الأربعاء، 3 أبريل 2019

الدولة الإسلامية أم الدولة النيوزيلاندية؟!

الدولة الإسلامية أم الدولة النيوزيلاندية؟!

 محمد إلهامي
أبدأ بالإقرار والاعتراف أن تعامل الحكومة النيوزيلاندية مع مذبحة المسجدين كانت فوق المتوقع، وأنها تعاملت مع الموضوع كما ينبغي لحكومة علمانية ليبرالية تؤمن بالتعدد والتنوع، أي كما ينبغي للصورة العلمانية الليبرالية كما ترسمها وتتمناها التنظيرات المعجبة بها والمؤيدة لها.

وقد أثار هذا مزيدا من الجدل حول الدولة التي نأملها وننشدها في واقعنا، إن مما يتمناه الإنسان السويِّ أن يعيش الناس بأمان وسلام وأن يجد المتطرف منهم رفضا عاما من الناس ومن السلطة، وأن يجد الضحايا تعاطفا عاما من الناس والسلطة معا.. فهل هذه الصورة الجميلة الحافلة بالمشاعر الإنسانية موجودة في الدولة الإسلامية التي تُبَشِّرون بها وتسعون إليها؟

بعضهم زاد في إحراجنا فطرح أسئلة من عينة: هل يمكن للخليفة أن يرفع الصليب أو يلبس الطاقية اليهودية إذا وقع اعتداء على الأقليات المسيحية واليهودية كما رأينا رئيسة الحكومة هناك ترتدي الحجاب ويذيعون الآذان في وسائل الإعلام ويفتتحون البرلمان بالقرآن الكريم؟

سيحتاج توضيح الموقف الإسلامي إلى عدة أمور أحاول سردها في هذه السطور، سائلا الله التوفيق والإعانة.

1.   نيوزيلاندا استثناء علماني

لو كانت سيرة البلاد العلمانية مع الشعوب ومع الجرائم ضد الأقليات كسيرة هذه الحكومة النيوزيلاندية، فلربما كنا اقتنعنا أن العلمانية تستطيع التعبير عن نفسها بهذه الصورة الجميلة المشبعة بالتنوع الإنساني واحترام الأقليات وإعلاء قيم التسامح، بينما الواقع غير ذلك، لقد كانت هذه الصورة نموذجا استثنائيا كما يشهد الجميع، وكما تابع الجميع بانبهار وإعجاب. إن حوادث المساجد خبر أسبوعي تقريبا في أوروبا وأمريكا ولم يحدث شيء مما فعلته الحكومة النيوزيلاندية، ويمكن ببساطة متابعة تقارير المنظمات الإسلامية أو المنظمات المهتمة بالتنوع وحقوق الأقليات لتتبع هذه الأحداث.

وبناء عليه، وكما تقرر في سائر العلوم، النادر لا حكم له، والاستثناء لا يُبنَى عليه ولا يُستدَلُّ به. فليس لأصحاب مذهب العلمانية أن يفخروا باستثناء خالف الأصل.

2.   نيوزيلاندا بعيدة عن الصراع بينما تظهر حقيقة الأخلاق في الصراع

من المعروف المتقرر الذي شهدت له قرون التاريخ أن الغرب يتعامل في بلادنا بازدواجية أخلاقية، وعلى سبيل المثال، فلو كنتَ مصريا معارضا واستطاع النظام أن يسجنك فستُعَذَّب بآلات تعذيب مصنوعة في بلاد الغرب وستُقْتَل برصاصة انطلقت من سلاح غربي، أما إذا استطعت الإفلات لنفس هذه البلد الغربية فربما تحصل على حق اللجوء الإنساني وربما على إعانة شهرية باعتبارك لاجئا هاربا من منطقة تعاني من انتهاكات حقوق الإنسان، وفي كلا الحاليْن فإن رئيس هذا البلد الغربي سيكون قد دعم الانقلاب العسكري الذي صنع بك كل هذا، وهو يلتقي بشكل دوري بزعيم الانقلاب ويعقد معه الصفقات.

الازدواجية الأخلاقية الغربية ليست غريبة علينا، ولهذا فإن الجريمة التي تقع هناك في أرضهم تُعامَل بشكل مختلف تماما عن الجريمة التي تقع في بلادنا، وقد تقرر منذ قرون "النهضة الأوروبية" وعصر الاستعمار العالمي الذي اجتاح إفريقيا وآسيا والأمريكتين أن معاملة أولئك للشعوب المختلفة لا علاقة لها بمعاملتهم لمن استطاع الإفلات من أرض الاحتلال إلى أراضيهم.

لو كنَّا نعرف الغرب من خلال سياساتهم الداخلية فحسب لكان إعجابنا بهم يتضاعف أضعافا مضاعفة، ولكن حيث أنهم احتلونا في بلادنا فقد ظهرت حقيقة أخلاقهم وحقيقة سياساتهم وحقيقة قناعاتهم الجميلة التي تخفي تحتها كل أنواع التوحش الاستعماري.

حسنا.. ما علاقة هذا كله بنيوزيلاندا؟

نيوزيلاندا بلد في أقصى الأرض، ليست قريبة من ديارنا وبلادنا، ليس لها ميراث استعماري نختبر فيه حقيقة أخلاقهم، ولهذا فيجب أن نعرف أن هذا المشهد الجميل الذي رأيناه إنما هو مشهد السياسة الداخلية، مشهد يشبه تهنئة أوباما للمسلمين بعيدهم وإفطاره مع وفد لهم في رمضان، بينما أنواع نيرانه تقصف المسلمين في أفغانستان وباكستان والعراق واليمن والصومال وغيرها.

إننا نرى نصف الصورة فقط.. ولا ينبغي لنصف الصورة أن تنسينا أن ثمةَ نصفٌ آخر يحكم عليها فيصدِّقَها أو يكذِّبَها، نصف الصورة الآخر هو السياسة الخارجية..

بالتفتيش ستجد أن قوات نيوزيلاندا مشاركة ضمن التحالف الدولي في العراق، ومن قبلها في قوات إيساف في أفغانستان، ولكن لكونها دولة صغيرة ومنزوية في أقصى الأرض فهي غير حاضرة في الذهن الإسلامي.

3.   نيوزيلاندا يمكن أن تتغير

نيوزيلاندا دولة ديمقراطية، لقد وقفت اليوم بقوة ضد سفاح المسجدين وعبَّر كثير من أطيافها عن تعاطفهم وتضامنهم مع المسلمين، لكن السؤال: من يضمن ألا تتغير نيوزيلاندا؟ أو يصعد فيها اليمين المتطرف ومن ثم يستحيل سفاح اليوم بطل الغد؟!

الدول العلمانية الديمقراطية تتأسس على أن الشعب هو مصدر السيادة، هو صاحب الأفكار النهائية التي يجب أن تعبر عنها الدولة وتنفذها السلطة، الفكرة النظرية للدولة العلمانية الديمقراطية أنها لا تستمد أفكارها وقيمها من مصدر خارجها كالدين الذي يعتمد على الغيبيات وله أفكاره المقدسة، الدولة العلمانية –كما هي في الحالة النظرية- تعبير عن رأي الشعب، الشعب يقرر كيف يُحْكَم عبر ممثليه الذين يضعون الدستور، والذين يملكون حق التشريع في البرلمان، والذين يشكِّلون الحكومة التي تنفذ القوانين، وهكذا.

هذه هي الصورة النظرية التي لا تحدث عمليا بمثل هذه الكفاءة، بل ثمة خروقات هائلة للديمقراطية تجعلها مسرحا يتحكم فيه أصحاب القوة والنفوذ والأموال.. لكن هذا حديث آخر لن نخوضه الآن.

الذي نخوضه الآن هو مسألة الأفكار الحاكمة لنيوزيلاندا كدولة ديمقراطية، إذا تغيرت أفكار الناس من الليبرالية التي ترحب بالتنوع والتسامح والتعدد إلى اليمين القومي العنصري، ماذا سيحدث؟.. يفترض بالديمقراطية التي تعبر عن رأي الشعب وعن توجه المجتمع أن تفرز حكومة وبرلمانا وقوانين في نفس هذا التوجه، وحينها سيتحول الموقف من المهاجرين والملونين إلى الموقف القانوني الديمقراطي السليم، إن أغلبية المجتمع لا ترحب بهؤلاء ولا تريد لهم البقاء فيه. احتراما للديمقراطية ولرغبة الأغلبية يجب أن يخرجوا طوعا أو كرها.

تشهد أوروبا الآن موجة من صعود التيارات اليمينية، الكلام الذي كان يُمكن أن يُدان قائله بتهمة العنصرية قبل سنوات يُقال الآن تحت قبة البرلمان وعلى ألسنة رؤساء حكومات أحيانا، ولكنها الديمقراطية يا صديقي.

وإذن، فليس يضمن أحد أن تكون هذه اللحظة الجميلة في تاريخ نيوزيلاندا مجرد لحظة تاريخ عابرة وستنتهي، ثم تأتي من بعدها لحظة أخرى يكون فيها سفاح المسجدين بطلا سابقا لعصره وصاحب بصيرة نافذة في توقع الخطر الذي لم ينتبه إليه المجتمع إلا متأخرا، كما حدث في كل البلاد التي تراجعت عن قوانين كانت سائدة ومستقرة فيها.

ربما يسأل سائل: لا أحد يضمن الغيب ولا يضمن المستقبل، ولا حتى في "الدولة الإسلامية" التي تبشر بها وتسعى إليها، فلماذا تريد أن تضمن الغيب في نيوزيلاندا ولا تريد لنا أن نطمئن على مصير الأقليات في "الدولة الإسلامية"؟
أقول: الإجابة ستأتيك بعد قليل إن شاء الله. لكن يهمني الآن تثبيت أن حالة التنوع والتسامح التي أعجبنا بها جميعا لا تستند إلى حقيقة صلبة دائمة، وأرجوك: لا تنس أن شعب نيوزلاندا أصلا هو بقايا البيض الأوروبيين الذين أبادوا السكان الأصليين لهذه البلاد قبل ثلاثة قرون!

4.   هل خرجت نيوزيلاندا عن طبيعتها كدولة علمانية ليبرالية ديمقراطية؟

ذكرنا أن الدولة العلمانية الليبرالية تقوم في أساسها النظري على الحياد تجاه الأديان، إنها دولة تقف على مسافة واحدة من كل المعتقدات، ترى المسلم مثل المسيحي مثل اليهودي مثل الهندوسي مثل الملحد.. كلهم مواطنون!
كلهم مواطنون خاضعون لنظام الدولة وقوانينها.. أرجوك انتبه لهذه النقطة جيدا!

كل أولئك مواطنون خاضعون لنظام الدولة وقوانينها، بمعنى: ليست ثمة مشكلة للدولة إذا عبد الهندوسي البقرة، لكن لا يجوز للهندوسي الاعتراض على ذبح البقر وسلخه وتقديمه طعاما لذيذا شهيا للآكلين، وليست ثمة مشكلة للدولة إذا امتنع المسلم عن شرب الخمر لكن لا يجوز له الاعتراض على بيع الخمر وتصنيعه وتقديمه شرابا حلوا سائغا للشاربين، ولا بأس عند الدولة أن يتزوج المسيحي في الكنيسة لكن لا يجوز للأب في الكنيسة الاعتراض على مسيحي أراد أن يتزوج زواجا مدنيا أمام موظف الدولة.

هنا الدولة صارت في حقيقتها دين آخر: عبادتها هو الخضوع للقانون واحترام الدستور وتحية العلم ودفع الضرائب والمشاركة في الجيش الوطني وأمورا أخرى.. فيما عدا ذلك فيمكن أن تمارس معتقداتك التي لا تتعارض مع نظام هذه الدولة.

من هنا ففي لحظة التعاطف العلمانية الليبرالية النموذجية يمكن لرئيسة الحكومة أن تلبس الحجاب الإسلامي وتذيع الآذان وتفتح البرلمان بالقرآن، تعبيرا عن تعاطفها مع الضحايا المسلمين، مثلما يمكن غدا أن ترتدي الطاقية اليهودية وتذيع التراتيل وتفتح البرلمان بالتوراة، مثلما يمكن أن تقف في احترام أمام بقرة وتستضيفها في البرلمان  وتذيع الأناشيد الهندوسية.. هذه لحظة مجاملة للضحايا! وهي مشهد إنساني جميل من منظور الرؤية العلمانية التي ترى الجميع مواطنين..

يشبه –مثلا- في بلادنا أن يرتدي الرئيس زيا شعبيا لمنطقة ما إذا زارها، أن يرتدي جلبابا فلاحيا وعباءة كما كان يفعل السادات، أن يرقص رقصة شعبية كما يفعل عمر البشير، أن يظهر رئيس في ثوب رياضي ضمن مناسبة رياضية.. وهكذا!

وعليه فلا ينبغي أن يحرجنا أحد بالحديث عن الخليفة المسلم ممثل الدولة الإسلامية: هل سيرفع الصليب أو يرتدي الطاقية اليهودية إن وقعت مثل هذه الجريمة ضد نصارى أو يهود في الدولة الإسلامية. مثلما نحن لا نفكر أيضا في أن نطلب من بابا الفاتيكان أو أحبار اليهود تقبيل القرآن الكريم أو أداء الصلاة الإسلامية من باب التعاطف مع المسلمين.. فتلك متناقضات دينية وسياسية معا!

تدري متى يمكن القول أن حكومة نيوزيلاندا خرجت عن طبيعتها العلمانية وتعاطفت مع المسلمين على نحو ما يطلبه البعض من الخليفة أن يرفع الصليب؟

يحدث هذا إذا غيرت نيوزيلاندا طبيعتها السياسية والقانونية، فأتاحت مثلا لأولياء الدم أن يقتصوا من القاتل عملا بالشريعة الإسلامية وتعطيلا للقانون النيوزيلاندي الذي يمنع العقوبة بالإعدام؟ أو أن تعطي للمسلمين كوتة في برلمانها يضمنون بها ألا يُشَرَّع قانون في نيوزيلاندا لا يتوافق مع شريعتهم؟

ساعتها نقول بأن نيوزيلاندا خرجت عن طبيعتها العلمانية بتعاطفها مع المسلمين..

ساعتها يمكن للبعض أن يحرجنا بالسؤال: هل يمكن أن يرفع الخليفة المسلم الصليب أو أن يحضر قداس الجنازة في الكنيسة تعاطفا مع الضحايا النصارى؟

الخلاصة: مسألة ارتداء الحجاب وإذاعة الآذان وافتتاح البرلمان والقرآن هي مجاملات طبيعية في السياق العلماني الليبرالي.

إذن، لماذا اندهشنا وأعجبنا بهذه المشاهد؟

الإجابة ذكرتها سابقا: لأن نيوزيلاندا كانت استثناءً حتى في هذا السياق العلماني نفسه الذي لم يجامل المسلمين من قبل بمثل هذه الأمور، وإن لم تكن متناقضة مع الرؤية العلمانية.

5.   فماذا عن "الدولة الإسلامية" التي تنشدها؟

رغم أن كثيرا من الكلام ينبغي قوله، لكن كي لا يطول المقال ويكون مملا، ندخل الآن في موضوع الدولة الإسلامية وكيف يكون موقفها إذا اقتحم مسلم متطرف كنيستين فارتكب فيهما مذبحة؟

يجب أن نقرر بداية أن المجتمع المسلم لا يُنتج خطابا استئصاليا للأقليات، لسبب بسيط ولكنه في غاية القوة والمتانة والرسوخ، أن حقوق الأقليات محفوظة بالنصوص المقدسة في الإسلام: القرآن والسنة، وعليهما بُني الفقه الإسلامي، وبهما عمل الخلفاء الراشدون وعامة الخلفاء والسلاطين في الدول الإسلامية المتعاقبة.

ليس من أحد يملك أن يغير قول الله تعالى (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم) ولا قول الله تعالى (لا إكراه في الدين)، ولا أن يبدل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً" (رواه البخاري) ولا قوله صلى الله عليه وسلم "من ظلم معاهَدًا أو كلَّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة" (السلسلة الصحيحة: 445)، ولا أن يحذف تاريخ الخلفاء الراشدين وعامة تاريخ الخلفاء من بعدهم ولا أن يحرق كتب الفقه والأصول والتفسير والعقائد.

في هذه المصادر جميعا لا وجود لمعنى الاضطهاد والاستئصال والطرد للأقليات الدينية، وأبرز دليل على هذا أن عالمنا الإسلامي لا يزال يشهد وجود الأقليات الدينية الباقية فيه حتى الآن، ولا تزال الكنائس العريقة والكُنُس اليهودية العتيقة قائمة فيها، ولقد شهد لهذه الحقيقة التاريخية مستشرقون ومؤرخون غير مسلمين بما يطول المقام جدا لو اقتبسنا منه شيئا، ولكن ندعو الجميع لجولة في مثل هذه الكتب: الدعوة إلى الإسلام لتوماس أرنولد وحضارة العرب لجوستاف لوبون وشمس الله تسطع على الغرب لزيجريد هونكه وقصة الحضارة لول ديورانت وفضل الإسلام على الحضارة الغربية لمونتجمري وات والإسلام والمسيحية في العالم المعاصر لمونتجمري وات أيضا وإنسانية الإسلام لمارسيل بوازار. (وإذا أردت الاختصار فانظر: وشهد شاهد من أهلها – د. راغب السرجاني، الإسلام في عيون غربية – د. محمد عمارة).

هذا فضلا عن ازدهار أوضاع اليهود والنصارى في التاريخ الإسلامي بما يتضاءل معه كل مكسب لأقلية مسلمة في حكم ديمقراطي ليبرالي علماني معاصر.. وهذا أيضا موضوع يطول الحديث فيه، وسترى بعضا منه في الكتب السابق ذكرها.

لكن لماذا أبدأ بهذا التقرير: تقرير أن حقوق الأقليات محفوظة بالنصوص المقدسة وبالبناء الفقهي الطويل؟

لأن هذا أصل كل الإجابات على المشكلات:

أ. حين تكون الحقوق محفوظة بالنصوص المقدسة فإن الذي يعتدي على أهل الذمة والمعاهدين فهو يرتكب جريمة بميزان الدين نفسه، فيتصدى له المسلمون أنفسهم قبل غيرهم لا دفاعا عن أهل الذمة فحسب بل دفاعا عن دينهم بالمقام الأول. لن يكون المجرم ساعتئذ مجرما بميزان القانون وحده، بل مجرما بميزان الدين نفسه، الدين الذي يرى كل مسلم أنه مُكَلَّف بالدفاع عنه.. لن تكون المسألة هنا مسألة هنا مسألة تعاطف إنساني يمكن أن يقدمه البعض ويمتنع عنه البعض ويرفضه البعض (كما فعل السيناتور النيوزيلاندي فرايزر أنينج).

ب. حين تكون الحقوق محفوظة بالنصوص المقدسة فلن يكتب المجرم على سلاحه تواريخ انتصارات المسلمين على الروم والصليبيين، ولن يجد منظمة دينية تبارك عمله كما باركت منظمة فرسان المعبد عملية السفاح.. لأن الجماعة الإسلامية لا تجد في تراثها مبررا للانتقام من النصارى ثأرا لمعارك وقعت قبل مئات السنين، ولا تجد في تراثها مبررا للفتك بمسالمين ملتزمين بأحكام الإسلام في الدولة الإسلامية (دعنا نتذكر معا أن المسلمين المقتولين في مسجدي نيوزيلاندا كانوا ملتزمين بقوانين الدولة النيوزيلاندية).

جـ. حين تكون الحقوق محفوظة بالنصوص المقدسة لن تكون الدولة الإسلامية استثناء في السياق الإسلامي، كما هو حال نيوزيلاندا في السياق العلماني، لأنه لن يكون ثمة فقه خاص أو مخترع لدولة ما، بل سيكون تطبيق الإسلام هو اتباع النبي محمد وخلفائه الراشدين، هو النموذج الذي جرى في الشرق والغرب بطول التاريخ.

د. حين تكون الحقوق محفوظة بالنصوص المقدسة لن تكون أحوال أهل الذمة تابعة لأهواء الحكام، وتبدل المواقف والأحزاب السياسية، وتغير رغبات الجمهور.. هذه هي الإجابة التي كنتُ قلتُ لك سأتيك بعد قليل، وهنا افتراق ضخم ضخم ضخم بين النظام الإسلامي والدولة العلمانية الديمقراطية المعاصرة.

في النظام الإسلامي لا يملك أحد تغيير الشريعة، حق التشريع نفسه لله، نطق به القرآن والسنة، واستنبط منه الفقهاء وفي إطاره تكون الفتاوى المناسبة للنوازل المتجددة.. وهكذا لن يظهر في سياق نظام إسلامي أبدا من ينتهك حقوق الأقليات مستندا إلى الإسلام. ذلك أن الحاكم لا يملك أن يغير ويبدل في الشرع، ولن يتنافس حزب مع حزب آخر (هذا لو سَلَّمنا بأن نظام الحكم الإسلامي سيعتمد نظام الأحزاب في التنافس.. ولكن هذه نقطة هامشية الآن) في مسألة طرد الأقليات أو إجبارها على الإسلام أو التضييق على حقوقها ونزع ما كفلته الشريعة لهم.

لن يوجد في الإسلام رجل قتل أهل الذمة اليوم فصار مُدانًا ثم قد يأتي عليه زمن يكون فيه بطلا صاحب بصيرة بعدما تغيرت القوانين ونظرة الناس إليها. صلاحيات السلطة في النظام الإسلامي لا تتناول تغيير ما جاءت به الشريعة، وهذه هي الضمانة الأهم والأقوى والتي هي على شرط المستقبل.

كان ابن تيمية يستنقذ أسارى المسلمين من المغول فعرض عليه قائدهم أن يأخذ أسرى المسلمين فحسب فرفض ابن تيمية إلا أن يستنقذ معهم الأسرى من أهل الذمة. وبعده بخمسة قرون فكَّر عباس حلمي الأول في إبادة الأقباط أو نفيهم من مصر إلى السودان تقليلا لنفوذهم الذي تعاظم في عهد جده محمد علي باشا فوقف لهم شيخ الأزهر إبراهيم الباجوري قائلا: الإسلام يأبى عليك هذا، ولم يطرأ على ذمة الإسلام طارئ.

هذان موقفان من سياق طويل للتعبير عن قوة الضمانة والحصانة الممنوحة للأقليات الدينية في نظام الإسلام. الحاكم لن يستطيع مغازلة الشعب باضطهاد الأقليات، ولا يتوقع أن الشعب المسلم نفسه يكون ذات يوم فرحا بهذا!

هل معنى هذا أني أقول بأن الأقليات في العالم الإسلامي لم ولن تشهد اضطهادا قط؟!

لم أقل هذا ولا أحد يقول به، وإلا فهو مجتمع الملائكة، وإنما نحن بشر.. لكن الذي أقوله بوضوح أن أي مقارنة بين تاريخنا الإسلامي وتاريخ أي أمة في شأن اضطهاد الأقليات سيذهب على الفور إلى الانتصار للتاريخ الإسلامي (وهذا أمر أثبته كثيرون من المؤرخين غير المسلمين)، ثم أقول: بأنه لا يوجد نظام قانوني معاصر ولا في المستقبل يحفظ حقوق الأقليات سيكون أثبت وأرسخ من النظام الإسلامي، ذلك أنه متعلق بالدين نفسه ومحفوظ بقوة النص المقدس في القرآن والسنة، بينما عامة النصوص الأساسية للنظم المعاصرة سواء أكانت دينية (كاليهودية والنصرانية وغيرها) أو وضعية (كالدساتير) يمكن تغييرها، إما للصلاحيات الواسعة الممنوحة للأحبار والرهبان لتغيير وتعطيل أحكامها أو للصلاحيات الواسعة الممنوحة لممثلي الشعب بالتعديل والتغيير والتعطيل بل وكتابة دستور جديد.

النظم القانونية هي مرآة واقع القوة، تتغير وتتبدل بحسب ما تفرض موازنات القوة. بينما النظام الإسلامي يتمتع بحصانة الدين وقوته في نفوس أتباعه. ولهذا بقيت الأقليات في بلاد الإسلام في ذروة قوة الإسلام وقدرته على استئصالها، بينما أبيد المسلمون من مناطق كثيرة مع غلبة عدوهم عليهم (كما في الأندلس وصقلية وكثيرا من شرق أوروبا وإفريقيا) بل وتتهدد الأقليات المسلمة في الأنظمة التي عناوينها العلمانية والتسامح والتعددية.

لقد أحصيت في كتاب "تاريخ الأقباط" للمقريزي، وهو كتاب يتناول ثمانية قرون من التاريخ المصري، تسعة فقط من الفتن التي وقعت بين المسلمين والنصارى، فهل يمكن لأقلية كهذه أن يوصف حالها بالاضطهاد؟! وهذا إحصاء بالمجمل بينما التفاصيل تزيد التأكيد على الوضع المتميز لأقلية الأقباط في مصر. وهم نموذج من الأقليات عبر تاريخ الإسلام.

والآن.. ألا ترون بعد هذا كله أن النموذج الإسلامي الذي نبشر به ونسعى إليه ونكافح لأجله أرقى من النموذج النيوزيلاندي الذي هو نفسه استثناء على أصل السياق العلماني؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق