الخميس، 1 أغسطس 2019

نضالنا القادم ضد العلم والتقنية.. قراءة في معركتنا التي لا مفر من خوضها

نضالنا القادم ضد العلم والتقنية.. 
قراءة في معركتنا التي لا مفر من خوضها
أنس حسن

قد يكون عنوان هذا المقال صادما، لكنها الحقيقة الأقرب للتحقق، فبعد قرون من الترويج للحرية باسم العلم يبدو أن العلم والتقنية يتحولان شيئا فشيئا لأكبر كوابيس الحرية على الإطلاق، بعد أن كان يروج للعلم والتقانة بأنهما قاطرة البشرية للخروج من الظلمات إلى النور ومن الاستبداد إلى الحرية، لكن يبدو أن العلم ومساراته الحديثة تحديدا قررت أخذ مسار عكسي..

في عصرنا الحالي تتضافر العلوم الطبيعية والاجتماعية فيما بينهما لخلق عالم سلطوي أكثر استبدادا وأقسى على دعاة الحرية وكل من ليس في موقع السلطة، حيث أن الهامش المفضل لحركات المعارضة والذي كان يمنحه غياب السلطة وأدواتها في المجال العام نظرا لعجزها عن ملأه أصبح الآن يضيق شيئا فشيئا بفضل التقنية والعلوم لا أي شيء آخر، وبعد أن كانت منصات التواصل الاجتماعي هي مساحة تلاقح الأفكار التي تقع خارج مظلة السلطة ورقابتها ومخبريها التقليديين، أضحت الآن أحد أهم الأدوات التي تمكن السلطة من الوصول بسهولة وسلاسة للمعارضين دون الحاجة لشهور من الرقابة والتقارير المكتوبة يدويا.
   
تقنيات الربيع العربي وصحوة السلطة:
لابد أنك تعرضت يوما ما منذ الربيع العربي وحتى يومنا هذا إلى مقولات التبشير بعصر الحريات الذي يعد به التطور التقني والعلمي في مجالات التواصل الاجتماعي والانترنت والتطبيقات، حيث أن التفاؤل الذي ساد كان واثقا بشكل قاطع بأن هذه التقنية تعد بالحرية، بل إن الرئيس الأميركي أوباما كان أحد أكبر المتفائلين بهذا الأمر وهو ما دفعه لتبني موقف إيجابي من الربيع العربي في بدايته، ومحاولة تسويقه كنجاح للنموذج الأميركي الحر في عالم التقنية، والربط بين "وائل غنيم" الناشط المصري وعمله في جوجل كامتداد للتأثير الأميركي للربيع العربي.
     

نضالنا القادم ضد العلم والتقنية.. قراءة في معركتنا التي لا مفر من خوضها

25/11/2018
قد يكون عنوان هذا المقال صادما، لكنها الحقيقة الأقرب للتحقق، فبعد قرون من الترويج للحرية باسم العلم يبدو أن العلم والتقنية يتحولان شيئا فشيئا لأكبر كوابيس الحرية على الإطلاق، بعد أن كان يروج للعلم والتقانة بأنهما قاطرة البشرية للخروج من الظلمات إلى النور ومن الاستبداد إلى الحرية، لكن يبدو أن العلم ومساراته الحديثة تحديدا قررت أخذ مسار عكسي..

في عصرنا الحالي تتضافر العلوم الطبيعية والاجتماعية فيما بينهما لخلق عالم سلطوي أكثر استبدادا وأقسى على دعاة الحرية وكل من ليس في موقع السلطة، حيث أن الهامش المفضل لحركات المعارضة والذي كان يمنحه غياب السلطة وأدواتها في المجال العام نظرا لعجزها عن ملأه أصبح الآن يضيق شيئا فشيئا بفضل التقنية والعلوم لا أي شيء آخر، وبعد أن كانت منصات التواصل الاجتماعي هي مساحة تلاقح الأفكار التي تقع خارج مظلة السلطة ورقابتها ومخبريها التقليديين، أضحت الآن أحد أهم الأدوات التي تمكن السلطة من الوصول بسهولة وسلاسة للمعارضين دون الحاجة لشهور من الرقابة والتقارير المكتوبة يدويا.
   
تقنيات الربيع العربي وصحوة السلطة:
لابد أنك تعرضت يوما ما منذ الربيع العربي وحتى يومنا هذا إلى مقولات التبشير بعصر الحريات الذي يعد به التطور التقني والعلمي في مجالات التواصل الاجتماعي والانترنت والتطبيقات، حيث أن التفاؤل الذي ساد كان واثقا بشكل قاطع بأن هذه التقنية تعد بالحرية، بل إن الرئيس الأميركي أوباما كان أحد أكبر المتفائلين بهذا الأمر وهو ما دفعه لتبني موقف إيجابي من الربيع العربي في بدايته، ومحاولة تسويقه كنجاح للنموذج الأميركي الحر في عالم التقنية، والربط بين "وائل غنيم" الناشط المصري وعمله في جوجل كامتداد للتأثير الأميركي للربيع العربي.

 هذا التفاؤل كان على موعد مع كابوس عدمي يقترب من التحقق حين تحول ثورات الربيع العربي إلى انتكاسة كبرى وتم توظيف التقنية ومنصات التواصل بشكل احترافي ومذهل في آن واحد من قبل السلطات الانقلابية التي درست على مدى أعوام الثورة هذه المنصات بشكل متقن وعملت على تشكيل استجابة مدروسة ضد الربيع العربي وأفكاره عبر أدوات "علمية وتقنية" دمجت بين هندسة نفسية لعبت على دوافع الخوف واختلال الأمن لدى الجماهير وبين التقنية التي قدمت تحليلات مفصلة عن اتجاهات الجمهور وكيفية التأثير فيه عبر "برمجيات" بحسابات افتراضية سميت لاحقا "الذباب الالكتروني" أو "اللجان الالكترونية" والتي كانت معطى تقنيا وعلميا بامتياز. 
 
وليست الدراسات النفسية للجمهور والأفراد معطيات علمية حديثة في خدمة الاستبداد، بل قامت بين الحربين العالميتين وبعدهما آلاف التجارب التي كانت تسهم بشكل رئيسي في عمليات غسيل الدماغ وتجارب "الصحفة البيضاء" النفسية والتي شكلت نواة لاحقة لما عرف لدى الليبرالية الجديدة بـ "عقيدة الصدمة"، حيث أنتجت التجارب النفسية التي مارست الصعق الممنهج على أفراد بعينهم إلى تحديث نظرية سلطوية ليبرالية قائمة على فرض تحولات اقتصادية عميقة عبر استغلال أو افتعال "صدمات" كبرى للشعوب يتم عبرها تمرير تحولات هيكلية كاملة ما كانت لتتم لولا وجود هذه الصدمة، وتم تجريب هذه الآليات الغرب قبل الشرق.

استخدمت تجارب "الصدمة" و "الصفحة البيضاء" في الإقرار القسري للسياسات الاقتصادية في بريطانيا "تاتشر" عبر هندسة مجموعة من الأزمات وافتعال حرب الفوكلاند لقمع الاحتجاجات العمالية والإضراب، ونجحت من خلالها تاتشر في ترويض الحركة العمالية في بريطانيا للأبد، كما عززت هذه التجارب حكم الجنرال الانقلابي "بيونشيه" في تشيلي، وكذلك تم فرض أنماط اقتصادية جديدة في الولايات المتحدة عبر استغلال كوارث الأعاصير مثل "كاترينا" وتغيير خرائط ديموغرافية.
  
العلوم الاجتماعية وتطوير الاستبداد:
أسهم التطور العلمي والدراسات النفسية والاجتماعية في تطوير أداء السلطة بشكل مذهل، عبر ترويض "القطيع" الشعبي، وتوظيف استراتيجيات الإلهاء والتضليل بشكل منظم ومدروس ومجرب ومثبت علميا، حتى أضحت السلطة تتضاعف سطوتها بشكل كبير منذ السبعينات وحتى وقتنا الحاضر
 
فلم تعد الاختبارات الجينية والأبحاث النفسية، وثورة المعلومات تخدم اطلاقا ما كان يعد فجرا من الحريات يصعب حجبه.. بل إن كابوس الذكاء الاصطناعي والتجارب المعملية يقوضان فعليا قدرة الناس على خلق مجالهم الخاص خارج إطار التنظيم السلطوي، فكل هذه المعلومات المستقاة من حقول الأبحاث تسهم في تعزيز القوة الأمنية والعسكرية والمعلوماتية للسلطة وليس العكس.     
  
وإذا انتقلنا إلى مزيد من حقول العلم سنجد أن حقل "الانثروبولوجيا" أو علم "الإناسة" والذي كان منوطا به دراسة الإنسان وأنماط حياته والكشف عن القوانين التي تحكم سلوكه بشكل مباشر كان أحد أدوات الاستعمار القديم في حكم الشعوب واستعبادها، وقدم تصورا عنصريا جدا في رؤيته للبشر وتصنيفهم تصنيفا عرقيا أدى في النهاية لظهور اسطورة التفوق لعرقي مما أسهم في ظهور النازية والفاشية والإبادة الجماعية والتطهير العرقي بشكل واسع.

كما أسهم علم "أنثروبولوجيا الإجرام" في التأسيس لقواعد وأدوات الضبط السلطوي من حيث مراقبة الناس وحصرهم في قواعد وتصنيفهم إجراميا، ما ساهم بشكل كبير في ظهور دولة الشرطة كما يسميها ميشيل فوكو والدولة الأمنية، وأنظمة الرقابة التي لم تقوض الجريمة بشكل كبير بقدر ما استخدمت بشكل أكبر في تقويض التحركات المعارضة للسلطة والأمن السياسي والعمليات الاستخبارية.

لا يقف الأمر عند حدود الانثروبولوجيا بل أغلب حقول "علم الاجتماع" أضحت تخدم بشكل أكبر أجندات السلطة بجوار رفيقاتها من العلوم الطبيعية وعلوم الفضاء، حيث أن دراسات الجمهور والرأي العام والإعلام أصبحت موجهة بشكل أكبر لخدمة سلطة الدولة وسلطة السوق، وأصبحت تخلق بشكل أضعف وأقل سلطة الجمهور، بالرغم من ما يبدو على التفاعلات الإعلامية الحديثة من تحرر هش من الانضباط السلطوي، وتبشير أكبر بعالم الجمهور، لكن تقنيات الضبط والسيطرة أصبحت أكثر ذكاء وأقوى في فرض تحكم السلطة بشكل تفاعلاتنا.
 
الذكاء الاصطناعي وذروة الكابوس:
ليس بعيدا عن العلوم الاجتماعية يقف الذكاء الاصطناعي كشبح يستعد لأن يمنح السلطة والسوق معا تذكرة القضاء النهائي على كل منجزات الحرية البشرية عبر الولوج غير المحدود لحياتنا اليومية عبر التقنيات الحديثة والتحكم بشكل كامل بما يمكن لنا أن نراه ومالا يجب أن نراه، فضلا عن قدراته غير المحدودة في تحليل أفعالنا وسلوكنا اليومي بدقة شديدة عبر تتبع مساراتنا اليومية وتفاعلاتنا وضحكاتنا ومشترياتنا وقراءاتنا و علاقاتنا، وأخطائنا.

ومن ثم يقوم الذكاء الاصطناعي بتحليل كل ذلك والتطوع بتقديم تفضيلات لنا تتحكم فيها خوارزميات يشرف عليها أصحاب السلطة إما في الشركات الكبرى أو في أجهزة الاستخبارات على السواء، ما يعني وعلى وجه الدقة التحكم التام بالمنافذ الافتراضية لحياتنا بشكل مطلق، بينما تتكفل السلطة المادية لدولة الشرطة بالتحكم المطلق بالمنافذ الواقعية لحياتنا كذلك، ما يطرح غمامة سوداء في عقل كل باحث عن الحريات الطبيعية والأساسية.

ونموذجا "فيسبوك" و "أمازون" مثالان واقعيان بشكل مريب على قدرة الذكاء الاصطناعي و "الاحتكار" و "تضخم الشركات" على فرض نموذج عالمي للتواصل وللشراء وكذلك نماذج للمراقبة والتتبع والتحليل والتأثير على توجهاتنا مثلما فضحت ذلك تحقيقات "كامريدج أناليتكا" والتي كشفت عن مدى قدرة السلطة والشركات والتقنية على العمل معا لتقويض منجزات الحريات الأساسية واستغلال المعلومات والعلم معا للتحكم بنا.

الصين والاستبداد عبر التقنية:
تعتبر الصين أكثر الدول حرصا على تحقيق كافة النماذج الاستبدادية عبر استغلال كامل وناجح ومبدع للتقنيات الحديثة والعلوم الاجتماعية والنفسية على السواء، وتؤسس عبر برمجة كشف عنها مؤخرا على خلق قواعد بيانات مليارية لمواطنيها عبر مراقبة أفعالهم الاجتماعية والإجرامية والسياسية وأرائهم وأفكارهم.
      
وتقوم التقنية هنا بجانب الهندسة الاجتماعية في خلق نظام "إله" تقني يسري في جسد الدولة يمكنه أن يصنف المواطنين كخيرين وأشرار بمجرد تتبع نظام حياتهم وأفعالهم ويترتب على ذلك إمكانية حصولهم على امتيازات أو حتى حرمانهم من الحياة والتنقل وحقوقهم كافة من خلال نظام المراقبة الشاملة الذي تكفله للدولة الصينية أنظمة المراقبة والذكاء الاصطناعي الضخمة.
  ويعد هذا النموذج أخطر من النموذج "الهتلري" في الضبط والسيطرة، حيث كان النظام الهتلري يحكم بالخوف والبوليس السري، في وقت كان التقنيات محدودة الوصول لحياة الناس الشخصية ما ساهم في قدرة كثيرين على التخفي والنجاة من النظام النازي. 

بينما يعتبر النموذج الصيني هو الوحش المضاعف من النظام النازي، وبعقلية لا تقل وحشية وبقوة عسكرية أكبر وبنمو اقتصادي مضاعف وبمشروع عالمي يصعب مواجهته بسهولة، وبنظام معتقلات عرقية لا يختلف كثيرا عن نظام المعسكرات النازية، بل يفوقها باعتقال مايفوق المليون شخص من مدينة واحدة فقط!.
 
هل نحن ضد العلم والتطور؟
بقدر ما تتطور هذه العلوم في قدرتها على منح السلطة تذكرة وصول لحياتنا الشخصية بشكل شامل، بقدر ما يسهم الاحتكار وتضخم الشركات العالمية وارتباطها بالسلطة السياسية في حسم انتصار هذه التقنيات لصالح الاستبداد لا الحريات، هذا الاستبداد الذي تتطور أدواته بقدر عجزنا عن توظيف التقنية والعلوم لصالح الحرية.

صحيح أن العلوم طورت كثيرا من قدرة البشر على البقاء والرفاه، وأنقذت كثيرين من مخاطر الأوبئة ورفعت معدلات متوسط العمر البشري، وكذلك قللت من وفيات المواليد، وخلقت نظاما اقتصاديا قلل من المجاعات والكوارث التي تشهدها البشرية.

لكنها على الجهة الأخرى تحولنا إلى ما يشبه "دجاجات" جيدة التغذية والصحة والنظيم في مزرعة كبيرة يتحكم بها ثنائي "السلطة والسوق"، وعليه تصبح العلوم جيدة بقدر ما هي مفيدة لخلق مواطن "السوق المثالي" الذي يمتلك قدرة جيدة على العمل لإثراء الشركات واستهلاك منتجاتها والانضباط الكامل في اتباع أوامر السلطة وقوانينها.

وبما أن الأنظمة الغربية عملت بشكل كبير على تدمير أي أفكار تعمل على تنظيم البشر خارج سياق السلطة كالنقابات العمالية والحركات الدينية المعارضة، وكذلك الحركات الطلابية، ومحاولة تجريم أي تجمعات حركية مقابل تعظيم الفردية كمعيار للتحرر، فإن البشرية تفقد بشكل تدريجي وأكيد قدرتها على المقاومة.

فلا يمكن أن يتم توظيف التقنيات لصالح الحريات والإنسان دون أن تكون هناك تجمعات منظمة تعمل على ذلك بشكل مضاد، وطالما أن العالم يتجه شيئا فشيئا للفردية ومقاومة أي حركات اجتماعية أو سياسية أو طلابية، فلا يمكن مطلقا أن تنضج أي محاولة لتوظيف التقنية بشكل يعزز قوة الجماهير أو سطوتها.
 
هذا المقال ليس وصية "انتحار" لصاحبها، بل تأطير أعتبره هاما لنضالنا القادم ولمعاركنا القادمة والذي يجب أن يستوعب بشكل كبير جدا أن العلم سيظل أكبر داعم للاستبداد طالما أنه لا يوجد عمل منظم ومستقل لتشكلات الأحرار في هذا العالم يستوعب بشكل جيد مخاطر التغول العلمي والتقني لحياتنا اليومية. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق