«التعذيب في السجون العربية»، من الحلقات المحفورة في وجداني وذاكرتي مما قدمته في مسيرتي الإعلامية المتلفزة، التي ابتدأت عام 1995م على شاشة تلفزيون الكويت ولا يمكنني نسيانها.
في عام 2000، كانت لي سهرة تلفزيونية بعنوان «ساعة صريحة»، بدأتها بحلقة «التدين المغشوش»، وثنيتها أو ثلثتها بحلقة «التعذيب في السجون العربية»، قدمتها وأنا أعيش حالة من مشاعر بركانية وأحزان تغذيها ذاكرتي ومخيلتي المكتنزة بما قرأته من ذكريات السجناء والمعذبين من النساء والرجال، كتب وموسوعات ومقالات إضافة إلى لقاءات مع من قضوا في السجون مددا طويلة وخرجوا منها منهكين يحملون من ذكريات الألم والإذلال والتسلط ما يجعل الولدان شيبا.
في الحلقة اتخذت من كتاب (سنة أولى سجن) للسياسي ورئيس تحرير جريدة أخبار اليوم المصرية مصطفى أمين نموذجاً لمن سرد معاناته وخواطره الشخصية في ذكر تجربته مع السجناء، ولا أعتقد أن من قرأ الكتاب استطاع أن يتمالك دموع عينيه أو بكاء قلبه لا سيما عندما يقرأ فصل (مصرع السفاح)، كما أنني عرضت على الشاشة صورة ملك المنابر والخطابة الشيخ عبدالحميد كشك وعرضت مقطعاً من صوته أحفظه منذ كنت طالباً في المرحلة الثانوية يقول فيه:
(إن الأفكار لا تُغَيَّر بالكرباج، إن الأفكار لا تغير بتعليق الآدميين كما تعلق البهائم في السلخانات، إن الأفكار لا تغير بوضع الطوق الكهربائي في الرؤوس، إن الأفكار لا تغير بإطفاء أعقاب السجائر في مواطن العفة والكرامة... إن الفكر لا يغير إلا بالفكر).
واستشهدت بكل ما أملك من معلومات ومصادر، أعزز فيها قيمة الانتصار للمعذَّبين من أي دين أو عرق أو جنس كانوا وأن يكون ذلك مبدءاً إنسانياً مجمعاً عليه.
كتاب «موسوعة العذاب» لعبود الشالجي، و«ثورة في السنة النبوية» لغازي القصيبي، و«قذائف الحق» لمحمد الغزالي و«ذكرياتي في سجن النساء» لنوال السعداوي التي أختلف معها وأنتقد آراءها الفكرية.
وقائمة طويلة من المصادر تُحدث وعيا في عقول الجماهير ويقظةً لضمائرهم، ضد هذه الانتهاكات عرضتها في هذه الحلقة.
قطعا كان للحلقة تبعات وعليها ملاحظات ولكن لم يتم إيقاف البرنامج، وأذكر أنه كان ممن شاهد الحلقة عضو رابطة العالم الإسلامي الداعية المربي الذي عُرف ببرنامجه وفتاواه على قناة إقرأ الدكتور الفاضل عبدالله المصلح فطلب مني ناصحاً ومشفقاً أن أحتاط في كلامي وأن في التلميح غنىً عن التصريح وفي الإشارة كفاية عن العبارة، فقلت له يا سيدي واقع الكويت غير، وحدثته عن سقف الحرية عندنا وطبيعة العلاقة المرنة والمباشرة والودية بين المواطن الكويتي ومؤسسات الدولة وبين الحاكم والمحكوم، وأننا في بحبوحة من الحرية وطرح الآراء يحسدنا عليها الآخرون.
وذكرت طرفا من هذا الموضوع في الملتقى السادس عشر للإعلاميين العرب في الكويت، والذي كان تحت رعاية سمو رئيس مجلس الوزراء الشيخ جابر المبارك وبإدارة ناجحة تحت إشراف الأمين العام لهذا الملتقى الزميل ماضي الخميس، والذي قلت له إن محاضرتي عن تجربتي الإعلامية، وأي سرد لأي تجربة لن يكون لها معنى ما لم تحتوِ على بعض الصراحة التي تستلزم ذكرا تفصيليا لبعض المحطات والأسماء في مسيرة المتحدث.
والآن بعد تلك الحقبة ومع دخول العالم في الألفية الثالثة، هل ارتقت مفاهيم العدالة وتطورت قوانين حماية نزلاء السجون وضبط إجراءات التعامل معهم في بلدان العرب؟!
وماذا يقول واقعنا المعاصر عن التعذيب الجديد في سجون العرب الآخذة في الازدياد؟
لا أدري لماذا تذكرت... وسيل التساؤلات تتوالى على ذهني... لا أدري لماذا تذكرت الكتاب المترجم الذي قرأته قديماً (من يجرؤ على الكلام؟!) لعضو الكونغرس الأميركي بول فندلي... فهل نجرؤ حقاً على الكلام في نقد واقعنا العربي المُتخم بانتهاكات حقوق الإنسان والاعتداءات الصارخة على كرامة المواطن العربي بل وعلى عِرضه وحياته وتكريس الظلم والجهل وسلب الحقوق، بالقبضة الأمنية حيناً وبالفتاوى الدينية الشاذة أحياناً أخرى؟!
دراج ينصح "شرفاء النظام المصري" بالقفز من سفينته (6)
دراج: نحن ندرك أن هناك شرفاء كثيرين داخل أجهزة الدولة
دعا وزير التخطيط والتعاون الدولي المصري الأسبق، عمرو دراج، من وصفهم بشرفاء وحكماء المنظومة الحاكمة في مصر "بالقفز من سفينتها"، للمساهمة في إنهاء الأوضاع السلبية القائمة قبل فوات الأوان، مؤكدا أن مثل هذا التحرك سيحدث حينما ينفرط عقد النظام الحاكم. وأكد في الحلقة السادسة من مقابلته الخاصة مع "عربي21"، أن "ما يُضعف النظام، ومن دلائل نهاية أي نظام قمعي -كما رأينا على مدار التاريخ- أن يبدأ داعموه في الانفضاض من حوله، ويبدأون في القفز من السفينة، وهذا حينما يبدأ في الحدوث يحدث ويتداعى بشكل سريع". وتابع: "هذا يحتاج لحظة صدق لدى هؤلاء (الشرفاء) حتى يقرروا فيها أن ضميرهم لا يسمح لهم بالاستمرار في هذا الوضع القائم، وبعدما يدركوا أن الضرر الذي يحدث في البلد يفوق أي مصالح شخصية تخصهم، وحينما يرون أن النظام غير قابل للاستمرار سيقررون القفز من سفينة النظام". واستدرك بقوله: "بالطبع نحن لا ندعو إلى خروج سيسي آخر من داخل المنظومة لينقلب على السيسي، بينما يستمر في نفس الممارسات والسياسات، وبنفس الطريقة؛ فليس هذا هو ما سعينا إليه من خلال ثوره يناير أو من العمل الدؤوب على مدار الأعوام الماضية".
وقال: "نحن ندرك أن هناك شرفاء كثيرين داخل أجهزة الدولة، وفي منظومة المؤسسة العسكرية، وهؤلاء قد يكونون غير راضين عن الوضع الموجود الآن، إلا أنهم قد يكونون غير قادرين على اتخاذ قرار حاسم الآن فيما يتعلق باستمرار دعمهم للنظام أو إنهاء تلك الأوضاع أو فعل أي شيء". واستطرد دراج، الذي يشغل منصب رئيس المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، قائلا: "لكن في لحظة ما، وفي وقت ما، حينما تأتي لحظة الصدق، وتبدأ الأمور في التداعي السريع سيحدث هذا التحرك لا محالة"، لافتا إلى أنه لا يعرف ما الذي ينتوي فعله هؤلاء "الشرفاء" في المستقبل. وأوضح أنه "بالتأكيد هناك بعض التململ داخل مؤسسات الدولة، خاصة المؤسسة العسكرية، من ممارسات وسياسات السيسي"، مشيرا إلى أن "هذا التململ موجود ومحسوس ليس فقط داخل مؤسسات الدولة، بل لدى الشعب كله بشكل عام، وهذا واضح جدا". ونوه دراج إلى أنه يلمس هذا التململ عبر "التواصل مع أشخاص موجودين داخل جهاز الدولة ومواقع أخرى مختلفة بحكم العلاقات العائلية والأسرية والصداقات التي يمتلكها كل شخص فينا". وأضاف: "نحن نسمع ونرى أغلبية الشعب غير راض عن ممارسات السيسي الحالية، لكن هذا شيء مختلف عن الاستعداد لعمل إجراء لتغيير هذا الواقع في الوقت المنظور حاليا، ولا نريد أن نعطي للناس -كما يقولون- مُخدرات بالقول إن النظام على وشك الانقلاب على نفسه، وإن هناك انقلابا على الانقلاب أو إن الانقلاب يترنح، لأن هذا غير واضح للعيان". وأكمل: "الظاهر الآن أن المنظومة الانقلابية تفرض قبضتها وسطوتها بشكل كبير، إلا أن هذه سيطرة مصنوعة قائمة على القمع غير القابل للاستدامة؛ فمن الصعب جدا استمرار هذا القمع لفترات طويلة، وأيضا من غير المتصور استمرار الدعم الدولي والإقليمي للسيسي إلى الأبد في ضوء الطبيعة المتغيرة للظروف الدولية والإقليمية الراهنة". وذكر: "هناك تاريخ طويل لدى الولايات المتحدة في التخلي عن كل الحكام الدكتاتوريين الذين كانت تدعمهم عندما يستنفذون أغراضهم، والسيسي لم ولن يكون أول أو آخر شخص يحدث معه هذا الأمر، لكن بشكل آني وحالي هذا غير ظاهر، إلا إذا حدثت أمور لا نستطيع التنبؤ بها". وتوقع وزير التخطيط والتعاون الدولي الأسبق حدوث التغيير بمصر على المدى المتوسط، سواء بعد نفاد قدرة الناس على التحمل، واستعدادهم للعمل لتحرير أنفسهم مما هم فيه، أو عقب بدء انتهاء الدعم الإقليمي والدولي الذي يحظى به النظام الحالي، مشدّدا على أن هذا الأمر بات "مسألة وقت، وسيحدث إن عاجلا أو أجلا". ووجه رسالة لمن وصفهم بالشرفاء والحكماء داخل المؤسسة العسكرية، قائلا: "إن ما يتم تحصيله لكم من منافع الآن لا يمكن إطلاقا أن يوازي الضرر الواقع على مصر وشعبها باستمرار هذا النظام؛ فكل يوم يمضي على بقاء هذا النظام يترتب عليه ضرر غير قابل للإصلاح، ونحن لا نتحدث عن أضرار يمكن تداركها، بل أضرار غير قابلة للإصلاح إلا بعد سنوات طويلة جدا، وبعد عمل دؤوب وشاق". وقال: "الشخص الحريص على مصلحة البلد، وفي الوقت ذاته حريص على احترامه لذاته، واحترام أولاده له، حينما يلقى الله يستطيع الإجابة عن الأسئلة التي سيُسأل عنها عن مدى مشاركته ودعمه للقمع والظلم الموجود الآن، وعن الجرائم التي تُرتكب باسم النظام الذي يُشارك فيه". وأضاف: "أما الذي قد يكون راضيا عن ممارساته أو مستمرا في دعمه للنظام والعمل معه، فهو شريك في جرائم القتل والاعتقال والاغتصاب، فهل هذا يساوي أي منافع مادية يأخذها؟ وهل يساوي لحظة يقف فيها أمام الله لا يستطيع أن يجيب عن هذه الأسئلة؟". واختتم دراج بقوله: "إن الشخص الشريف ذا النفس اللوامة سهل أن يتراجع عن هذا الطريق السيئ، لكن الشخص الفاسد توجيه مثل هذا الكلام له أمر غير مجد، لكننا مستمرون في تقديم النصح لهم ولغيرهم".
اللورد كرومر.. المندوب السامي الذي أخضع مصر ثقافيا وعسكريا!
كان دخول الإنجليز مصر وهزيمتهم لأحمد عرابي في كفر الدوار والتل الكبير، واعتقاله مع كبار قادته ومساعديه، بداية الاحتلال الذي سيوجد على الأراضي المصرية طوال سبعين عاما قادمة؛ وكان أول ما فكر فيه الاحتلال من التغييرات الجوهرية لضمان سيطرتهم وبقائهم في مصر؛ إلغاء الجيش المصري، وخلق جيش أصغر من حيث العدد يرأسه ضباط من الإنجليز يتولون أمره، وبالفعل، وبعد احتلالهم القاهرة في 14 سبتمبر/أيلول 1882م أصدر الخديو توفيق بإيعاز منهم مرسوما بإلغاء الجيش المصري، وكانت الخطوة الأولى لإعادة هيكلة الجيش، ومحاسبة كبار الضباط الذين اشتركوا في الثورة العربية وقتال الإنجليز، فضلا عن تسريح صغار الضباط الموالين للحركة العرابية[1].
وعُهد بقيادة الجيش المصري الذي أُعيد هيكلته إلى الجنرال البريطاني فالنتين بيكر الذي أخضع الجيش المصري للسياسة البريطانية، فأنعم عليه الخديو توفيق الموالي للإنجليز بلقب "فريق"، ثم عيّن الخديو السير إفلن وود أحد قادة جيش الاحتلال البريطاني رئيسا لأركان الجيش المصري، فكان أول "سردار" (رئيس أركان) للجيش المصري، وظل هذا المنصب محصورا في القادة الإنجليز طوال عهد الاحتلال، كما حرص الإنجليز على إنقاص عدد الجيش المصري فأصبح ما بين ستة إلى تسعة آلاف جندي وضابط، وأُقصي الضباط المصريون عن أقسام الجيش الحسّاسة والمهمة مثل المخابرات الحربية وغيرها، وكانوا لا يضمنون البقاء في مناصب الجيش عامة إلا لمن أبدوا ولاءهم للاحتلال والقادة الإنجليز، وتسريح أي ضابط يُستشعر منه النقمة على الإنجليز وسياستهم.
لم تقف السيطرة الإنجليزية على الجيش المصري عند هذا الحد، بل التزموا سياسة استقطاب العناصر الضعيفة معرفيا للالتحاق بالجيش المصري لكي يسهل السيطرة عليهم، ويطيعوا الأوامر العسكرية دون تردد، فصار يؤخذ للمدرسة الحربية في عهد الاحتلال من ساقطي الشهادة الابتدائية، وقليل من حملة الشهادة الابتدائية، واقتصر التعليم في المدرسة الجديدة على معلومات ضئيلة يقوم بتدريسها معلمون معظمهم من الإنجليز، هذا فضلا عن قضاء الإنجليز على الصناعات الحربية، فقد ألغوا جميع الترسانات التي أُنشئت في العصور السابقة لصناعة المدافع والبنادق والذخائر، وأصبحت ذخيرة الجيش المصري تُشترى من الإنجليز حصرا، ثم أُودعت جميع الذخائر في قلعتي القاهرة والخرطوم بحراسة ضباط الإنجليز فقط دون المصريين[2]!
كانت الخطوة التالية بعد السيطرة على الجيش والقوى العسكرية الأخرى في مصر أن يسيطر الإنجليز على الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد، ولما كان الضباط والجنرالات غير مؤهلين لهذه المهمة السياسية بالدرجة الأولى فقد عُهد إلى رجل شديد الخبرة السياسية للسيطرة السياسية والاقتصادية على البلاد، وهو اللورد دوفرين سفير إنجلترا السابق في إسطنبول، فجاء إلى القاهرة بعد شهر من الاحتلال العسكري في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1882م.
ذئاب الإنجليز في مصر!
مكث دوفرين في القاهرة بضعة أشهر يتأمل في أوضاعها، وفي فبراير/شباط 1883م رفع إلى اللورد جرانفيل وزير خارجية إنجلترا تقريرا شديد الأهمية والخطورة يكشف السياسة البريطانية في مصر التي سارت عليها حتى الانجلاء، وقد ذكر فيه بأنه لا ينصح بأن تتولى إنجلترا حكم مصر المباشر لأن ذلك سيُثير سخط المصريين وكراهيتهم، ولكن تكون بصورة أقل ومن وراء الستار، وتكلم عن البوليس وأشار إلى جعله تحت سيطرة مفتش عام ومساعد له من الإنجليز يعاونه بعض المفتشين البريطانيين، كما أوضح أن مصر ليست كفئا لأن يكون لها مجلس نيابي وحكومة ديمقراطية، وبالنسبة إلى القضاء نصح بضرورة إدخال العناصر الأوروبية في المحاكم المصرية، وإسناد وظيفة النائب العام إلى شخصية إنجليزية، وفيما يتعلق بأمور الري والزراعة نصح بأن يتولى هذه المسؤولية أحد كبار المهندسين الإنجليز في الهند للتشابه الكبير بين نظامي الري الهندي والمصري.
وفي الأول من مايو/أيار سنة 1883م صدر القانون الأساسي الذي كان دليلا عمليا على الرؤية البريطانية لاحتلال مصر، وكانت أهم ملامحه:
1- تسريح الجيش المصري الذي قام بالثورة العرابية وإعادة تشكيل الجيش تحت الإشراف الإنجليزي.
2- ألا تتولى إنجلترا حكم مصر مباشرة، بل تُبقي السلطة في يد الخديوي ووزرائه تحت إشراف الإنجليز، مما أوجد سلطتين في مصر؛ سلطة شرعية (الخديوي)، سلطة فعلية (الإنجليز).
3- استمرار تبعية مصر للدولة العثمانية منعا لإثارة السلطان العثماني.
4- العمل على صبغ الإدارة المصرية بالصبغة الإنجليزية (ما عُرف بسياسة الجلنزة).
5- إلغاء المراقبة الثنائية مع فرنسا، حتى تنفرد إنجلترا بحكم مصر، وكان ذلك سببا في عداء فرنسا والذى استمر حتى الوفاق الودي 1904.
6- إلغاء مجلس النواب وإقامة مجلس صوري عُرف بمجلس شورى القوانين يتألف من 30 عضوا، وتعين الحكومة فيه 14 عضوا.
قررت الحكومة البريطانية تعيين أحد كبار رجال سياستها في الهند، إيفرين بارنج، مندوبا ساميا لها في مصر، فجاء بارنج من الهند إلى القاهرة مباشرة -بعدما أصبح السير إيفلن بارنج- فوصلها في سبتمبر/أيلول سنة 1883م، وكانت دار المندوب السامي البريطاني المنوط به تنفيذ السياسة البريطانية في مصر متواضعة حينذاك لا يبلغ عدد العاملين فيها إلا 6 أشخاص فقط، فقد كان الظن حينها أن بريطانيا ستنجلي عن مصر سريعا بعدما تستقر الأوضاع للخديو توفيق الموالي لها.
ونظرا للوضع الجديد الذي كسبته بريطانيا بعد الاحتلال، ما لبثت دار المعتمد البريطاني أن أصبحت مركز السلطة في القاهرة، يتردد عليها بانتظام وزراء الحكومة المصرية، وقناصل الدول الأوروبية الأخرى، وممثلو الجاليات الأوروبية في مصر، وغيرهم، كما كانت مقر اجتماعات بارنج مع المستشارين الإنجليز في الوزارات المصرية، وكان هدف بارنج "كرومر" في تلك السنوات الأولى من الاحتلال يتمثّل في تخفيض مصروفات الحكومة المصرية لسداد ديونها.
كانت دار المعتمد البريطاني أيضا بؤرة للتصرفات التي تُعبّر عما يعنيه الوجود البريطاني عند المصريين، فكان بارنج يستخدم عربة تجرها الخيول يحرسها جنود الجيش البريطاني، وذلك عندما يتوجّه إلى قصر عابدين لمقابلة الخديو أو عندما يذهب إلى محطة السكك الحديدية بالقاهرة لاستقبال شخصية مهمة، أو لحضور العروض العسكرية المعتادة للجيش البريطاني، كذلك أصبحت أسرة بارنج ذاتها على رأس الجالية البريطانية في مصر، تنظم حفلات العشاء والرقص للمستشارين وكبار الضباط وعلية القوم من الإنجليز عند مرورهم بالقاهرة، ولم يُدع إلى تلك الحفلات من أهل البلاد سوى الأرستقراطية التركية - الجركسية، وأفراد قلائل من المصريين، مما جعل دار المعتمد البريطاني قلعة للتضامن الأوروبي عامة والبريطاني خاصة، ورمزا للتصاعد الجديد للنفوذ البريطاني[3].
كان اللورد كرومر يحظى بثقة الوزراء الإنجليز، فقد كان مسؤولا عن التنسيق السياسي مع الحكومة المصرية، كما كانت تتم استشارته في أمور السياسة العسكرية بعدما يرجع في ذلك إلى الضابطين البريطانيين الجنرال ستفنسون قائد جيش الاحتلال البريطاني في مصر، والسير إيفلن وود قائد الجيش المصري الذي عيّنه الخديو توفيق على رأس الجيش بعد الاحتلال مباشرة.
كرومر.. الحاكم الأوحد في مصر!
على الجانب السياسي خضعت الحكومة المصرية وعلى رأسها الخديو ومجلس النظّار لسياسة اللورد كرومر وأوامره، وكان خضوعا تاما، وبرز في مسألة السودان وحروب الإنجليز وانصياع المصريين لهذه الحروب والمواجهات التي دارت ضد الحركات الثورية السودانية في غرب السودان ضد الوجود البريطاني ومسألة الانسحاب المصري الذي تم بأمر من الإنجليز، وشيئا فشيئا راحت وعود الإنجليز وكرومر بالجلاء تتبخر.
ونظرا لضعف تأثير المقاومة والمعارضة المصرية لهذا الحكم الإنجليزي في عقديه اللاحقين، فإن كرومر كان يكتب في تقاريره التي يرفعها للإدارة البريطانية في لندن أن عدم تزعزع الاحتلال في مصر راجع إلى أن المصريين أخذوا يُقدّرون الفوائد التي جنوها من الاحتلال، وأنه بناء على ذلك لم تعد القوة أساس السيطرة البريطانية في مصر، ولكن عاطفة ارتباط حقيقية بين المصريين والبريطانيين[4].
عمل اللورد كرومر على تحسين الأحوال المالية لمصر، وهذا الإصلاح كان يُقصد من ورائه دفع أقساط الديون الكارثية التي كان الخديو إسماعيل قد أسقط فيها البلاد، وكانت سببا في المراقبة الثنائية الفرنسية الإنجليزية في أواخر عهده على الحكومة المصرية ومصروفاتها، ثم كانت أحد الأسباب الرئيسة في ازدياد نفوذ الأجانب في البلاد وما تبع ذلك من الثورة العرابية، ثم أخيرا الاحتلال البريطاني القادم بحجة حماية الخديو وحفظ النظام ودفع أقساط الدائنين.
ولكي يحقق اللورد كرومر هذا الغرض عمل على فرض الضرائب على الفلاحين المصريين، وهي الطريقة نفسها التي كان يفرضها الخديو إسماعيل لكي يسد نهم حملة السندات من أصحاب الديون، بل روّج اللورد كرومر أن هذه الضرائب التي تُجبى من فقراء الفلاحين هي مجرد أموال قليلة لا تؤثر على أحوالهم، ورأى الإنجليز أن "الضريبة المفروضة على الفلاح المصري ليست فادحة، بل هي في الواقع دون الضريبة التي يؤديها الفلاح الإنجليزي"[5]!
على أن الحقيقة كانت تبرز في تقارير القنصلية، فقد كتب اللورد نورثبروك المندوب البريطاني في مصر للوقوف على شؤونها المالية يقول إلى حكومته في لندن واصفا حال الفلاحين المصريين تحت إصلاحات "كرومر" بأنهم "قوم يعيشون في أكواخ من الطين، فإذا خرجوا منها خرجوا وهم يكادون يكونون عراة الأجسام، وإذا تبلَّغوا بشيءٍ من الزاد فليس بغير خبز الذرة والبصل؛ ذلك بأن قيمة حاصلاتهم الاسمية لا تكاد تكفي لأداء الضرائب".
كرومر في زي الاستشراقي!
كان اللورد كرومر أكبر من مجرد مندوب سامٍ لبريطانيا في مصر، لكي يَضمن بقاءها تحت رحمة الاحتلال إلى أطول فترة ممكنة، متحكما في ثرواتها وجيشها، وضاغطا على فلاحيها بالسياسة ذاتها التي كان ينتهجها الخديو إسماعيل لأخذ الأموال من مُعدمي مصر وفلاحيها، لقد أراد كرومر فوق ذلك أن تسير مصر فكرا وثقافة وتعليما أيضا في نسق السياسة البريطانية، وفي كتابه المهم "مصر الحديثة" نرى رجلا سياسيا في زيٍّ استشراقي استعلائي، يهاجم الإسلام علانية، ويصفُ الدين الرسمي للمصريين بأن نظامه الاجتماعي قد فشل لأسباب كثيرة في زعمه.
يقول: "أول وأهم هذه الأسباب أن الإسلام يضعُ المرأة في وضعٍ مُتدنٍ. ثانيا، أن الإسلام لم يتحدّث كثيرا عنها من خلال القرآن بقدر ما عرف من خلال التقاليد والتفاسير والأحاديث التي تدور حول القرآن"، كما أخذ كرومر على الشريعة الإسلامية ووصفها بالقسوة البالغة في معاقبة اللصوص المسلحين الذين كانوا ينهبون قرى الفلاحين، ويتهم مفتي مصر بأن أحكامه المستقاة من الشريعة نوع من "العقاب المرعب الذي لا يمكنُ لسبب أو آخر أن يكون مفهوما منذ الوهلة الأولى"، وهو يعني بذلك "وحشية" حد الحرابة كما يرى.
يذهب كرومر إلى أبعد من ذلك حين يصف الإسلامَ بأنه"ينزعُ بشكل عام إلى الحثّ على عدم التسامح، وتوليد الكراهية والاحتقار ليس فقط للمشركين، وإنما لكل الموحّدين الذين لا يقرون الصيغة التي تقول: إن محمدا هو نبي الله ... ومؤسس هذا الدين صبَّ لعنات الله على كل من لا يُسلِّم بأن وحيه يأتي من السماء، وأن كلامه ينزل على أرض مهيأة، نظرا لأن عددا كبيرا من أولئك الذين اعتنقوا الإسلام هم أشباه متوحّشين غير متحضّرين، وهم في أغلب الأحيان من المتوحّشين المحبين للحرب"[6].
تلك هي النظرة الحاقدة على الإسلام التي أعلنها كرومر في مذكراته، وهي التي كتبها في الأصل إلى الأوروبيين من بني جلدته، وقد تعدّت هذه النظرة من الاعتقاد الكامن إلى برنامج عمل استطاع كرومر بكل جهده، وعلى مدار ما يقرب من ربع قرن كان الحاكم الحقيقي فيها لمصر تحت سلطة التاج البريطاني، أن يُغيّر من وجهها الثقافي والمعرفي، ويجعلها تتجه بكليتها صوب المناهج والأفكار والثقافة الإنجليزية، ومن أجل تحقيق هذا الهدف، لعب اللورد كرومر على عدة محاور. السيطرة على الثقافة والتعليم فكان منها صناعة صحافة عميلة للاحتلال البريطاني، تناطح وتواجه الصحافة الوطنية التي كانت لسان الشعب المصري وأحزابه المناوئة للاحتلال ومشروعه وأهدافه الرامية للسيطرة المطلقة على الثقافة والتعليم والمجتمع والسياسة والجيش والاقتصاد، وكانت صحيفة "المقطم" التي أنشأها كلٌّ من فارس نمر ويعقوب صرُّوف وشاهين مكاريوس سنة 1889م هي المدافع الأول والأبرز عن الاحتلال.
حتى إنها كانت تُردد أفكار الحكومة البريطانية حول الجلاء وزمان تحقيقه، عندما يطمئن المحتلون إلى مقدرة مصر على حُكم نفسها، وإدارة عجلة التقدم فيها، فـ "المقطم" ترى أن "منزلة الحكومة البريطانية من أمير البلاد وحكومته منزلة الخِلّ النصوح من خليله؛ فبأي معنى تكون مصر قد فقدت استقلالها، وما الذي خسرته بذلك"[7].
بل ذهبت "المقطم" إلى أبعد من ذلك حين كانت تفتّ في عضد المصريين علانية، وتبثّ فيهم اليأس من مواجهة البريطانيين ومقاومة وجودهم على التراب المصري، تقول في إحدى مقالاتها دون استحياء: "إن المحتلين احتلوا هذا القطر ولا يخرجون منه إلا بإرادتهم أو بقوة تفوق قوتهم، وأن لا نفع للمصريين من معاندتهم ومعارضتهم والاستعانة بالدول الأخرى عليهم؛ لأن المعاندة والمعارضة تضرّان بالمصريين ولا تُخرجان المحتلين من القطر؛ ولأن الدول الأخرى لا تحارب المحتلين لتُخرجهم من برّ مصر، وإن مصلحة المحتلين توافق مصلحة المصريين، ولذلك يقصدُ المحتلّون تنظيم أمور مصر وإصلاح حال المصريين، فلذلك يقضي حسن السياسة علينا بمُسالمتهم ومُحاسنتهم ومعاونتهم على إصلاح أحوالنا وإصلاح بلادنا؛ لأن ذلك كله لخيرنا"[8].
في مقابل هذه الصحيفة العميلة للاحتلال برزت صحيفة "المؤيد" لسان حال الحركة الوطنية المصرية التي أنشأها رجل من كبار رجالات الثورة العُرابية، بل كان مستشارا لأحمد عرابي، وهو عبد الله النديم الذي فتح أذرعه لكافة رجال الحركة الوطنية مثل مصطفى كامل وغيره ليكتبوا مهاجمين سياسة كرومر في مصر، وأهدافه الاستعمارية الخبيثة.
على أن أخطر الخطوات التي قام بها كرومر لتأكيد السيطرة البريطانية على التعليم في مصر كان تعيينه لأحد كبار المنصّرين البريطانيين في مصر وهو دوجلاس دنلوب الذي تولى وزارة المعارف لأكثر من ربع قرن، واستقدم فيها المعلمين الإنجليز وأعطاهم مرتبات كبيرة للغاية مقارنة بالمعلمين المصريين، وحرص على سياسة "الجلنزة" بما يعني فرض التعليم في سنواته الإلزامية والإعدادية باللغة الإنجليزية، وحرص أيضا على تغيير المناهج التعليمية بما يتواءم مع أهداف الاحتلال البريطاني والتغريب والتبشير في مصر، والتشكيك في الحضارة الإسلامية وتاريخ الإسلام.
من جانبه، التزم اللورد كرومر سياسة التقتير على ميزانية التعليم في البلاد، فعلى الرغم أن ميزانية مصر زادت 4 ملايين جنيه في حدود الربع قرن التي حكم فيها كرومر (1883-1907)، فإن ذلك لم يكن له أي صدى في ميزانية التعليم طوال هذه المدة، حيث ظلت النسبة فيها ثابتة تُقدّر 0.09% من الميزانية العامة للدولة[9]، وهي نسبة شديدة الضآلة لمحور أساسي من محاور قيام ونهضة الأمم مثل التعليم. وأدّت هذه السياسة المقصودة إلى تدهور حال التعليم نتيجة التقتير عليه، فقد زادت الأمية بنسبة 0.5% تحت الاحتلال البريطاني، بل عمد كرومر إلى ما هو أبعد من ذلك حيث أغلق الكثير من المدارس الثانوية والخاصّة والعالية، وكثيرا من المدارس الابتدائية مثل مدرسة درب الجماميز ومدرسة الترجمة ومدرسة الهندسة ومدرسة المعلمين، وفي عام 1889م ألغى المدارس الثانوية في كلٍّ من طنطا والمنصورة والزقازيق وأسيوط وبني سويف[10]. وإلى جانب إلغاء المدارس قام الاحتلال بإلغاء مجانية التعليم في المدارس كافة حتى يُصبح التعليم ممنوعا على معظم الشعب المصري الذي لا يستطيع أن يدفع مصروفات التعليم، وبلغ من حرص الاحتلال على إلغاء المجانية أن أزمة وزارية كادت تُودي بالوزير سعد زغلول الذي كان يتولى حقيبة التعليم، نتيجة حالة مجانية واحدة منحها سعد سنة 1907م، ولم تتكرر هذه الحادثة بعدئذ حتى عام 1922م، كذلك قتّر الاحتلال على إرسال البعثات التعليمية إلى الخارج ففي سنة 1888م صدرت الأوامر بألا يُرسل للخارج سنويا سوى تلميذ واحد في العام على نفقة الدولة، وقصر الاحتلال إرسال البعثات على إنجلترا حصرا[11].
وقد قاوم دنلوب نشر التعليم العالي في مصر بكل شراسة، وقد سجّل ذلك كرومر في تقريره سنة 1907 "أن إنجلترا لا تريد نشر التعليم العالي في مصر، وأنها لا تريد إلا إعداد جمهور من طبقة الأفندية ليشغلوا الوظائف الثانوية في الحكومة، وأن المصريين لا يصلحون للعلوم العالية، وأن زيادة التعليم تصرف عن فلاحة الأرض وتعود على مصر بالإفلاس".
نهاية كرومر
وحين رأى الخديو عباس حلمي الثاني مع اعتلائه عرش مصر سنة 1892م هذه السياسة الاستبدادية التي ينتهجها الإنجليز من خلال اللورد كرومر في مصر فقد مال ناحية التيار الوطني، وبدأ حكمه بالاتصال بالشعب وبتوسيع نفوذه عن طريق الرحلات في المديريات ومقابلة الأعيان والعلماء وتكليفه المختصّين كتابة التقارير عن نظم التعليم والجيش ونحو ذلك، فبدأ شيء من الجفاء بينه وبين كرومر، وحدثت بينه وبين كرومر عدّة احتكاكات حين أقال عباس وزارة مصطفى باشا فهمي في يناير/كانون الثاني سنة 1893م وهو الذي كان صديقا مقربا من الإنجليز، وأزمة الحدود في يناير/كانون الثاني 1894م، لكن كان الخديو ضعيفا يعود فيخضع لإملاءات كرومر.
وبسبب هذا الاستبداد والإخضاع لمصر، نشطت الصحافة الوطنية، فاحتضنت جريدة "المؤيد" كتابات مصطفى كامل وخطبه التي أصبحت تعبر عن رغبة الأمة في الجلاء والاستقلال، فكانت "المقطم" لسان الإنجليز تصفه بأنه "الفتى المغرور" و"المأجور المغرور"[12]، وأصبح الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل ذا شعبية هائلة تقض مضجع كرومر وتؤرّقه.
كانت حادثة دنشواي سنة 1906م التي شُنق فيها الفلاحون المصريون بسبب دفاعهم عن أرضهم وعرضهم في مواجهة الإنجليز إيذانا بانطلاق شرارة مواجهة كرومر واستعلائه الذي بلغ حدا من الصلف لم يُبلغ من قبل، وكان هذا الهياج الجماهيري، والمطالبة بجلاء الإنجليز، والحصول على دستور للبلاد، سببا في نقمة كرومر، حيث وصف في تقاريره الأخيرة قبل عزله من منصبه الوطنيين بأنهم مستأجرون وآلات يُحرّكها مهيّجون لا ذمم لهم، ولا يُمثّلون غير أقلية مشاغبة، ورغم ذلك وتحت السخط العام، والنقمة التي بلغت أوجها من كرومر وسياسته الاستبدادية قدّم استقالته أخيرا في صيف عام 1907م[13].
وهكذا، وبعد ربع قرن، استطاع فيها كرومر أن يُخضع مصر عسكريا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا وتعليميا للإرادة البريطانية، ووفق خطة وأهداف وعمل دؤوب، استطاعت الحركة الوطنية المصرية من خلال زعيمها الشاب مصطفى كامل وجريدة "المؤيد" وطبقات من المتعلمين وعموم الشعب المصري أن تُرغم ذلك المندوب السامي المغرور على التنحي، فخرج من البلاد حسيرا لا قيمة له!
المصادر 1-عبد-الرحمن الرافعي: مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال ص20. 2-الرافعي: السابق ص25. 3-روجر أوين: اللورد كرومر الإمبريالي والحاكم الاستعماري ص224. 4-تيودور روزشتين: تاريخ مصر قبل الاحتلال البريطاني وبعده ص506. 5-السابق ص380. 6-كرومر: مصر الحديثة 2/177. 7-المقطم جريدة الاحتلال البريطاني في مصر ص55. 8-جريدة المقطم، عدد 30 سبتمبر/أيلول 1907م. 9-جرجس-سلامة: أثر الاحتلال-البريطاني في التعليم القومي في مصر ص3. 10-جرجس سلامة: السابق ص7. 11-جرجس سلامة: السابق. 12-المقطم جريدة الاحتلال البريطاني ص58. 13-روزشتين: السابق ص509- 511.
يجلس محمد حمدان دقلو(حميدتي) في قصر الاتحادية في القاهرة، مرتديا حلة عسكرية مرصّعة برتبة الفريق، يتجاذب أطراف الحديث مع عبد الفتاح السيسي الذي قفز من رتبة اللواء إلى المشير في غضون عام، مارًا بسرعة على رتبي فريق وفريق أول، فيما كان الزمن غافلًا أو منشغلًا بأمور أخرى.
صورة حميدتي مع السيسي هي الأكثر إهانة لتاريخ العسكرية، إذ لم يمر هذا الملقب "الفريق" ولو لربع ساعة على مدرسة أو كلية عسكرية، فكل خبرته في الحياة كانت الركض وراء الدواب (إبل وحمير) في الفيافي، حتى التقطه الجنرال عمر البشير، إبّان ارتكابه جرائم حرب في دارفور، ليضع السلاح في أيديه، ويطلقه زعيمًا لمليشيا من الرعاة تنفذ له مذابح جماعية وفظائع إبادة وتطهير عرقي، ضد سكان إقليم دارفور.
يظهر حميدتي في بورتريه منشور في"العربي الجديد" بتاريخ 10 مارس/ آذار 2017 على الوجه الآتي: ينحدر قائد قوات الدعم السريع في السودان "الجنجويد"، محمد حمدان دلقو، المشهور باسم حميدتي (41 عاماً)، من قبيلة الرزيقات، وهو عمل في تجارة الإبل والقماش بين دارفور وليبيا ودارفور ومصر حتى اندلاع الحرب في إقليم دارفور عام 2003. لم ينجح في إكمال تعليمه، وأظهر ميوله التجارية منذ الصغر، ودخل في المجال التجاري منذ العام 1991.
ومع اندلاع شرارة الحرب في دارفور، انضم حميدتي للقتال إلى جانب الحكومة السودانية التي استنفرت وقتها القبائل العربية لقتال التمرّد، وعملت على تسليحها، ومثّلت قبيلة الرزيقات أكبر القبائل التي تحالفت مع الحكومة، وشاركت في حرب دارفور إلى جانبها.
جُنّد حميدتي في القوات المسلحة، وأصبح ضمن حرس الحدود، وتمت ترقيته من قِبل الرئيس السوداني عمر البشير إلى رتبة لواء في الجيش، وهي ضمن الرتب المقتصرة على ضباط الجيش ممن دخلوا الكلية العسكرية، كما أن عمره لم يكن يؤهله للوصول لتلك الرتبة، الأمر الذي اعتُبر ميزة تفضيلية واستثنائية للرجل.
انسحب حميدتي مرتين من القتال لصالح الحكومة، واعتصم مع قواته في دارفور، وحاول الانضمام إلى قوات التمرد، بعد خلافاتٍ مع الجيش تتصل بتقنين أوضاع قواته، وأخرى مع الحكومة التي تعاملت مع قوات الردع السريع في وقت من الأوقات بفظاظة بعد انتهاكات ارتكبتها وثار الرأي العام المحلي والدولي عليها".
انتهى الاقتباس ولم تنته رسائل صورة حميدتي الذي استقبله السيسي استقبال الرؤساء في قصر الاتحادية، حيث اتفق الطرفان على تسليم الهاربين من جحيم انقلاب السيسي إلى السودان، قبل أن تتدهور الأوضاع في البلد الشقيق إلى نسخةٍ مكررة من السيناريو المصري، ثورة شعب ينقضّ عليها الجنرالات، ويحولونها انقلابًا منخفض التكاليف، مدعومًا ومموّلًا من محور قتلة الثورات العربية.
لا أعلم ما هو شعور عسكري حقيقي، سابق أو حالي، خاض حروبًا ومارس العسكرية في ميادينها الحقيقية، وهو يطالع صور لقاء شخصين، أحدهما مقطوع الصلة تمامًا، عمليًا ونظريًا، بالعسكرية، والآخر لم يشارك في حربٍ طوال حياته، إلا حربه على المدنيين في ميدان رابعة العدوية وسيناء.
أغلب الظن أن أي شخص يعرف معنى الجيوش ودورها الحقيقي في حماية تراب الأوطان، سيشعر بالأسى على ما آلت إليه العسكرية العربية، إذ تستدعي هذه اللقطة على الفور صورة الفريق عبد الرحمن سوار الذهب، القائد العسكري الحقيقي في السودان، والذي حفظ للعسكرية شرفها، ورفض أن يلوّثها بدماء التآمر على مصير الشعب السوداني، وسعيه هذا الشعب المشروع إلى تحقيق الحكم المدني الديمقراطي.
تقول لنا ذاكرة الأيام إنه بعد انتفاضة الشعب السوداني في أبريل/ نيسان 1985 التي أطاحت حكم جعفر نميري، تولى الجنرال سوار الذهب رئاسة المجلس العسكري الانتقالي، ورقي إلى رتبة المشير، متعهدًا، بعد تسلمه السلطة، بتسليمها خلال عام واحد فقط لحكومة منتخبة، وهو ما تحقق بالفعل، حيث انتقل الحكم إلى المدنيين، وتولى الصادق المهدي رئاسة الحكومة، حتى وقع انقلاب عمر البشير في 1989.
تسخر منا الأيام الآن، حين تضع الصادق المهدي (المدني) على مسافة أقرب إلى جنرال الإبل حميدتي، منها إلى سوار الدهب، وأحلام الثورة ومطالبها، ليرفع الستار عن مشهدٍ أكثر سخرية، وإهانة للعسكرية، والمدنية، معًا.
إعلان الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، قبل أيام قليلة، وقف العمل بالاتفاقات الموقّعة مع "إسرائيل"؛ لا معنى له، إلا أنّ القيادة الفلسطينية تدرك تماما أنّ الخيار الذي انحشر فيه الشعب الفلسطيني بسبب المسار الذي أفضى إلى هذه الاتفاقيات، وعلى أساسها قامت السلطة، هو خيار خاطئ وأنّه لا سبيل لتصحيحه إلا بالخروج منه.
صحيح أنّه سيجري في المقابل تشكيك بجدّية السلطة في الخروج فعلا من هذه الاتفاقيات، وستُستدعى مرات كثيرة أعلن فيها مثل القرار أو هدّد به، كما كان في آخر تشرين أول/ أكتوبر العام الماضي، بيد أنّ هذا التكرار لهذه الإعلانات والتهديدات، تأكيد لما سبق قوله؛ من أنّ قيادة السلطة تعرف المسار الصحيح، وأنّها في حقيقة أمرها ليست في حاجة لأن نذكّرها صباح مساء بكارثية المسار الذي سلكته وخنقتنا في مآلاته.
إنّ المشكلة ليست في الأفكار، ولا في استخلاص النتائج، ولا في الإحساس بعبثية المراوحة داخل هذا المسار المغلق والكئيب والمظلم، وإنما في امتلاك الإرادة الكافية للخروج منه، بعدما صار (أي هذا المسار)، السياق الذي ينتظم الفلسطينيين، ينتظمهم ليمزّقهم، ويصفّي قضيتهم، ويصادر حقوقهم، وصارت نتائجه، ولا سيما كيانية السلطة، هدفا في ذاته، ليس فقط للعدوّ الذي يريد منها أن تكون رافعة لتبييض صفحته، وتجميل عدوانه، وتوفير موارده الاقتصادية واللوجستية على النحو الذي يجعله أرخص احتلال في العالم، على حدّ تعبير الرئيس عبّاس، وإنما وبالإضافة إلى ذلك؛ للنخبة القائمة على هذه الكيانية، بعدما حُوّلت القضية الفلسطينية من كفاح شعب إلى إدارة نخبوية، في نتيجة حتمية لهذا المسار واتفاقياته والتزام السلطة بها؛ إذ إنّ من أهمّ أهداف الاحتلال من دخوله هذا المسار، هو احتواء الشعب الفلسطيني وتحييده، وصرفه عن واجبه التاريخي في مواجهة عدوّه المحتلّ.
سؤال واقعي عن إمكانية وقف العمل بالاتفاقات أصلا مهما كانت تلك الإرادة. هذا السؤال طبيعي وصحيح ولا بدّ منه، فارتباط المجتمع الفلسطيني بالسلطة وبالاتفاقيات التي تنظّم عملها؛ عميق وبالغ التعقيد والتشعب
يحيل الحديث عن افتقاد الإرادة؛ إلى سؤال واقعي عن إمكانية وقف العمل بالاتفاقات أصلا مهما كانت تلك الإرادة. هذا السؤال طبيعي وصحيح ولا بدّ منه، فارتباط المجتمع الفلسطيني بالسلطة وبالاتفاقيات التي تنظّم عملها؛ عميق وبالغ التعقيد والتشعب، وهو من هذه الجهة يتطلب تخطيطا، ومن جهة أخرى فإنّ وقف الاتفاقيات، ولا سيما إن قُصد به الشمول والإطلاق، يستدعي مواجهة مع الاحتلال، وكلّ ذلك ليس سهلا، ويحتاج إلى تخطيط وعوامل صمود يستند إليها الفلسطينيون في القيام بذلك التحدّي ودفع أثمانه.
إنّ أوّل ما يواجهنا في الإجابة على هذا السؤال، أنّ قيادة السلطة لم تحدّد بالضبط الاتفاقيات التي ستوقف العمل بها؛ هل هو وقف شامل، أم لبعض الاتفاقيات والبرتوكولات؟ ثمّ لم تحدد طبيعة هذا الوقف، هل هو وقف دائم؟ أي خروج نهائي من المسار، أم تجميد؟ وهل سيشمل حلّ السلطة نفسها باعتبارها أهمّ نتائج تلك الاتفاقيات؟! وبما أنّ نتائج وقف العمل بها، سواء كان تجميدا أم خروجا نهائيّا، سينعكس بعمق على الفلسطينيين كلّهم، فهل استعدت السلطة للبدائل وسبل الإدارة بعد الدخول في تلك المرحلة الجديدة؟
تشكيل لجنة لتنفيذ قرار وقف العمل بالاتفاقيات لا ينبغي أن يثير السخرية؛ باعتبار أنّ اللجان عادة تُشكّل لقتل القرارات وإفراغها من مضمونها. فتنفيذ قرار من هذا النوع، يحتاج تخطيطا لتنفيذه ثم لإدارة المرحلة التي تتلوه، لكن المشكلة في الإعلان عن لجنة لتنفيذه مركّبة من وجهين؛ الأول أنّ مثل هذه اللجنة شُكّلت من قبل أكثر من مرّة لتنفيذ القرار نفسه، وإعادة الحديث عنها من جديد يعني أنّها لم تخطّط لأي شيء من قبل، وهو ما يبعث الشكّ من جديد حول جدّة القرار، إذ يفترض أن السلطة امتلكت تصوّرا جيدا، وبدأت على أساسه في تهيئة الشعب للدخول في المرحلة الجديدة.
كان يُفترض تغيير منظومة السياسات التي أرادت تحييد الجماهير عن دورها في مواجهة الاحتلال، وهي منظومة متكاملة سياسيّا واقتصاديّا وثقافيّا وأمنيّا
الوجه الثاني للمشكلة يتمثل في كون لجنة من طرف واحد، هو الطرف الذي يقود السلطة وتعني له كلّ شيء، لا تكفي للتخطيط لتنفيذ قرار من هذا النوع، ولإدارة ما يتلوه. فالمسألة باتت فلسطينية شاملة، تمسّ كلّ فلسطيني، وسوف يدفع ثمنها كلّ فلسطيني. هذا الجانب الأخلاقي في الأمر، وأمّا سياسيّا وعمليّا، فقرار يفضي إلى مواجهة لا بدّ وأن يستند إلى وحدة وطنية حقيقية، لا سيما في وقت تبدو فيه المؤامرة على الفلسطينيين مكشوفة بلا أيّ غطاء.
هذه المراجعة لتاريخية هذه القرارات، وشكل الإعلان عنها، لا تستنتج الكثير من الجدّية في الوقوف خلفها، لكن التفكير فيها والإعلان عنها له دلالة واضحة، وهي إطباق الجميع على كارثية المسار واختناقنا فيه حتّى اللحظة. وبما أنّ حركة فتح هي التي تتمتع بحرية التنظيم والحركة في الضفّة، ويفترض أنّها المعني الأول بمشروع السلطة، فالميدان متاح أمامها لتنظيم حركة احتجاجية بالتدريج تهيئة للجماهير، والسعي لتشكيل قاعدة للوحدة الوطنية داخل ميدان النضال.
في الطريق لإنفاذ قرار من هذا النوع، ولتهيئة الشعب والجماهير لذلك، كان يُفترض تغيير منظومة السياسات التي أرادت تحييد الجماهير عن دورها في مواجهة الاحتلال، وهي منظومة متكاملة سياسيّا واقتصاديّا وثقافيّا وأمنيّا، إلا أنّه ومنذ بدأ التلويح بقرارات من هذا النوع منذ بضع سنوات، لم يجر شيء من ذلك التحوّل، كما أنّ العلاقات الوطنية ظلّت في تراجع بدلا من استعادة الوحدة الوطنية. وعلى المستوى النضالي الميداني، هيأت الجماهير فرصة للدخول في حالة كفاحيّة تتوسع بالتدريج، بيد أنّ سلسلة الهبّات التي أطلقتها الجماهير كُبحت بدلا من استثمارها وتطوريها وتعظيمها.
ليس لدى الجيش المصري محاورون يمكن التفاوض معهم لتحقيق مشاركة أوسع في صوغ القرارات الوطنية.
أظهرت ردود الفعل الرسمية المصرية على الحروب الأهلية وعمليات الانتقال السياسي في بعض الدول العربية منذ أوائل 2019، وجود ميل غريزي لدى المسؤولين فيها لمساعدة رجل عسكري قوي في الاستيلاء على السلطة في ليبيا وللحفاظ على دور القوات المسلحة في وضع ترتيبات الحوكمة في كلٍ من السودان والجزائر.
بيد أن أي مقاربة مصرية أكثر حذاقة قد تصل إلى استنتاجات مغايرة في ما يتعلق بمستقبل دور القوات المسلحة المصرية في حلبتي السياسة والحكم. إذ ثمة حاجة إلى مشاركة أوسع في آليات صنع القرار الوطني، سواء في إدارة شؤون الاقتصاد والمالية العامة ودعم الأسواق، أم في قطاع التنمية الاجتماعية. يتطلّب ذلك شيئاً محدّداً: الانتقال السياسي. ولكن، لن يحدث هذا في المستقبل القريب، وبطريقة سلمية، سوى إذا ما باشرته القوات المسلحة بنفسها.
يصدر خطاب مُتفائل عن القاهرة والعواصم الغربية والمؤسسات المالية الدولية حول الآفاق والفرص في مصر، ولكنه يُخفي حقائق اجتماعية واقتصادية مُقلقة للغاية. ففي نيسان/أبريل 2019، جاء في تقديرات البنك الدولي أن 60 في المئة من المصريين "فقراء أو مُعرّضون إلى الفقر"، الأمر الذي يعكس جزئياً الانحدار الحاد للأمن المالي للطبقة الوسطى.
بالطبع، فإن تحسّن مؤشرات الاقتصاد الكلي، مثل وتائر نمو الناتج المحلي الإجمالي واحتياطات العملة الصعبة، مثير للاطمئنان. بيد أن هذه المؤشرات تُغفل في الوقت نفسه الحقيقة بأن إدارة الرئيس عبد الفتاح السيسي أثبتت أنها ليست أكثر قدرةً من الإدارات السابقة، منذ أن أسست القوات المسلحة الجمهورية العام 1952، على حل مشاكل تدنّي الإنتاجية والاستثمار المحلي وتفاقم أنماط النشاط الاقتصادي الطفيلية التي منعت البلاد من الوقوف على قدميها اقتصاديا. العكس هو الصحيح، حيث ولّدت خيلاء المشاريع الكبرى التي شدّد عليها السيسي رساميل عاقرة وفرصاً ضائعة، فيما كانت الديون الخارجية تحلّق إلى أعلى مستوياتها.
لم تصل مصر بعد إلى مستوى الأزمة، لكنها تُواجه، بفعل طفرة زيادة السكان التي تبلغ مليوني نسمة سنوياً ووجود دلائل على اختلال سوق العمل وتدهور نوعية العمالة، تحديات اجتماعية واقتصادية جمّة توازي على الأقل في درجة إثباطها تلك التي أفرزت الحركات الشعبية التي أجبرت الرؤساء المُستبدين المدعومين من الجيش على التخلي عن السلطة في الجزائر والسودان.
علاوة على ذلك، بلغ تداعي الجهاز البيروقراطي المدني للدولة مبلغاً حدا بالقوات المسلحة، بناء على تعليمات السيسي، إلى إدارة نحو ربع الأشغال العامة التي تمّولها الحكومة منذ العام 2014. كما تدخلت هذه القوات في قطاعات اقتصادية متنوّعة كإنتاج الصلب والإسمنت والتنقيب عن الذهب، بهدف مُعلن هو تحقيق استقرار الأسعار في الأسواق وزيادة عائدات الدولة.
لكن، وعلى رغم تباهي القوات المسلحة بتفوّقها في مجالي الإدارة والمهارات الهندسية، إلا أنها كانت عاجزة عن تعبئة موارد محلية كافية لزيادة الاستهلاك العام وزيادة الصادرات. وربما يتم الإدراك قريباً أن القوات المسلحة لا تستطيع أن تعالج طويلاً القصور في الدوائر المدنية للدولة في توفير الإدارة الاقتصادية والخدمات العامة الأخرى.أو، على أقل تقدير، قد يستنتج كبار الضباط في السلك العسكري الذين ليست لديهم مصالح مُتجذرة في النشاطات الاقتصادية والتجارية للجيش، بأنه يمكن خدمة المصالح الاحترافية للقوات المسلحة على نحو أفضل، من خلال وقف الدور الراهن الذي تقوم به. وبالتالي، ربما يسعى هؤلاء "المؤسساتيين العسكريين" إلى مخرج من هذا الوضع.
هذا قد يُعد المسرح أمام القوات المسلحة للمبادرة إلى تدشين عملية انتقال سلمية. والحال أن مثل هذا التطوّر سيشكّل خبراً طيباً، لكن تنتصب في وجهه عقبة خطيرة.
تجدر العودة هنا إلى أطلق الجيش البرازيلي، لأسبابه الخاصة، مبادرة الانفتاح في العام 1974، التي أعادت السلطة إلى المدنيين بعد نحو عقد من الحكم العسكري، وكذا فعل زميله التشيلي حين وافق على الهزيمة الانتخابية للدكتاتور أوغستو بيونشيه في العام 1988، تفاوض الجيشان مع كلٍ من أحزاب المعارضة السياسية وحلفائهما من رجال الأعمال حول صيغ عملية الانتقال.بيد أن إدارة السيسي في مصر قد استأصلت أو همّشت كل المتحاورين المُحتملين، فسحقت ولاحقت الإسلاميين، والليبراليين، والديمقراطيين الاشتراكيين، والشبان النشطاء اليساريين. أما قطاع الأعمال فهو يعتبر صديقاً للنظام لكن يعوزه الاتساق كطبقة حليفة، حيث أن أربابه الرئيسين هم إما على علاقة تبعية طفيلية مع الدولة للحصول على العقود، أو أنهم متضايقون من تجاوزات الجيش.
صحيحٌ أن الأنظمة، بما في ذلك حتى السلطوية منها، تحتاج للارتكاز السياسي إلى التحالفات الاجتماعية، لكن لايزال الأعضاء الرئيسين في الائتلاف الحاكم المصري حتى اللحظة منخرطين للغاية في بوتقة المصالح الخاصة ومنغمسين في جهود تدعيم حصتهم من كعكة السلطة والأموال العامة، الأمر الذي يمنعهم من استشراف المخاطر أو التفكير في تغيير سلوكياتهم. لكن، فيما تبدو وزارة الداخلية الأكثر تصلّباً وارتكاساً، ربما بدأت القوات المسلحة تتلمّس الحاجة إلى الاستعداد للقيام بانسحاب منظّم من الدور السياسي المُسرف.
صحيح أن الدستور المعدّل الذي أُقّر في نيسان/أبريل 2019، والذي أطلق يد القوات المسلحة "لحماية الدستور والديمقراطية" و"الحفاظ على ركائز الدولة المدنية"، شرعن بوضوح أي تدخلات مستقبلية للجيش وفق أنموذج انقلاب تموز/يوليو 2013، إلا أن الصحيح أيضاً، على المنوال نفسه، أنه ربما كان هذا التعديل مصمّماً كذلك لتمكين القوات المسلحة من انتشال نفسها من لُجج الصراعات السياسية المعقّدة ومن حلبة التنافسات المؤسسية الخاصة بحكم مصر، لكن من دون التخلي عن السلطة كلياً أو إدارة الظهر للنظام الذي تخدمه، أو إلزام نفسها بخدمة السيسي أو أي رئيس مستقبلي على نحو تام وقطعي.
مثل هذا الدور السياسي المُتبقي هو ما سعت إليه القوات المسلحة التشيلية في الدستور المعدّل الذي صاغته العام 1980، وهو ما حصل عليه الجيش التركي قبل إعادته السلطة الفعلية إلى المدنيين بعدها بثلاث سنوات.
قد يكون من المغالاة بالتفاؤل ترقّب ولادة مماثلة في مصر. غير أنه، حتى لو أدركت القوات المسلحة المصرية تماماً الحاجة إلى تحقيق هذه الخطوة ودفع الرئيس والشركاء الآخرين في الائتلاف المؤسّسي الحاكم إلى التفاوض على عملية انتقالية، ربما يكون الأوان قد فات ليكون الانتقال سلمياً ومنظّماً في آن.
نحن اليوم، في أكثر مراحل تاريخ العالم الحديث حرجاً وجدلاً، لفهم رحلة العبور الفلسفي الجديد، وتقييم أفكار المجتمعات وإنتاجها الثقافي، وكيف تُقيّم الأفكار التي تحولت إلى منتج عالمي، شمل الحيوان والشجر، والانتفاضة الفكرية ضد الإنتاجية الحديثة للعالم، تشكّلت في أكثر من ظاهرة، منها حركات الخضر والبيئة وغيرها. غير أنه، وإلى اليوم، لم يصل العالم إلى دعوة عالمية تُعيد تفكيك هذه المنتجات، وتأثيراتها على الإنسان، سلامته.. وقيمه.. وحريته الفطرية، ليس لعدم وجود مقاومات فكرية متعدّدة، بعضها من عالم الجنوب، وبعضها من عالم الشمال ذاته، لكنها إلى اليوم عاجزةٌ كلياً عن تشكيل محاضن إنقاذ للمستقبل البشري الجديد.
تستمر ورطة العالم الحديث الذي رُبط قراره الدولي السياسي بمنظومة انتصار عسكري، في الحرب العالمية الثانية، ومفهوم تقسيم العالم إلى شمالٍ متفوّق وجنوب مُستَثمر تحكمه قوة الشمال، وهي قوة لا تقوم على نهضة الإنسان وكرامته، وإنما على حجم ما تملكه هذه القوة، في تقدمها الاقتصادي أو تصنيعها العسكري من التقليدي إلى النووي، فتدخل شريكاً مشاكساً أو عضواً جديداً كالعهد الصيني الزاحف. وتتزامن لعبة الأمم الجديدة مع صعود يميني متطرّف في عدة أديان وجماعات بشرية، وكم هو مؤسفٌ أن يكون الوجود الإسلامي هو المتفق عليه خصماً مزعوماً لإنسانية هذه الجماعات الدينية والقومية، فتتم تصفية الحسابات الانتخابية والمصالح المادية، على حساب حريتهم
ودمائهم، ويحاسبون جماعياً على أعمال متطرّفين إسلاميين، من الغرب إلى آسيا، ويُسقط ضحاياهم من إحصاء البشر. وعلى الرغم من ذلك، نؤكد رؤيتنا، منذ اختطاط رحلة المعرفة، بأن الأصل الأول في مقاومة الظلم العالمي هو نهضة الشرق وحريته. وما يجري اليوم من استخدام نظم الاستبداد في الشرق، لقهر أفكار الحرية، وقمع فكر النهضة، والتلاعب بمشاعر الناس، باسم الدفاع عن الإسلام المختطف، وأن الإسلام الحقيقي، بزعم مذهب المستبدين الجدد، هو الحالة الرخوة التي تخضع لشروط الغرب السياسي، وعلى المسلمين المضطهدين أن يقدّموها، فحتى زعم المستبد إنه يحمي جوهر الدين لعامّة المسلمين أسقطه اليوم، وكلما تكرس الاستبداد في كل دولة من عالم الشرق، ضعفت وانهارت قيم المسلمين، في ظل قصور خطاب المعرفة، وحصار منابره، ونشر خطاب البروباغندا الموسمي الذي يثبت آلية العصف الذهني المضطرب، في نفوس الجماهير، ويزيد من بلبلة الشباب باسم حماية الإسلام، وهو في الحقيقة يُلقي بهم إلى دركات التخلف والاضطراب الذي يمكّن الجناة منهم. ومع الحملة الاجتماعية الشرسة لإسقاط حق الفطرة الأولى، علاقة الحب بين الرجل والمرأة، الميلان الطبيعي الذاتي، والذي من خلاله تسقى الغريزة التي يستشعرها الإنسان منذ بلوغه، كما يستشعر الطعام والشراب، تحتشد الحملة العالمية الجديدة، والتي ترعاها المشارطة الغربية على مجتمعات المسلمين، في المهجر وفي الشرق الكبير. العالم الغربي الحديث اليوم يتقدّم إلى فرض المثلية القسرية، ومطاردة الأسرة، وبعث الشكوك الأولى والاضطراب في حياة الطفولة عبر مناهج التعليم، وعبر إنتاج السينما والدراما، وعبر كل منتج اجتماعي، وكل توقيع حياتي معاصر وكل لوحة طريق، يطوف به أطفال العالم ويتلقاه شبابهم. وهذا القهر للمجتمع الإنساني المؤمن بحرية فطرته، وتكامل القيم مع تنظيم الغريزة الطبيعي غير المتكلف، بغض النظر عن دين هذا الإنسان أو مذهبه الوجودي، لا علاقة له بالحريات الشخصية، ولا حماية الأفراد ذوي النزعات المخالفة للفطرة، بسبب ضغط هذه البيئة، أو بسبب خلل يعشيه الإنسان لظرف في حياته، سواءً كان حالة مَرَضية أو ممارسة قاسية اجتماعية ضده كضحية، فهذا لا يحول الغريب المستنكر إلى فطري، في كل الحياة
البشرية ليس غبر الثقافة ولا التلقين، بل عبر الاستشعار البيولوجي المجرّد الذي يعيشه إنسان العالم منذ العهود القديمة حتى عهد الصناعة، وما يسمّى العالم المتمدن، ميل الفتاة إلى الفتى، ثم حكاية الحب أو التجاذب، ثم إنشاء الأسرة الذي بموجبه جئنا لهذا العالم، ولا يوجد اليوم أي نظرية تصمد، تطرح أن المثلية ستنتج طفولة مستقلة بين المثليين، تعتمد على ذات الجنس، فلماذا يضطهد الناس تحت هذا المفهوم ولماذا يُحاصرون؟ حق السلامة والدفاع القانوني، ورأي الإنسان في نزوة سلوكه شيء، وتعميم القهر الثقافي المثلي على الإنسانية شيء آخر، لا يوجد مطلقا معادلة علمية خضعت لمقياس دراسة عادلة تقول بمصداقية النظرية المثلية، بل يوجد العكس، والنظرية لا تسقط الحقيقة العلمية، في علم الاجتماع والصحة واتجاهات الحياة البشرية. وأين حق المرأة؟ أين حق المرأة في ركن أساسي من خلقها، من حياتها الفطرية، في شراكتها مع الرجل الذي تهواه، ويؤسّس بنيانهم بشروط شراكتهم وتعاونهم، بغض النظر عن كل ثقافة أو دين، لماذا يحوّل الرجال والنساء إلى كائنات عضوية، ويُدفعون إلى ممارسة الغريزة منفصلين، عن تكامل الذكورة مع رحلة الأنوثة، والحب بين الجنسين، ثم تأرجح أولئك الأطفال
الذين هم زهرة الدنيا لكل العالم. ماذا عن الظلم، ماذا عن العنف الإجرامي في حياة الأسر، ظلم المرأة في البيت أو العاملة أو الناشطة الحقوقية أو السياسية، في كل ركن من الظلم الاجتماعي؟ هذا لا علاقة له بحرّية الفطرة، وسويّة الأسرة، هذه الأمراض والمظالم تعالج بالتثقيف وبالقانون وبالعقوبة الرادعة، وليس بقتل حق الأسرة وهدم مذهب الحب بين الجنسين. ما يجري في بقاع العالم، من عنف وتجاوز داخل إطار الأسرة، حالات بغيٍ مَرَضيّة لا تُعالج بنشر وباءٍ آخر، ولا تُهدم المودة بين أركان الأسرة، بل بتصحيحها والربط بين الموقف الأخلاقي للإنسان الراشد والروح التي تسري في فطرته، لحب أعضاء هذه الأسرة، أخوة وأخوات، حبا عاطفيا تضامنيا، وتبقى مساحة الحب الرومانسي ومحضنه الجنسي الفطري للمرأة والرجل. هذه رسالة الفلسفة الإسلامية، فهل باتت قلعة الدفاع الأخير عن الأسرة البشرية.