سلطان العبدلي*
في المعارضات للأنظمة الشمولية الغاشمة؛ من الأخلاق ما يشبه تارة الأنظمة من الاستبداد؛ وما يشبه أخرى أخلاق الشعب التي خرجت منه، وفي المعارضين المخلص ذو المنهج البيِّن وفيهم المتسلِّق الوصولي مبتغي الشهرة والمنصب وفيهم وفيهم..
وأنَّى لعاقل أنْ يتطلَّب الشهرة والمنصب في ما أهون أثمانه الروح!
فمن كانت معارضته لدنيا يصيبها أو صيت عابر فقد خاب وخسر.
وحياة معارضة الأنظمة ليست نزهةً أو رحلة في صيد، وإنما هي عناءٌ طويل تنقطع دونه حيازيم الصبر وفيافي الهمم، والمعارضة ليست غضبا من حال معينة كمن غضب من لمحة وكزة أو عنَّ له خاطرٌ من "زعلٍ" من "أعمامه" أخذ به على سيده ففر مغاضباً، كلَّا.. فسبيل المعارضة لأنظمتنا التي جثمت على صدور شعوبنا ردحاً من الزمن، وصاغت نفوس الخلق ولوَّنتْ ثقافتهم، لا يصلح لها مخنثو العزائم "فالطريق شاقٌّ طويلٌ، ناح لأجله نوح" وهو درب الاغتيالات والتصفية والدهس وتلطيخ السمعة والتجسس على المعارضين، كل ذلك مما قد يعرض لهم فيما اختاروه من سبيل.
والحياة مبنية على الإختيار، وهذا قانونها الذي إنْ اختلَّ اختلَّتْ الموازين، فلذلك خيار كل إنسان له من القداسة مثل ما له من المحاسبة بعد. والإنسان سياسيا أو مناضلاً مجاهداً حينما يختار طريقه دون أنْ يُلجئه أحد لسلوك طريق معين؛ فغالبا ما تراه ثابتاً على الطريق ـ سيما ـ إنْ اجتمع له حسن التفكير وسلامة النفس من العوائق والنظر لمغبَّات الطريق وعواقبه.
فالحياة كلها مصاعب ومتاعب وليس من عاقل يتصورها نوعا من اللهو المجرد عن دفع الأثمان التي من سنتها أنْ يدفع ضربيتها سالكها، هذا فيما هو معتاد من حياة البشر في الوظيفة والتجارة والحياة مع الزوجة والأطفال وقديما قال المتنبي:
الجودُ يفقر والإقدام قتَّال
فكيف إنْ كانت الطريق غير مسلوكة من قبل؛ أو غير سالكة بيسْر كطريق مناصبة الأنظمة المستبدة العداء أو الرغبة في إصلاح ما فسد منها وقضايا من هذا القبيل فإن المشقة معلومة بالضرورة العقلية والتجربة.
فكل سالك لطريق جهاد الأنظمة العربية تحديدا فليعلم سلفا أنه قد وضع قدميه على طريق زلَّتْ فيه أفهام وانزلقتْ فيه أقدام، فلذلك من نافلة العقل والفهم أنه قد حطَّ رجليْه في العُسْرة والكربة والشِّدَّة فليستعد لكل خيارات الطريق وعوائق المسير.
وعلينا أنْ نعلم نحن في مثل مواجهة نظام آل سعود أنه نظام عتِيٌّ ماحق ونظام ضرب في الفِدَادة بكل سهم من العنف والإرهاب، فالمعارض له يجب أن يعلم سلفاً أنه قادمٌ على شأن كُبَّار وخطر نهاية طريقه الراحة والعمر والثمن المؤجل أو المقدَّم السمعة وتلطيخ الحال وكل ما اعترى كل مصلح من الأنبياء والمناضلين في كل الأعصار.
خطورة هذا النظام تكمن في ثلاثة أثافٍ:
1ـ أنه حاربك بديانة مليارين من البشر؛ ولا يحتكم لعرف قانوني ولا منهج دستوري؛ ومع هذا فهو يحاكمك ولا يحتكم معك بأسوأ نسخة من الدين عرفتها الأمة، بل هو دين جديد.
2 ـ هذا النظام السعودي يمتلك خبرة هائلة في شراء الذمم بطريقة لم يُسبق إليها؛ فقد هيأ ـ كثيرا ـ من مرتزِقة الإعلام من الجنسين للدفاع عنه والمنافحة عن خطاياه في كل باطله وأباطيله.
3 ـ من الظرف التأريخي الرعيب وقوع تلك الثروات المذهلة التي لم يمرَّ مثلها على الجزيرة العربية منذ انفجر"الزفت الأسود" في منتصف القرن الفائت فاستخدمها لكل فجوره السياسي وما سواه.
عارض النظام خلق كثير من أبناء البلاد المخلصين وابتدأت المعارضة الحقيقة من الحجاز حيث ثورة ابن رفادة في شمال الحجاز ثم عصبة تحرير الحجاز ثم الحزب الحجازي والإخوان (إخوان من أطاعوا عبدالعزيز) لما تبين لهم غدر الإمام عبدالعزيز بن سعود بهم.
فكان مآل بعض الثابتين منهم القتل؛ والآخر التشريد فأصبح طريدا قضى في المنافي؛ وآخرون تمَّ تدجينهم بالبيضاء والصفراء والخضراء؛ (الفضة والذهب والدولار) ونفوس البشر فيها كل ذلك من الصبر والانكسار والانحسار والتراجع والنظر للقريب الداني عِوَضاً عن حقائق القضايا وبواطن الأمور.
فمن المعارضة من اختطف كالشهيد السعيد ناصر السعير الشمري ومنهم من صُفِّي بالقتل كالإخوان منتهى ثلاثينيات القرن الفائت، ومنهم اعتمد النظام على تصفيته باسم الدين الوهابي كالشيعة في الأحساء والقطيف والإسماعلية في نجران ـ حسب تصنيف النظام ـ ومن هؤلاء من عاد للبلد بإغراءات مادية أو وعود زائفة، فبعضهم أسعفهم الحظ للعوْد معارضين؛ وآخرون استمرأوا الذل والهوان وظلوا عاكفين على الأصنام النجدية عُبَّاداً لخزر الدرعية.
كل سالك لطريق جهاد الأنظمة العربية تحديدا فليعلم سلفا أنه قد وضع قدميه على طريق زلَّتْ فيه أفهام وانزلقتْ فيه أقدام، فلذلك من نافلة العقل والفهم أنه قد حطَّ رجليْه في العُسْرة والكربة والشِّدَّة فليستعد لكل خيارات الطريق وعوائق المسير
المعارضة في الأعوام الأربعين المنصرمة الأخيرة كان حظُّها التطور التكنولوجي الخارق الحارق للنظام؛ فوصل صوتها للداخل في الحجاز وعسير والأحساء والقطيف ونجد وحائل مع ظروف الثورة في إيران والجهاد في أفغانستان وحركة جهيمان وثورات الربيع العربي .
ثم مع السنوات العشر الأخيرة أخذت الأحداث تتسارع بوتيرة ماخرة، ثم انفجرت الأحداث في العهد السلماني بدمويتها وملاحقة المعارضين والناشطين بالشتم المقذع وحراس معبد توتير وشراء موظفين في تويتر نفسه؛ وأنفق النظام مئات ملايين الدولارات محاولاً إخماد كل صوت يزعجه ولو كان ذا أثر يسير، فكان ماكان من معارضين كُثُر، وقد ملأوا الدنيا تأليفا وكتابة ومجلات ومخاطبة للجماهيرعبر القنوات وتويتر والقنوات الفضائية ـ التي تريد ابتزاز ال سعود ـ أحايين كثيرة، واتسعت رقعة المعارضة للشباب المبتعث الذي وجد نفسه في فوهة المدفع فنشط في هذا الطريق وأحدث وعياً لا يُستهان به، فبدأ النظام باستدراج بعضهم من الصفوف الخلفية وتهديد كثيرين وترغيب أكثر؛ سيما في السنوات الأخيرة لإغلاق ملف المعارضة، ولكن هيهات وقد انطلق ركْبهم فكان تصفية خاشقجي وقتل معارضي الداخل في السجون مثل الشهداء من حَمَلة الأستاذية العالية كالشهيد أحمد العماري وموسى القرني وعبدالله الحامد، والحكم على غيرهم مئات السنين.
وهذا لو تأملناه كان دليلاً بيِّناً قاطعاً على هشاشة النظام وضعفه، إذْ لم يستطع تحمل كلمة، مما يجب أنْ يوري عزائمنا ويشعل هممنا.
" والكلمة لايخشاها إلا أصحاب الكراسي المهزوزة والعروش المهترئة".
اختطَّ بن سلمان خط من قبله لكن بعنف كاشح؛ فهدد وأوغل حيث لا تسعفه الخبرة؛ مع مدِّ يد الملايين لمن يريد العودة ففوَّض محامي والده ورجالات الاستخبارات والوسطاء لاسترجاع من يستطيع، وهنا بدا التراجع من خالد بن فرحان ال سعود ثم هارون أمين أحمد (دبلوماسي سابق) فاختلف التناول من قبل معارضي الخارج لقضيتهم، فمن مرغٍ ومزبد ومن صامت عن الحدث ومن واضِعه موضعه الطبيعي حيث اعتبر ذلك خيارا شخصيا فلكلٍّ ظرفه وتقديره وآخرون ناصحون اكتفوا بالتحذير من غدر النظام.
وكان ذلك الحدث هيِّناً لأنه لم يكن ذلك التراجع من معارضي ثقيلي الوزن على المستويات المختلفة في تناول الأحداث أو عمق الفكرة أو انتهاج استئصال النظام.
المعارضة في الأعوام الأربعين المنصرمة الأخيرة كان حظُّها التطور التكنولوجي الخارق الحارق للنظام؛ فوصل صوتها للداخل في الحجاز وعسير والأحساء والقطيف ونجد وحائل مع ظروف الثورة في إيران والجهاد في أفغانستان وحركة جهيمان وثورات الربيع العربي.
ولازالت الجعبة ـ جعبة النظام ـ ظمأى لاسترجاع كثيرين ممن لا وزن لهم ليقنع الشعب بالداخل أننا استطعنا إعادتهم لحضن الوطن (حضن الحائر أو ذهبان والإذلال) ربما بعدما قصُرَتْ همة النظام عن عودة صياصي المعارضة ورموزها، وخوفا من خروج العشرات بل المئات من الشباب والبنات بدوافع مختلفة.
بقي في خِضّمِّ مثل هذه الحالات القليلة أن نضع نُصْب أعيننا أن من المعارضين من هبَّ فزعة ونجدةً لمظلمة هنا أو عنصرية هناك مُورستْ ضدَّه، ومنهم من رأى نفسه دون دفع ذاتيٍّ منه في فوهة المعارضة والنشاط السياسي؛ وإلا فقد كان جزءاً من النظام السابق قبل تعليق (أسد السنة) من كاحليه، وباختلاف النفوس والأهداف والدوافع والأقوال والأعمال تكون التراجعات.
وفي مثل هذه السياقات يجب أنْ يبرأ المعارض أو الناشط المخلص من حوله وقوته فليلجأ لخالقه سائلاً الثبات على ما اختطَّه من طريق وما تبنَّاه من مسلك، لأنه ليس هناك من تغيير في النظام وسلوكه يدعو للتوبة والأوبة! إلا عوامل النفس أو القناعات التي لم تكن متأصلة في كوامن النفس أو استعجال التغيير وانهيار النظام واستبطاء الطريق.
ثم كيف لمعارض أنْ يأمن نظاماً تسلَّط على الأنفس والأعراض فهتك كل معالم القيم واتخذَّ من السفالة منهجه؟! فهل يُعقلُ أنْ يسلِّم لهم عاقل سالفته ويمضي لهم بقدميه؟ اللهم غُفْراً..
والمعارض الذي خسر كل مزاياه وحرم نفسه من المتع والترحال والجلوس لأعزِّ الناس إليه، لايليق به أنْ يرتدَّ؛ فإن الخيل إنْ بلغتْ آخر السَّبَق بذلتْ كل ماعندها لتفوز بالجائزة؛ وماهذه الحياة إلا نزرٌ يسير من الرحلة الطويلة؛ ولهذا فخلوص النية والاستعانة بالله وتفحُّص النية من أسباب الثبات، ومن خلصتْ نيته استمرَّ أُواره وأينعتْ ثمرته، في الدنيا أو هناك..
قبل أن نفرغ يجب أنْ نقول؛ قد اشترى النظام لئاماً همهم التشويه لمعارضة المناداة بإسقاط النظام؛ أنهم يدورون في فلك تلك الدولة أو ذلك النظام، وممن لهم مواقف من كل شيء إلا من الموقف العقائدي الصَّلْب تجاهه فتجدهم يلوِّثون الساحات والمساحات بالعنصرية والقباحات التي هي من أخلاقيات النظام نفسه، فليُتنَّبه لذلك.
أخيرا: القلوب بيد الله وهو يقلبها على الخير وهي تتقلب في سواه، فمن استقوى بفكره وعقله دون الخوف من الحور بعد الكور فتلك رزيَّتُه وبليَّته؛ فليس عن الشظف والصبر والمصابرة والمرابطة من طريق، إلا أنْ يقضي الله أمراً كان مفعولاً وقدراً مقدوراً.
والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون.
*مؤرخ حجازي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق