مقالي، وبه تَهُبُّ الأمة فترتفع من وهدتها حتى يشرف موكبها على منطقة الأفق، فيرى مشعَل المطمح العام، فيأنس به، ويُوَجِّهَ نحوه الأبصار والبصائر.
إنَّ حكمة الله في فوز أهل الطموح دائمًا ظاهرة من هبوط آيات الطموح الملهمة على قلوب أصحاب الحق، والحق من أسماء الله تعالى.
وإن من سنة الله في خلقه أن يقيض للحق أنصارًا من وراء سجف الغيب يؤيد بهم الثابتين على تأييد حقهم، المضحين بأرواحهم في سبيل الوصول إلى مطمح بني قومهم، الفانين في مصالح أوطانهم.
في استطاعة كل رجل من أفراد الأمة أن يكون من أهل الطموح إذا أذاب نفسه في الأمة والوطن، فصار يرى كل شيء فيه منهما ولهما، فإذا شعر بأن الأمة مهددة بخطر ينتاب مطمحها السياسي العام أدرك أنه لا قيمة بعد ذلك لماله وولده ونفسه فينسى كل هذه المقدسات الشخصية.
بمثل هؤلاء نهضت الأمم، وسلِمت الأوطان، وعلى قلوب هؤلاء هبطت ملهمات الفضائل، وعلى أيدي هؤلاء تتم جلائل الأعمال، وكل فرد يستطيع أن يكون منهم، وإن من عادة الأبطال من أهل الطموح أن يولدوا رجالًا كاملين عندما تتمخض بهم المصائب.
والليالي من الزمان حبالى
مُثْقلات يَلِدْنَ كلَّ عجيبة
المصدر: كتاب (الحديقة) لمحب الدين الخطيب، اعتنى به: سليمان الخراشي، الناشر: المكتبة السلفية، القاهرة. دار العاصمة، الرياض. (ص: 775) بتصرف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق