جماعة المثقفين العرب
|
سيد يوسف
|
بسم الله الرحمن الرحيم
فى علم اللغة يدرس الطلاب ما يسمى بالدلالة اللغوية من حيث تخصيص الدلالة أو تعميمها أو انحطاطها أو رقيها ويضربون لذلك أمثلة فمثلا كلمة السبت كانت تعنى الدهر ثم خُصصت دلالة الكلمة لتكون يوما خاصا من أيام الأسبوع، وهناك كلمة كالبأس كانت تعنى الشدة فى الحرب ثم عُممت دلالتها لتصير كل شدة (وفى العامية يطلقها بعض الناس على المرض)، وهناك كلمة رسول كانت تطلق على أي شخص مرسل إلى آخر ثم رُقى مدلولها لتدل على الرسول المرسل من الله تشريفا، وهناك كلمة مثل القتل كانت تطلق على الحرب(يسألونك عن القتال) ثم انحط معناها لتدل على الضرب والشجار.
وهكذا فقد نجد بعض الكلمات كانت ذا معنى ثم صار لها دلالة أخرى إما بالتخصيص(كالسبت) أو بالتعميم (كالبأس) أو بالتشريف والرقى(كالرسول) أو بالانحطاط (كالقتال)...فهل صارت عبارة المثقفين العرب دلالة على الانحطاط لا سيما وقد عزلوا أنفسهم عن الجماهير؟!!
يزعم كاتب هذه السطور أن لفظة "المثقفين العرب" انحط معناها الدلالى لتشير إلى أولئك الذين يهاجمون الدين، ويتبنون النهج الإقصائى للشريعة الإسلامية تحديدا لا سيما وقد عزلوا أنفسهم عن نبض الجماهير ومشاعرهم فضلا عن معاداتهم لتراث أمتهم بله تباهيهم بهذا.
وهاك تساؤلا يطرح نفسه: هل المثقفون فى بلادنا لديهم استعداد حقيقى للمساهمة فى تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية دون انتظار عطاء السلطة الحاكمة؟ وهل المثقفون فى بلادنا مستعدون للتضحية والوقوف فى وجه السلطة السياسية من أجل تغيير يضاد مصالح السلطة السياسية؟ وإلى أي مدى هم مستعدون؟ ترى: كم حجم الفجوة بين المثقفين وعوام الناس فى هذه النقطة؟!
مقارنة ظالمة
حين يغوص المرء فى التاريخ المعاصر يجد المثقفين فى طليعة الذين يعبرون عن الأمة فكرا وتراثا واحتراما لخصائصها المكينة فقد كان مثقفوها ينتجون المعرفة حركة وثورة وتغييرا منشودا يعبر عن جماهير الأمة ومن هنا يذكر الناسُ كبارَ القوم بمشاعر الإعجاب والتقدير كمحمد عبدة، والعقاد، وحسن البنا، والغزالى...
لكن بعض مثقفى اليوم صاروا باعة كلام ولا جرم أن تجد أحدهم يتلون كالحرباء يتبع كل ناعق فهو مرة قومى، ومرة شيوعى، ومرة ماركسى، ومرة غير ذلك، ولو صار الحكم للحركات الدينية لارتدى بعضهم الثياب اللازمة لذلك... فهؤلاء يدورون حيث تكون السلطة ومن ثم فقد لفظهم الناس فمهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تَخفى على الناس تُعلم فما شيء على الشعوب بسر.
ومن المؤسف أن هؤلاء ينظرون للثقافة على أنها مهنة محترفة (أكل عيش) لا على أنها وسيلة معرفية يرتقى بها المرء من مجال القول إلى ميدان العمل والحركة والقدوة!!!
هؤلاء يروجون لبضاعتهم بالكلام ولا جرم فبضاعتهم الكلام ولا مكان لأكثرهم فى ميدان الحركة والعمل...وهم أشبه ما يكونون – حين يقارَِنون بالعاملين- بالثرثارين على مصاطب الفراغ تسلية وضياعا للوقت.
ثقافة تخدم الجماهير لا ترتزق منهم
وكم كنت أرجو أن يعى هؤلاء أن أسماء الخالدين والعظماء الذين ذهبوا مع الحياة هى الخالدة أما أشخاصهم أما ذواتهم فقد أفضوا إلى ما قدموا فهم بين مليك مقتدر لا أحد يعلم كيف حالهم الآن، من أجل ذلك كنت أرجو لهم ألا يهتموا كثيرا بأسمائهم على حساب أنفسهم...فإن الحكمة تقتضى أن إذا سمحت لنفسك أو سمحت لك الظروف أن تتميز على الآخرين بأي وسيلة من وسائل القدرة ( المال/السلطة /الكلمة المنشورة / حسن البيان/ التاريخ الحسن/ المكانة ...) حينئذ عليك أن تلزم نفسك أن تكون أكثر أمانة فى تشغيل تلك القدرة لصالح أمتك ودينك وبنى وطنك...لا أن تتكسب بها وتدور بها مع كل لون سياسي حتى حين يطغى على شعبه!!
لقد استبان لى أن توصيل الأفكار وإثارة وعى الآخرين ليست نافلة يزهد فيها المثقفون الحقيقيون الحريصون على مصلحة هذه الأمة... ومن السذاجة تصور أن أداة توصيل تلك الأفكار اللسان فما أسهل القول وما أصعب العمل!!
إن كلمةً دفع صاحبها دمه فداء لها لهى أبلغ ألف مرة من حكمة تتناقلها الألسن دون أن تبلغ القلوب وتحركها للعمل الايجابي الفعال والمستمر... وشتان ما بين الكلمتين فالأولى تحيا بها الأمة والثانية تلوكها ألسنة الصبية إن عاشت اليوم ستموت غدا ذلك أنها لم تتجسد فى شخوص أصحابها... وهل يستوى من يتحدث عن الجهاد والذى يموت شهيدا؟ لا يستوون.
إنما المثقف الحقيقى من يرزق عقلا حرا ونفسا قوية ليواجه قضايا أمته وقومه بعقل حر، وقلب شجاع، وإقدام جريء حتى وإن تعرض لنقد موروثاته قبل أن يهدمها – لا أن يكتفى بنقدها- الآخرون فليس من الحكمة فى شيء أن تناقش الحاضر أو الماضى متغافلا عن المستقبل .
خاتمة وملاحظات
* هذا الصنف من المثقفين ما هم إلا غلطة إنسانية جاء بها القدر فى ثوب براق ( مفكر/ أديب / شاعر/ كاتب /.....الخ) يجذب ضعاف الثقافة والمفلسين فكريا فيبثون بعض سمومهم حتى إذا تصدى لهم الفاقهون تواروا وتفلتوا منك تفّلت البعير من عقالها باحثين عن شبهات أخر، فأما الذين آمنوا فيزدادون اقتناعا وإيمانا بما معهم، وأما العامة فيلتفتون إلى الحق فيستمسكون به بعد إذ عرفوه ويزدرون الباطل وأهله وكأن أولئك الذين فى قلوبهم عمى يستنقذون الحق الذى كاد أن يختفي مع زحمة الحياة وضغوطها بما يثيرونه من شبهات...وقد أحسن أبو تمام حين ساق هذه الأبيات :
وَإِذا أَرادَ اللَهُ نَشرَ فَضيلَةٍ *** طُوِيَت أَتاحَ لَها لِسانَ حَسودِ
لَولا اِشتِعالُ النارِ فيما جاوَرَت *** ما كانَ يُعرَفُ طيبُ عَرفِ العودِ
* وإنما مَثَل ُالذين يحاربون الله ورسوله عن عمى وتعصب وجهل : يحاربونه بالصد عن سبيل الله، وبتشويه الذين يعملون لنصرة دينه، وبإهانة الرسول وأصحابه، وبإثارة شبهات يتصيدون بضعاف المرويات بها الذين هم مفلسون فكريا فيشوهون رموزنا وتراثنا... نقول إنما مَثَل هؤلاء كمثل رجل جمع من شاطئ البحر بعض الرمال حتى إذا ابتنى به بيتا من البيوت التى يتلهى بها الصبية، وظنه بيتا متينا – ولا عجب فالعلة فى ذهنه - هاج البحر وتلاطمت أمواجه - وموج البحر حتما سيشتد إن اليوم أو غدا- وبعثر بقوة موجه هشاشة ما ابتنى الرجل، فصار البناء هباء منثورا، حينئذ إذا رأى عمله حسرة عليه وبكى بكاء النادمين فلا يلومن إلا نفسه، فالحياة لا ترحم من الدواب الصم البكم الذين يعطلون حواسهم عن التفكير... وفى هذا إشارة للمثقفين الذين يرتزقون بمهاجمة الدين.
* كثير من الناس يحسبون أنهم يحسنون صنعا وهم أشد الناس خسرانا ذلك أنهم يتعامون أو يتغافلون عن عرض أنفسهم على معايير الحق والهداية، وإن للحق والهداية لمعايير لو أن القوم كانوا يعقلون .. .يقول تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ) البقرة 11-12، ويقول تعالى :(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) الكهف 103-104 ولعمرى فإن الوهم إذا استبد بالمرء فإن من العسير أن نرجو له فكاكا، والوهم قرين الشقاء، ولأمر ما كان بعض الفاقهين يدعون الله دوما بمثل هذا الدعاء " اللهم إنا نعوذ بك من الوهم ونعوذ بك من سوء الفهم" وفى الأثر ورد هذا الدعاء " اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي ".
سيد يوسف
|
الدرة (( إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ، إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ )) الامام الشافعي
الخميس، 9 يناير 2020
جماعة المثقفين العرب
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق