الثلاثاء، 9 أبريل 2019

تاريخ الأوقاف العثمانية في القاهرة

تاريخ الأوقاف العثمانية في القاهرة


 محمد إلهامي 
 باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية.
أبرز ما نسوقه في الدلالة على أن الحكم العثماني للبلاد العربية لم يكن احتلالا هو النظر في طبيعة هذا الحكم وسياسة ولاته، لا سيما في الجانب الحضاري، وفي هذا المقال نسوق طرفا من الأوقاف التي أنشأها العثمانيون في مصر في نصف القرن الأول من الحكم العثماني، والذي هو أبلغ تعبير عن طبيعة العلاقة بين الدولة العثمانية وولاياتها العربية، وقد كان نصف القرن الأول هذا تحت حكم السلطانيْن: سليم الأول وسليمان القانوني.


ولطبيعة الموضوع واتساعه، سنقصر الحديث على الأوقاف التي أنشأها الولاة العثمانيون في القاهرة فحسب، بمعنى أننا لن نتناول ما أنشأته النخبة العثمانية الحاكمة من غير الولاة كالنواب وقادة الجند ورجال البلاط، كما لن نتناول إلا ما كان في القاهرة فحسب دون ما كان في بقية الأنحاء.


لقد زخرت القاهرة بالأوقاف في الحقبة العثمانية، وكان ذلك امتدادا لازدهار الأوقاف في العصرين الأيوبي والمملوكي، وفي هذا العصر الأخير بلغت القاهرة ذروتها السياسية والاقتصادية، وعلى غير ما شاع في الكتابات الاستشراقية والدراسات التاريخية القديمة من صورة انحدارٍ وضعفٍ هَوَتْ إليه القاهرة، فقد قدمت الدراسات الحديثة التي اعتمدت على الأرشيف والوثائق صورة أخرى أكثر وثوقية ومصداقية تثبت أن القاهرة واصلت نموها وازدهارها، هذا النمو والازدهار الذي كانت الأوقاف جزاء منه وسببا فيه في نفس الوقت.


عيَّن السلطان سليم أميرَ حلب خاير بك، وهو مملوكي انحاز إلى العثمانيين، ولاية مصر فكان أول ولاتها العثمانيين، ولما مات السلطان سليم بعد فتح مصر بثلاثة أعوام أقرَّه السلطان سليمان على الولاية كما هو، وظل بالمنصب إلى وفاته، فقضى في الولاية خمس سنوات[1]. وفي تلك الفترة أنشأ زاوية الشيخ حسن الرومي (929 هـ = 1522م) بأمر السلطان سليمان القانوني كما يظهر من الشاهد الذي كان مكتوبا عليها ونقله حسن قاسم في "موسوعة المزارات الإسلامية"، وأوقف عليه أوقافا منها أربعة منازل مساحتها (1218 مترا مربعا) بشارع المحجر، وكان هذا الوقف تكريما للشيخ حسن الرومي الذي كان من كبار الصوفية توفي زمن السلطان سليمان (928هـ) لتعمير الزاوية التي اتخذها للتدريس والإقراء[2]، وبلغ إيرادها أربعة آلاف قرش وكانت عامرة بالدراويش[3].


وبعد وفاته وقع اضطراب لخمس سنوات في ولاية مصر، حيث فوجئ المماليك بأن السلطان سليمان قد عيَّن أميرا من رجاله وليس منهم فحاولوا التمرد عليه، ثم هُزِموا، ثم تولى مصر أحمد باشا وكان طموحا فنزع إلى الاستقلال بها فوقعت مواجهات مع العسكر انتهت بمقتله، ثم استقرت أحوال الولاية بمقدم إبراهيم باشا صهر السلطان، والذي رتب الأحوال في مصر ووضع نظامها الإداري ليبدأ فيها عهد استقرار طويل. لقد "كان معظم الحكام الذين أُرْسِلوا لمصر أقوياء وأكفاء، والمعطيات التاريخية القليلة المتاحة عنهم تتحدث عن أعمالهم أو عن الأثر الذي تركوه في نفوس رعاياهم"[4].


كان سليمان باشا الخادم أول ولاة مصر في هذه الحقبة، وظل فيها عشر سنوات (931 – 941هـ)، نجح خلالها في توطيد الأمن، وأولى اهتماما كبيرا بضبط الأمور فأعاد تعيين المساحة لضبط الأقاليم، كما اهتم كثيرا بالفعاليات التجارية في البحر الأحمر ومع الهند، وانبسط به أهل مصر في ولايته الأولى[5].


ثم اسْتُدْعِيَ سليمان الخادم للمشاركة في حملة بغدان فصارت ولاية مصر إلى خسرو باشا، الذي أرسل خراج مصر اثني عشر حملا بدلا من ثمانية، فرأى سليمان أن هذه الزيادة جاءت بظلم الرعية، فعزله وأنفق الزيادة في وجوه الخير[6]، فلم تكمل مدة ولايته السنتين (941 – 943هـ)، ومع هذا فقد شهدت نشاطا عمرانيا حيث عمَّر جزءا من سوق الصاغة، وأنشأ صهريجا بين القصرين، وأنشأ مكتبا يتبنى تعليم الأيتام وإطعامهم، كما "حصَّن القرافتين المرضيتين، وعمَّر بهما الدروب الجدد"[7]، وسبيله المشهور هو الوحيد الباقي من أسبلة تلك الحقبة، ولا يزال بحالة جيدة[8].


وبعد انتهاء الحملة تولى سليمان الخادم منصب الوزارة في الآستانة ثم أعيد مرة أخرى إلى مصر، وكانت ولايته هذه المرة أقل من سنتيْن (943 – 945هـ)، وعُرِفَ سليمان الخادم بكثرة العمارة في مصر وأشهر آثاره جامعه المعروف بجامع سارية الجبل في القلعة، أنشأه في ولايته الأولى (935هـ) وهو أول جامع يشيد على الطراز العثماني، "وله أوقاف دارّة وشعائره الإسلامية مقامة"[9]، كما عمَّر تكية وجامع السليمانية في منطقة بولاق، وجعل عليها وقفا كبيرا بلغ خمسة وعشرين فدانا بالجيزة، وبجواره وكائل وأسواق وربوع، منها مَعَاصِر للسكر ووكالتين لتجارة الكتان ووكالات للذهب والزيت، وعمَّر تكية بقوصون[10]، وبنى قبة خضراء على قبر الشيخ سعود المجذوب بشارع سوق السلاح عند حارة النصارى[11]. ومن أشهر الأمراء في عهد سليمان الخادمِ الأميرُ جانم الحمزاوي، الذي كان ناظرا على الأموال السلطانية، وكان محبا للعلماء حريصا على الاجتماع بهم، وقد عمَّر تُرْبَة وأوقف عليها أوقافا وقرر لها شيخا وعشرة أشخاص يقيمون بها مع المسكن والطعام[12].


ثم تولاها داود باشا لنحو اثني عشر عاما (945 - 956هـ)، وأثنى عليه المؤرخون بالحلم والكرم ومحبة العلماء والكتب والعدل والأمن[13]، وأنشأ عددا من الوكالات لتجارة وتخزين الحبوب[14]، وبنى في ولايته مدرسة عظيمة محكمة البناء بسويقة اللاله –وهي المعروفة الآن بمسجد داود باشا- ووقف لها أوقافا[15]، وجدَّد مسجد الطباخ بتوصية من السلطان سليمان بمنطقة باب اللوق[16]، ولما مات الشيخ جاهين الخلوتي، وهو من الاولياء الصوفية دفن بزاويته التي في سفح جبل المقطم، فبنى عليها –بتوصية من السلطان سليمان- قبة وأوقف عليها أوقافا[17].


ثم صارت ولاية مصر إلى علي باشا السمين (علي باشا الوزير)، وكان حاكما عادلا صالحا محبا للعلماء والفقراء محسنا لهم، وقد عُرِف بالعمران أيضا، إذ رمَّم وبنى عدة مبانٍ في القاهرة كمقام السيدة زينب ومبان أخرى بفوة ووكالة عظيمة برشيد، وجدد قلعة العريش[18]، وكان قدوة حسنة لغيره من الأمراء الذين شيدوا الجوامع[19]، وقد قضى علي باشا في مصر أربع سنوات ونصف (956 – 961هـ) ثم استُدْعِي إلى الآستانة ليشغل منصب الصدر الأعظم.


ثم تولاها محمد باشا (961هـ) فكان على عكس سلفه محبا للخلاعة، قضى في مصر ثلاث سنوات (961 – 963هـ) فكرهه الناس وتكررت منه الشكاوى وزاد البلاء بأن وقع في زمنه غلاء عظيم وشَحَّتْ المحاصيل، فلما وصلت قبائحه إلى السلطان سليمان عزله ثم قتله خنقا (963هـ)[20].


ثم تولى إسكندر باشا فحكم ثلاث سنوات وأشهر (963 – 966هـ)، وكان من أهل الخير والصلاح، وأحبه الناس محبة عظيمة، وزاد النيل في ولايته فقلَّتْ الأسعار، وهو أشهر الولاة العثمانيين وأكثرهم عمارة في تلك الفترة، فهو صاحب الوقف الشهير المعروف بوقف إسكندر باشا، وفيه المدرسة والسبيل والتكية والمنشآت الكثيرة[21]، فعبر سنوات ولايته "شَيَّد واشترى 27 حانوتا ومبنيين للإيجار ومطبخ سكر" وأوقفها على المدرسة والسبيل والتكية[22]، ومن المؤسف أن هذا كله زال وهُدِم في مراحل لاحقة[23].


ثم تولى على باشا الخادم (966هـ) لمدة ستة عشر شهرا، وكان من أهل الدين والخير، عادلا محبا للعلماء والفضلاء كثير الإحسان لهم، ولما مات لم يكن لديه إلا سبعة دنانير، وخمسة عشر قطعة من الملبس[24]، ولا تُعرف له أوقاف في مصر.


ثم تولى مصطفى باشا شاهين (مصطفى الثاني) (967هـ) فقضى في الولاية ثلاث سنوات وأربعة أشهر، "فجعل الرشوة شعاره والظلم دثاره مع عدم إنصافه للرعية"، ومع ذلك فإنه كان من أصحاب العمارة حيث عمَّر الرُّبْع الذي بمصر القديمة، وجعله وقفا على أعمال خير، ولما وصلت أخبار ظلمه وجوره عزله السلطان سليمان عن مصر[25]، وهو آخر ما نرى لهم من الولاة أوقافا على أعمال الخير حتى نهاية الفترة محل البحث، إذ خلفه في ولاية مصر علي باشا الصوفي (971هـ) فقضى فيها سنتين وثلاثة أشهر وبدأ في ولايته التلاعب بالعملة وضعف الأمن وزادت اللصوص[26]، ثم خلفه محمود باشا (شوال 973هـ) الذي بدأ ولايته بقتل عدد من الأعيان والكبار ومصادرة أموالهم، ثم اغتيل على يد مجهول قبل أن يكمل عشرين شهرا في منصبه، وكان آخر ولاة السلطان سليمان في مصر[27].


نتوقف هنا لأن المساحة المتاحة لا تسمح بأكثر من هذا، وفي المقال القادم إن شاء الله نعرض تحليلا لدوافع هذه الأوقاف وخصائصها، لكن القدر الذي يهمنا في هذا المقال وهو الشاهد منه أن هذا لم يكن بحال سلوك محتل للبلد كما فعلت الدول الأوروبية بعدها بثلاثة قرون في بلادنا، وهي القرون الثلاثة التي حُفِظَت فيها الديار العربية بالسيوف العثمانية.


الهوامش


[1] ابن أبي السرور البكري، المنح الرحمانية في الدولة العثمانية وذيله اللطائف الربانية على المنح الرحمانية، تحقيق: د. ليلى الصباغ، ط1 (دمشق: دار البشائر، 1995م)، ص102، 103.
[2] محمد أبو العمايم، آثار القاهرة الإسلامية في العصر العثماني، مراجعة: د. صالح سعداوي، ط1 (اسطنبول، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، 2003م)، ص16؛ سعاد ماهر محمد، مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، (القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1983م)، 5/73 وما بعدها.
[3] علي مبارك، الخطط التوفيقة، 2/104.
[4] مايكل ونتر، المجتمع المصري تحت الحكم العثماني، ترجمة: إبراهيم محمد إبراهيم، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001م)، ص60.
[5] ابن أبي السرور البكري، المنح الرحمانية، ص146 وما بعدها؛ الإسحاقي، أخبار الأول، ص150؛ ابن الوكيل، تحفة الأحباب بمن ولي مصر من الملوك والنواب، تحقيق: محمد الششتاوي، ط1 (القاهرة: دار الآفاق العربية، 1999م)، ص110؛ فريدون أمجان، سليمان القانوني، ص228.
[6] فريدون أمجان، سليمان القانوني، ص79.
[7] ابن أبي السرور البكري، المنح الرحمانية، ص158، 159. وقد أضافت المحققة د. ليلى الصباغ لترجمة خسرو باشا إضافات من "عيون الأخبار ونزهة الأبصار"، وهو كتاب آخر لابن أبي السرور البكري. وانظر: الإسحاقي، أخبار الأول، ص150؛ ابن الوكيل، تحفة الأحباب، ص110.
[8] محمود حامد الحسيني، الأسبلة العثمانية بمدينة القاهرة: 1517 – 1798م، ط1 (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1988م)، ص122.
[9] علي مبارك، الخطط التوفيقية، 5/14.
[10] ابن أبي السرور البكري، المنح الرحمانية، ص157، 159؛ الإسحاقي، أخبار الأول، ص150؛ ابن الوكيل، تحفة الأحباب، ص110؛ محمد أبو العمايم، آثار القاهرة الإسلامية، 1/55 وما بعدها؛ د. هدى جابر، البشر والحجر: القاهرة في القرن السادس عشر، (القاهرة: دار الوثائق والكتب القومية، 2010م)، ص76.
[11] الغزي، الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة، تحقيق: خليل المنصور، ط1 (بيروت: دار الكتب العلمية، 1997م)، 2/146؛ علي مبارك، الخطط التوفيقية، 6/32؛ محمد أبو العمايم، آثار القاهرة الإسلامية، 1/39.
[12] محمد راغب الطباخ، إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء، ط2 (حلب: دار القلم العربي، 1989م)، 3/474. ومن طريف ما يروى عن هذه المقبرة أنه دُفِن فيها اثنان من العلماء الكبار: نور الدين الطرابلسي الحنفي والنور البحيري الشافعي وطلب الشيخ نور الدين محيسن القاهري أن يدفعن معهم إن مات فيكون قد اجتمع بها ثلاثة أنوار.
[13] ابن أبي السرور البكري، المنح الرحمانية، ص160 وما بعدها؛ ابن الوكيل، تحفة الأحباب، ص111.
[14] د. هدى جابر، البشر والحجر، ص76.
[15] الإسحاقي، أخبار الأول، ص150.
[16] محمد أبو العمايم، آثار القاهرة الإسلامية، ص53، 54.
[17] المناوي، الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية: الطبقات الكبرى، تحقيق: محمد أديب الجادر، ط1 (بيروت: دار صادر، 1999م)، 3/379.
[18] ابن أبي السرور البكري، المنح الرحمانية، ص163، 164؛ ابن الوكيل، تحفة الأحباب، ص111، 112.
[19] جرجي زيدان، مصر العثمانية، تحقيق: د. محمد حرب، (القاهرة: دار الهلال، 1993م)، ص121، 122.
[20] ابن أبي السرور البكري، المنح الرحمانية، ص165، 166؛ ابن الوكيل، تحفة الأحباب، ص112.
[21] ابن أبي السرور البكري، المنح الرحمانية، ص167، 168؛ الإسحاقي، أخبار الأول، ص151؛ ابن الوكيل، تحفة الأحباب، ص112، 113.
[22] أندريه ريمون، القاهرة، ص197.
[23] محمد أبو العمايم، آثار القاهرة الإسلامية، 1/71 وما بعدها.
[24] ابن أبي السرور البكري، المنح الرحمانية، ص168؛ ابن الوكيل، تحفة الأحباب، ص113.
[25] ابن أبي السرور البكري، المنح الرحمانية، ص170، 171. وترجح المحققة أن المنطقة المذكورة هي عطفة السادات التي في شارع درب الجماميز بمنطقة السيدة زينب؛ ابن الوكيل، تحفة الأحباب، ص113.
[26] ابن أبي السرور البكري، المنح الرحمانية، ص171 وما بعدها؛ ابن الوكيل، تحفة الأحباب، ص114.

[27] ابن أبي السرور البكري، المنح الرحمانية، ص174 وما بعدها؛ ابن الوكيل، تحفة الأحباب، ص114، 115.

(*) باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية.















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق