السبت، 8 مايو 2021

على قــارعة التدبــر

                        على قــارعة التدبــر

إبراهيم بن عمر السكران
@iosakran

1-مناصحة ذاتية:
الله الله يا نفسُ بتدبر القرآن ..
الله الله أن يكون لكِ ورد يومي من التدبر لايفوتك مهما كانت الأعباء..
يانفسُ ألا ترين كثيراً من الصالحين وكيف يتحدثون عما يرونه من فرق مبهر في حياتهم، وفرقاً عظيماً في فهمهم وصحة نظرهم واستقرار تفكيرهم ببركة هذا القرآن ..
ألا ترين كثيراً من الصالحين كيف يبثون شجواهم عما يجدونه في أنفسهم بعد تلاوة القرآن.. يتحدثون عن شئ يحسون به كأنما يلمسونه من قوة الإرادة في فعل الخيرات والتأبي على المعاصي.. وراحة النفس في صراعات المناهج والأفكار واحترابات التيارات ..
بل تأملي يانفسُ كيف تشرّف النبي ذاته بالقرآن!
تأملي يانفسُ كيف كانت حال النبي قبل القرآن، وحال النبي بعد القرآن، كما قال تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ماكنت تدري مالكتاب ولا الإيمان) وقوله تعالى (بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين)..
فانظر بالله عليك كيف تأثرت حال النبي بعد إنزال القرآن عليه، بل انظر ما هو أعجب من ذلك وهو حال النبي بعد الرسالة إذا راجع ودارس القرآن مع جبريل كيف يكون أجود بالخير من الريح المرسلة كما في البخاري، هذا وهو رسول الله الذي كمل يقينه وإيمانه، ومع ذلك يتأثر بالقرآن فيزداد نشاطه في الخير، فكيف بنفوسنا الضعيفة المحتاجة إلى دوام العلاقة مع هذا القرآن..
بل انظر كيف جعل خاصية الرسول تلاوة هذا القرآن فقال (رسول من الله يتلوا صحفاً مطهرة).
وانظر إلى ذلك التصوير الشجي لحال أهل الإيمان في ليلهم كيف يسهرون مع القرآن (أمةٌ قائمة يتلون آيات الله آناء الليل)
أترى أن الله جل وعلا ينوع ويعدد التوجيهات لتعميق العلاقة مع القرآن عبثاًَ؟
فتارةً يحثنا صراحة على التدبر (أفلا يتدبرون القرآن) .. وتارةً يحثنا على الإنصات إليه (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتو) .. وتارةً يأمرنا بالتفنن في الأداء الصوتي الذي يخلب الألباب لتقترب من معاني هذا القرآن (ورتل القرآن ترتيلا) .. وتارةً يأمرنا بالتهيئة النفسية قبل قراءته بالاستعاذة من الشيطان لكي تصفو نفوسنا لاستقبال مضامينه (وإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) .. وتارةً يغرس في نفوسنا استبشاع البعد عن القرآن (وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) .. وتارات أخرى ينبهنا على فضله، وتيسيره للذكر فهل من مدكر، وعظيم المنة به، الخ الخ كل ذلك ليرسخ علاقتنا بالقرآن ..
أيا نفسُ .. هل ترين ذلك كله كان اتفاقاً ومصادفة لا تحمل وراءها الدلالات الخطيرة؟!

2-مع القلوب الصخرية:

الحديث عن قسوة القلب حديث ذو شجون، ومن رزايا هذا الزمن أن صرنا لا نستحي من المناصحة عن قسوة القلب بينما قلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة .. لكن دعنا يا أخي ندردش دردشة المحبوسين يتشاجون لبعضهم كيف يهربون من معتقلات خطاياهم..
يا أخي والله لقد قرأت كثيراً كثيراً في كتب الرقائق والايمانيات والمواعظ، وجربت كثيراً من الوسائل التي ذكروها، وأصدقك القول أنني رأيتها محدودة الجدوى، لا أنكر أن فيها فائدة، لكن ليست الفائدة الفعلية التي كنت أتوقعها، ووجدت العلاج الحقيقي الفعال الناجع المذهل في دواء واحد فقط، دواء واحد لاغير، وكلما استعملته رأيت الشفاء في نفسي، وكلما ابتعدت عنه عادت لي أسقامي، هذا العلاج هو بكل اختصار (تدبر القرآن).
دع عنك كلما يذكره صيادلة الإيمان، ودع عنك كل عقاقير الرقائق التي يصفونها، واستعمل (تدبر القرآن) وسترى في نفسك وإيمانك وقوتك على الطاعات وتأبيك على المعاصي وراحة نفسك في صراعات المناهج والأفكار شيئاً لا ينقضي منه العجب.
كل تقصير يقع فيه الانسان، سواء كان تقصيرا علميا بالتأويل والتحريف للشريعة، أو كان تقصيراً سلوكياً بالرضوخ لدواعي الشهوة، فإنه فرع عن قسوة القلب.
وهل تعلم كيف تحدث قسوة القلب؟
قسوة القلب ناشئة عن البعد عن الوحي، ألا ترى الله تعالى يقول 
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ)
أرأيت يا أخي؟ إنه طول الأمد .. !
لما طال بهم الأمد قست قلوبهم .. ولو جددوا العهد مع الوحي لحيت قلوبهم..
فإذا قسا القلب تجرأ الانسان على الميل بالشريعة مع هواه .. وإذا قسا القلب تهاون الانسان في الطاعات واستثقلها .. واذا قسا القلب عظمت الدنيا في عين المرء فأقبل عليها وأهمل حمل رسالة الاسلام للناس .. وإذا قسا القلب ضعفت الغيرة والحمية لدين الله ..

ومالعلاج إذاً ؟
العلاج لما يحيك في هذه الصدور هو مداواتها بتدبر القرآن .. بالله عليك تأمل في قوله تعالى 
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)
هكذا تقدم الآية المعنى بكل وضوح "وشفاء لما في الصدور" ..
ولكن مالذي في الصدور؟!
في الصدور شهوات تتشوف .. وفي الصدور شبهات تنبح .. وفي الصدور حجبٌ غليظة.. وفي الصدور طبقات مطمورة من الرين 
(كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) ..
وهذه الدوامات التي في الصدور دواؤها كما قال الله 
(قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) ..
فإذا شفيت الصدور وجدت خفة نفس في الطاعات .. وإذا شفيت الصدور انقادت للنصوص بكل سلاسة ونفرت من التأويل والتحريف .. وإذا شفيت الصدور تعلقت بالآخرة واستهانت بحطام الدنيا .. وإذا شفيت الصدور امتلأت بحمل هم إظهار الهدى ودين الحق على الدين كله ..
وأعجب من ذلك أنه إذا شفيت الصدور استقزمت الأهداف الصغيرة .. تلك الاهداف التي تستعظمها النفوس الوضيعة .. الولع بالشهرة .. وحب الظهور .. وشغف الرياسة والجاه في عيون الناس .. وشهوة غلبة الأقران ..
النفوس التي شفاها هذا القرآن .. ترى كل ذلك حطام إعلامي ظاهره لذيذ فإذا جرب الانسان بعضه اكتشف سخافته .. وأنه لايستحق لحظة من العناء فضلاً عن اللهاث سنوات.. فضلاً عن تقبل أن يقوم المرء بتحريف الوحي ليقال فلان الوسطي الراقي الوطني التنموي الحضاري النهضوي التقدمي الخ الخ من عصائب الأهواء التي تعشي العيون عن رؤية الحقائق..
هل تظن يا أخي أن تحريف معاني الشريعة لا صلة له بقسوة القلب؟! أفلا تقرأ معي يا أخي قوله تعالى 
(وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ)
على أية حال .. دعنا نعيد قراءة آية الشفاء 
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)
يا ألله .. هل قال الله "شفاء لما في الصدور" .. نعم إنه شفاء لما في الصدور.. هكذا بكل وضوح ..
هذا القرآن يا أخي له سحر عجيب في إحياء القلب وتحريك النفوس وعمارتها بالشوق لباريها جل وعلا .. وسر ذلك أن هذا القرآن له سطوة خفية مذهلة في صناعة الاخبات والخضوع في النفس البشرية كما يقول تعالى 
(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ)
فإذا أخبتت النفوس .. وانفعلت بالتأثر الإيماني .. انحلت قيود الجوارح .. ولهج اللسان بالذكر .. وخفقت الأطراف بالركوع والسجود والسعي لدين الله .. كما يصور الحق تبارك وتعالى ذلك بقوله 
(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ)
لاحظ كيف تقشعر .. ثم تلين .. إنها الرهبة التي تليها الاستجابة .. وذلك هو سحر القرآن..

3-وبدأ الانحراف يسبل إزاره:

أولاً وقبل كل شئ .. أسأل الله أن يثبتنا وإياك على دينه.
حالات الانحراف عن التدين كثرت هذه الأيام .. وبينها تفاوت كبير.. فبعضهم مشكلته (علمية) بسبب رهبة عقول ثقافية كبيرة انهزم أمامها.. وبعضهم مشكلته (سلوكية) بسبب ضعفه أمام لذائذ اللهو والترفيه.. وإن كان الأمر دوماً يكون مركباً من هوى وشبهة لكنه يكون أغلب لأحدهما بحسب الحال.
وأنا إلى هذه الساعة على كثرة ما تعاملت مع هذه الحالات لا أعرف علاجاً أنفع من (تدبر القرآن) فإن القرآن يجمع نوعي العلاج (الإيماني والعلمي) وهذا لايكاد يوجد في غير القرآن، فالقرآن له سر عجيب في صناعة الإخبات في النفس البشرية (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم) وإذا تهيأ المحل بالإيمان لان لقبول الحق والإذعان له كما قال تعالى (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله).
وفي القرآن من بيان العلم والحق في مثل هذه القضايا المنهجية ما لايوجد في غيره، ومفتاح الهداية مقارنة هدي القرآن بسلوكيات التيارات الفكرية.
أعني أنه إذا رأى متدبر القرآن تفريق القرآن بين المعترف بتقصيره حيث جعله قريباً من العفو (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم) وبين تغطية وتبرير التقصير بحيل التأويل الذي جعله الله سببا للمسخ (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) ومجرد المعصية بالصيد في اليوم المحرم لاتستحق المسخ فقد جرى من بني اسرائيل ما هو أكثر من ذلك ولم يمسخهم الله، ولكن الاحتيال على النص بالتأويل ضاعف شناعتها عند الله جل وعلا.
وإذا رأى متدبر القرآن –أيضاً- تعظيم القرآن لمرجعية الصحابة في فهم الاسلام، وربطه فهم الإسلام بتجربة بشرية، كقوله تعالى 
(فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به) ، وقوله تعالى (والذين اتبعوهم باحسان) ، وقوله تعالى (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم) وقوله تعالى (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)، وقوله تعالى (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم)، وقوله تعالى (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) ففي مثل هذه الآيات البينات يكشف تعالى أن الوحي ليس نصاً مفتوحاً، بل هو مرتبط بالاهتداء بتجربة بشرية سابقة، فيأمرنا صريحا أن نؤمن كما آمن الصحابة، وأن نتبع الصحابة بإحسان، ويأمرنا بكل وضوح أن نرد الأمر إلى أولي العلم الذين يستنبطونه، وهذا كله يبين أن الإسلام ليس فكرة مجردة يذهب الناس في تفسيرها كل مذهب .. ويتاح الفهم لكل شخص كما يميل .. بل هناك تجربة بشرية حاكمة للتفسيرات.
وإذا رأى متدبر القرآن –أيضاً- بيان القرآن لتفاهة الدنيا، وكثرة ماضرب الله لذلك من الأمثال كنهيه نبيه عن الالتفات إلى الدنيا 
(لاتمدن عينيك إلى مامتعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه). (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها..).
وإذا رأى متدبر القرآن –أيضاً- مافي القرآن من بيان الله لحقارة الكافر وانحطاطه حيث جعله القرآن في مرتبة الأنعام والدواب والحمير والكلاب والنجاسة والرجس والجهل واللاعقل والعمى والصمم والبَكم والضلال والحيرة الخ الخ من الأوصاف القرآنية المذهلة التي تملأ قلب قارئ القرآن بأقصى مايمكن من معاني ومردافات المهانة والحقارة، كقوله تعالى 
(والذين كفروا يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام) وقوله (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا) وقوله (كذلك يجعل الرجس على الذين لايؤمنون) وأمثالها كثير.
وإذا رأى متدبر القرآن –أيضاً- ما في القرآن من عناية شديدة بالتحفظ في العلاقة بين الجنسين، كوضع السواتر بين الجنسين كما في قوله (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب) وحثه المؤمنات على الجلوس في البيت
 (وقرن في بيوتكن) ونهيه عن تلطف المرأة في العبارة (فلا تخضعن بالقول) ونهيه عن أي حركة ينبني عليها إحساس الرجل بشئ من زينة المرأة (ولايضربن بأرجلهن ليعلم مايخفين من زينتهن) ونحو ذلك.
وإذا رأى متدبر القرآن –أيضاً- عظمة تصوير القرآن للعبودية كتصويره المؤمنين في ذكرهم لله على كل الأحوال 
(الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم) وحينما أراد أن يصف الصحابة بأخص صفاتهم قال (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً..) وكيف وصف الله ليلهم الذي يذهب أغلبه في الصلاة (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصف وثلثه وطائفة من الذين معك).
والمراد أنه إذا رأى متدبر القرآن هدي القرآن في هذه القضايا وأمثالها، ثم قارنها بأحوال التيارات الفكرية المعاصرة، ورأى ما في كلام هؤلاء من تأويلات للنصوص لتوافق الذوق الغربي، والإزراء باتباع السلف في فهم الإسلام، وملأ القلوب بحب الدنيا، ولهج بتعظيم الكفار، وتكسير للحواجز بين الجنسين، وتهتك عبادي ظاهر، الخ إذا قارن بين القرآن وبين أحوال هؤلاء انفتح له باب معرفة الحق.

4-من مفاتيح التدبر:

الحقيقة أنني رأيت كثيراً من المتخصصين في التفسير كتبوا رسائل رائعة في التدبر، ووسائله، ولست متعمقاً في هذا الموضوع للأسف، لكن دعونا ندردش في الموضوع دردشة المقصرين يتذاكرون كيف يخرجون من شؤم تقصيرهم.
وجهة نظري أنه أولاً وقبل كل شئ يجب على الانسان أن يتضرع إلى الله ويدعوه ويلح عليه أن يجعله من أهل القرآن، وأن يفتح عليه في فهم كتابه، والعمل به، وأن يجعله ممن قال عنهم 
(يتلونه حق تلاوته)، فإن الإنسان لا يفتح عليه في العبودية بمجرد الجهود الشخصية والتخطيط للانجاز، وإنما فتوحات العبودية من بركات اللجأ إلى الله، وكل أبواب الخير من العلم والديانة إنما هي من باب الاستعانة ولذلك أعقب الله العبادة في سورة الفاتحة التي هي أعظم سورة في القرآن والتي أمرنا الله أن نكررها عشرات المرات يومياً (وهذا يعني أن مضامينها موضوعة بعناية وليست اتفاقاً) في هذه السورة العظيمة أعقب الله العبادة بالاستعانة، فالاستعانة بوابة العبادة.

وثانياً يجب وضع ورد يومي للتدبر كما كان الصحابة لهم أوراد وكان جمهورهم يحزبه على سبعة ايام كما تعرف، وأن لا يُغلب الانسان على ورده من التدبر مهما كانت الظروف، والورد اليومي من القرآن كما سمعت أحد الصالحين يقول: في اليوم الأول كالجبل وفي الثاني كنصف الجبل وفي الثالث كلا جبل وفي اليوم الرابع مثل الغذاء الذي تتألم لفقده.
وثالثاً أن يكون الأصل هن التدبر الشخصي، والتفسير معين، لا العكس كما يفعل البعض، وخصوصاً لمن لديهم خلفية شرعية عامة تؤهلهم لفهم جماهير الآيات، والقرآن كما قسمه ابن عباس أربع مراتب (التفسير على أربعة أوجه: تفسير لايعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله) .. فأنت إذا استحضرت تقسيم ابن عباس العبقري عرفت أنه ليس كل القرآن يحتاج لتفسير.

فيقرأ الانسان في المصاحف المهمشة بالتفاسير، وأجودها وأدقها (كما علمت من كثير من المتخصصين في التفسير) هو التفسير الميسر الصادر عن مجمع الملك فهد، فقد توافر على تصميمه كوكبة محترفة من المتخصصين في التفسير، وهو زبدة رائعة لكتب التفسير، فإذا أشكلت اللفظة أو المعنى الاجمالي راجع الهامش، لكنه يحاول هو أن يستكشف الدلالات العظيمة في هذا القرآن العظيم، فإذا لم يكن متأكدا من سلامة استنباطه راجع كتب التفسير الموسعة.

وهذا الإمام العلامة أضخم مرجعية فقهية سنية معاصرة ابن عثيمين رحمه الله حي سئل عن طريقة طلب العلم وأولى العلوم بالعناية والاهتمام قال:
(نقول: ابدأ بالتفسير قبل كل شيء، لكن هذا لا يعني ألا تقرأ غيره، لكن ركز أولاً على علم التفسير..، فعليك بالتفسير، احرص عليه ما استطعت، وطريقة ذلك: أن تفكر أنت أولاً في معنى الآية، قبل أن تراجع الكتب، فإذا تقرر عندك شيء فارجع إلى الكتب، وذلك لأجل أن تمرن نفسك على معرفة معاني كتاب الله بنفسك، ثم إن الإنسان قد يفتح الله عليه من المعاني ما لا يجده في كتب التفسير، خصوصاً إذا ترعرع في العلم وبلغ مرتبة فيه فإنه قد يفتح له من خزائن هذا القرآن الكريم ما لم يجده في غيره) [الباب المفتوح، ل86]

فانظر إلى هذا الفقيه الامام كيف يوصي طلابه بأن يقرأو الآيات ويستنبطوا منها ثم يراجعوا كتب التفسير، بل وكان يطبق ذلك عملياً فيعطيهم آيات ويطلب منهم أن يسهرو في الاستنباط منها ويأتون بها غدا (انظر قصصاً طريفة ذكرها حول هذا الموضوع الأخ مازن الغامدي رحمه الله في قصته مع الشيخ، وهي أهم سيرة ذاتية كتبت عن الداخل الشرعي السعودي).

ثم بعد ذلك يقرأ الانسان في مطولات التفسير قراءة مستقلة، وأعذبها وألذها تفسير الإمام فقيه الأخلاق والفروع ابن سعدي عليه رحمة الله، ومع ذلك فلا بد للانسان أن يطالع آثار السلف في تفاسير الأثر حتى لايصادم فهمهم دون وعي، وإذا سئل ابن عثيمين عن التفاسير فإنه كان يذكر ثلاثة دوماً ويمدحها ويثني عليها (ابن كثير، السعدي، الجلالين) فالشيخ كان يحب الدقة اللغوية للجلالين رحمه الله .
ورابعاً من أجمل الأمور أن يضع الإنسان لأهل بيته برنامجا في التفسير فيقرأون ويتبارون في الاستنباط ثم يراجعون التفسيرات المختصرة، والأصل في ذلك قوله تعالى (واذكرن مايتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) فالنبي كان يتلو على نسائه القرآن. وهذا له أثر لا يتصوره الكثيرون في تحبيب الأهل في القرآن والاقبال على الاستنباط منه، بل وستجد أهلك يصبحون دائمي التساؤل حول بعض استنباطاتهم للقرآن وهدايات آياته، وأهم من ذلك كله ستجد في أهلك قوة على الطاعة ونظرة مختلفة للدنيا وزخرفها، فهذا القرآن عجيب عجيب في تصحيح المفاهيم وتزكية النظرات والتصورات.

وخامسا لا أعلم درساً شرعيا في كل علوم الاسلام أسسه النبي وأصّله نظريا بنفسه إلا تدارس القرآن، فكل دروس الشريعة نوع من الاجتهاد في تنظيم العلم إلا تدارس القرآن فهو منصوص كما قال النبي في مسلم (ما اجتمع قوم فى بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) هذا هو أعظم الدروس الشرعية التي يحبها الله، ولذلك ما أجمل أن يضع الاخوان لبعضهم برنامجا أسبوعيا يحضّر كل منهم من تفسير معين ثم يتدارسون معانيه، هذا البرنامج دينامو إيماني ومنهجي في غاية التأثير .

والطرق كثيرة، والموضوع متشعب، والمتخصصون أبدعوا فيه، والمقصر يخجل من مناصحة الآخرين، ولكنه التذاكر والباحث في موضوع والله لم نقدره قدره بعد وماعرفنا اثره.

ولقد تأملت سيرة الصحابة في سير أعلام النبلاء وبعض طبقات ابن سعد وبعض حلية أبي نعيم فهالني والله ما رأيت من اقبالهم وتكثيف جهودهم في القرآن. وعلمت حينها مالذي منح أولئك تلك المزية، بل انظر في أبي العباس ابن تيمية الذي كتب في التفسير رسائل كثيرة، كتفسير آيات أشكلت، وتفسير سورة الاخلاص، وجمع مطولات في تفسير السلف نسقاً على الآيات (أكثرها مفقود) وجلس سنة يفسر سورة نوح، ومع ذلك حين اعتقل المرة الأخيرة في قلعة دمشق وسحبت منه الكتب والاقلام اقبل على القرآن وقال (قد فتح الله علي في هذه المرة من معاني القرآن ومن أصول العلم بأشياء كان كثير من العلماء يتمنونها وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن) هذا ابو العباس يندم على تضييع أكثر أوقاته في غير معاني القرآن، برغم أنه من أئمة التفسير أصلاً ! فماذا نقول نحن المقصرين مع كتاب الله .

اللهم اجعلنا من أهل القرآن، اللهم اجعل القرآن أنيسنا في ليلنا ونهارنا، اللهم شفع سورة تبارك فينا في قبورنا، اللهم اجعل البقرة وآل عمران غيايتان تحاجان لنا يوم القيامة، اللهم أحبنا بحبنا لسورة قل هو الله أحد، اللهم آمين، اللهم آمين..

اخوكم/ ابوعمر
محرم 1431هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق