الأحد، 5 مارس 2023

عقم المعادلة الفلسطينية واضطراب مسارها

 عقم المعادلة الفلسطينية واضطراب مسارها



مضر أبو الهيجاء

عقم المعادلة الفلسطينية واضطراب مسارها.. رؤية تحليلية على طريق التصويب والإصلاح

المدخل:

ميّز الله فلسطين بكونها قلب الأرض المباركة، وبكونها تضمّ أُولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وقد قدّر الله عليها وجود هذا الاحتلال الصهيوني كثمرة للمشروع الصهيوني الغربي الذي جاء مستهدفًا عموم الأُمَّة ودينها لِيُخرِّب ويُدمِّر ويمنع نهضتها.

ومن بركة تلك الأرض هو تلك الدماء الزكية والتضحيات الجليلة التي لم تخل منها فلسطين في كل أوقاتها،

الأمر الذي عزّز فكرة الصمود أمام المحتلّ وحرمانه من الأمن والاستقرار،

كما جعل من فلسطين وشعبها وتضحيات مجاهديها وفدائييها أيقونة ونموذجًا تعتزُّ به الأُمَّة العربية والإسلامية وتتّخذه قدوة لها في مواجهة المحتلّين.

لكن السؤال الذي ينبغي أن نطرحه من باب الأمانة تجاه قضيتنا والمسؤولية تجاه دماء شعبنا هو:

لماذا لم تثمر دماؤنا وتضحياتنا على أرض فلسطين تحريرًا للأرض والانسان رغم عظمتها وعدم توقفها عن مواجهة المحتلّ؟

 الجواب: هناك عناصر عدة أدّت إلى هذا، يهمُّنا منها في هذه الدراسة الموجزة ما يتعلّق بالمعادلة الفلسطينية ذاتها ومسارها، الذي يشهد حالة عقم مستقر، توجب علينا التوقّف والمراجعة والفهم وتصحيح المسار،حتى تنتقل المعادلة الفلسطينية من حالة العقم إلى حالة الفاعلية المثمرة، وحتى لا تذهب دماؤنا ودماء أبنائنا هدرًا دون إنجاز تراكميّ حقيقي يقترب بنا إلى التحرير المنشود.

خلل المناهج واضطراب القيادات:

إنَّ أَهمَّ عنصرين يمكن الإشارة لهما كمرتكزات للمعادلة الفلسطينية هما الدين والأُمَّة، حيث تتجه كلُّ قلوب الموحدين إلى المسجد الأقصى المبارك الذي يُعتبر جزءًا من عقيدة المسلمين، والذي شهد معراج رسول الله صلى الله عليه وسلّم،وفيه صلى جميع الأنبياء والمرسلين، فاكتسب قيمة وشرفا رفيعين ميّزاه بين العالمين.

 كما وترتبط عموم الأُمتين العربية والإسلامية بالقضية الفلسطينية باعتبارها قلبها الجغرافي الذي يجمع بين جناحي أرض الكنانة وأرض الشام، وعليها أقام الغرب الصليبيوالمشروع الصهيوني الكيان الإسرائيليقاعدة لأعماله السياسية والعسكرية التي تستهدف عموم الأُمَّة من طنجة إلى جاكرتا وليست حدودها فلسطين، ولا جاءت لأجل سرقة الزيت والزيتون.

وبالنّظر لعنصري الأُمَّة والدين يمكن الإشارة إلى خلل أصاب منهجيًّا المسار الفلسطيني منذ نشأة منظمة التحرير الفلسطينية وحتى يومنا هذا، وقد كرّس ذلك الخللَ القياداتُ الوطنيةُ الفلسطينيةُ ثُمَّ أعقبتها القياداتُ الإسلاميةُ الفلسطينية ممّا جذّر الانحراف في المسار الفلسطيني إلى الحدّ الذي بلور حالة العقم الحالية والمسؤولة بالكليّة عن تبديد فاعلية الدماء الزكيّة التي تُهرق على الأرض المباركة كلَّ يوم في جنين ونابلس والقدس وعموم الضفة وغزة وحتى أراضي ال 48.

عناوين الخلل المنهجي في المسار الوطني الفلسطيني وقياداته المضطربة:

صورة تاريخية حول تشكّل التيار الوطني في فلسطين:

منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 بعد انعقاد المؤتمر العربي الفلسطيني الأول في القدس، والذي انعقد على إثر قرار مؤتمر القمة العربي في القاهرة في نفس العام، تبنّت منظمة التحرير الفلسطينية مع انطلاقتها منهجًا لا يؤمن بمرجعية الدين ولا يعتبر أحكامه في سياساته بل هو علمانيٌّ صرف،رغم وجودها في بيئة شعبية عامّة تؤمن بأصول وفروع الدين، وقد كان فريقاه اللذان يشكلانه هما حركة التحرير الوطني فتح بقيادة ياسر عرفات، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش، وكان هذا في ظلّ كارثة تولّي جمال عبدالناصر حكم أكبر دولة عربية فاعلة ومؤثرة في عموم دول المنطقة حينها، الأمر الذي نتج عنه تعميم المنهج القومي الاشتراكي الذي استهدف حينها شطب الدين واقتلاع قلوب الموحدين، حيث شهدت على ذلك ساحات مصر والعراق وسورية وتونس والجزائر…إلخ، حيث استُهدِفَ في كل تلك البلاد الإسلام شكلًا ومضمونًا وأتباعًا.

عنوان الخلل الرئيس:

ورغم بروز الصحوة الإسلامية بعد نكسة 67 والتي عرّت المشروع القومي وزعيمه جمال عبدالناصر وبدأت عموم الشعوب العربية تبحث عن هُويتها الإسلامية؛ فانتشر الكتاب الإسلامي وشاع الحجاب الذي كان مستهدفًا وممنوعًافي بعض الدول العربية والإسلامية، كما امتدت مساحات الدعوة لتطال المدارس والجامعات والنقابات حتى فرضت الهُوية الإسلامية نفسها وباتت المطالبات الشعبية – لاسيما لدى النخب الطلابية والمهنية والعلمية- باعتماد مرجعية الدين في المشاريع السياسية، لاسيما مشروع تحرير فلسطين،إلا أن هذا قوبل بالرّفض الكامل بل أعقبه استهداف سياسي وأمني وعسكري لتحطيم أي تشكيل ثوري يتبنَّى الإسلام كمرجعية في أعماله.

لاشكّ بأن هذا الخلل المنهجي الذي أصاب حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية منذ نشأتها كان له الأثر الأقوى في انحراف المسار لعدم اعتباره للدِّين ولا أحكامه في سياساته، وممّا أذكره أن ياسر عرفات جلس في مطلع الستينيات مع عمي الأخ الشقيق لوالدي – الذي كان يقاتل مع الجماعات الثائرة على نهج الشيخ عزالدين القسام انطلاقًا من جنين- طالبًا منه التعاون والعمل المشترك،

فكان سؤال عمِّي لياسر عرفات: هل تتبنَّى الإسلام كمنهج ومرجعية سياسية؟

فردَّ عليه عرفات قائلًا: لا أستطيع؛ فأنا أتبنى المنهج الوطني العلمانيَّ الذي يقاتل فيه المسلم والمسيحي والشيوعي… إلخ. فكان ردُّ عمّي له أن سأعينك على ما تطلبه ولكني لن أقبل بعمل مشترك لا يكون الإسلام رايته ومرجعيته -رحم الله الاثنين وجميع المسلمين-. انتهى

لقد كان من مآلات هذا المنهج الذي لا يُحرِّم ولا يُحلِّل في السياسة أن انتهى بحركة فتح والتيار الوطني بعد ثلاثة عقود من نضالاته وتضحيات أتباعهإلى شريك للعدوِّوالمحتلِّالإسرائيلي في معادلة التنسيق الأمني المخزية في تاريخ القضية الفلسطينية!

توسّع زاوية الخلل:

لقد رفض التيّار الوطني الفلسطيني اعتبار الدِّين كمرجعية لمشروعه التحرُّريِّ، وعلى نهج ياسر عرفات وحركة فتح نسجت كلُّ الحركات الفلسطينية الوطنية، وانتقلت من خطأ إلى ارتكاب خطايا، كان آخرها منعرج وانعطافة اتفاق أوسلو الذي دمَّر كلَّ ما سبقه من أعمال فدائية ودماء، وانتهى إلى كبيرة سياسية فظيعة هي معادلة التنسيق الأمني مع العدوِّ القاتل الذي يمارس القتل على مرأى ومسمع من قوات السلطة الفلسطينية كلَّ يوم في عموم مدن الضفة.

لقد شكل التبرُّؤ من الإسلام كمرجعية تضبط المشروع التحرُّريَّ لدى فصائل التيار الوطني الفلسطيني خللًا منهجيًّا فظيعًا أفضى إلى خلق فجوة عظيمة بين تلك الفصائل وعموم الحالة الشعبية،

لاسيما مع تصاعد حالة الفساد والفجور في التنسيق الأمني الذي بات يشكل سببًا رئيسًا في إهراق دماء المجاهدين والفدائيين الأبطال وحرق قلوب وأكباد أمهاتهم وآبائهم وأبنائهم،

وكأنهم لا ينتمون لهذا الشعب ولا لتلك الأرض!كما نراهم في جنين ونابلس والقدس والخليل وبيت لحم ورام الله وأريحا وعموم المدن والبلدات الفلسطينية في الضفة على وجه الخصوص.

إن قدرة أجهزة السلطة على تحقيق هذا التنسيق الأمني مع اليهود في كلِّ تلك المدن والبلدات والقرى الفلسطينية رغم ضعفها المشهود في كلِّ المناحي يشير إلى أن الهدف الأول والنهائي الذي ينشده الطرف الصهيوني من العلاقة بها والاتفاق معها وتسليحها هو هذا الجانب حصرًا وليس سواه،

وقد رضيت به السلطة وارتضته قياداتها المتنفذة والتي تشكّل أعمدة في الفصائل الوطنية الفلسطينيةفأصبحت ركائز المحتل الملوّثة!

عناوين الخلل المنهجية في المسار الإسلامي الفلسطيني وقياداته المضطربة:

صورة تاريخية حول تشكّل التيار الإسلامي في فلسطين:

تأسست بداياتالتيار الإسلامي في فلسطين التاريخية على يد الشيخ عزِّ الدين القسّام الذي انتقل من مدينة جبلة السورية ليعمل مأذونًا شرعيًّا وخطيبًا في جامع الاستقلال بحيفا– وقد عقد قران أحد عمومتي آنذاك-، حتى استشهد في أحراش يعبد قضاء مدينة جنين عام 1935وهو يقاتل الإنجليز بعد أن بدأوا بنقل اليهود من أوروبا إلى فلسطين،

كما كان آنذاك تيّار إسلامي وطني فلسطيني على رأسه الحاج أمين الحسيني والذي كان يشكّل مزيجًا من المرجعية الوطنية والإسلامية المختلطة، والتي أسسّت فيما بعد لنضوج التيار الوطني الذي حسم خياره لاحقًا في الطلاق مع المرجعية الإسلامية لاسيما وقد استشرت حينها المناهج الشيوعية وحكمت القومية الاشتراكية المعادية للدين معظم دول المنطقة، فنشأ في مواجهتها التيار الإسلامي والذي كانت نواته شُعبة الإخوان المسلمين التي تأسست في غزة عام 1946قادمة من مصر، فيما تشكّل في نفس الوقت في الضفة الغربية وشرق الأردن من خلال الارتباط مع الإخوان في مصر،وجاء متأخرًا تشكيل الحركة الإسلامية في أراضي الخط الأخضر عام 1972على يد الشيخ عبدالله نمر درويش، والذي تصدّعت حركته على إثر قراره بدخول الكنيست الإسرائيلي والمشاركة في العملية السياسية في ظل المحتل عام 1996حيث شكّل الشيخ رائد صلاح التيار الذي حفظ المسار الصحيح من خلال رفضه وتحريمه للمشاركة في العملية السياسية في ظل الاحتلال.

كما لابدَّ من الإشارة في سياق نشوء التيار الإسلامي في فلسطين إلى تشكّل حزب التحرير عام 1953 على يد الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله – ولعلّه الوحيد من مؤسسي التيار الإسلامي في فلسطين الذي لم يكن امتدادًا لحركة قائمة خارجها، ومسقط رأسه قرية أجزم القريبة من قرية أبي الهيجاء على السفوح الغربية لجبل الكرمل-.

وبعيدًا عن الملاحظات الكثيرة التي وُجِّهت للحزب حول بعض مقولاته الفقهية والعقدية إلا أنه كان رافدًا قويًّا من روافد التصوّر الإسلامي الشمولي الذي يستهدف إقامة الخلافة الإسلامية واسترداد الدولة التي غابت شمسها، لكنّه من جهة أخرى يتّصف –كما أرى ذلك شخصيًّا- بفقدان الفاعلية في مشروع التغيير والتحرير الإسلامي؛ نتيجة لخلل منهجي، وهو تبنيه لطلب النّصرة كوسيلة وحيدة وملزمة على طريق التغيير! هذا الأمر الذي لم يراجعه الشيخ النبهاني رحمه الله رغم أنه تُوفي بعد نكسة 67 بعشر سنوات كان الأصل فيها مراجعة تلك النظرية وتصويب ذلك الاجتهاد، ولعل الله يفتح بصيرة أتباعه في استدراك هذا القصور، رحم الله النبهاني وثبّت مريديه وأتباعه ليقوموا بالدور الواجب في استدراك النقص ومعالجة القصور.

تشكّلت حركة المقاومة الإسلامية حماس عام 1987من رحم تنظيم الإخوان المسلمين الفلسطيني في سياق التجاوب مع الواقع الفلسطيني الملتهب، لاسيما بعد اندلاع الانتفاضة الأولى وتشكّل حركة الجهاد الإسلامي التي كان لها السبق بتبنّي العمل الجهادي القتالي على يد مؤسسها –الإخواني الأصل- فتحي الشقاقي رحمه الله، والذي خرج من تنظيم الإخوان المسلمين –بعد أن كان أحد أعضائه-  نتيجة لاختلافه مع قيادة الإخوان –فرع تنظيم غزة- في مشروعية القتال المسلّح معاليهود الغاصبين واعتبارها ذلك غيرَ مشروع آنذاك – كما بيّن ذلك عبدالله أبوعزّة في كتابه-.

وقد كان تجاوب الشعب الفلسطيني في الخارج والداخل كبيرًا وغير مشهودٍ مع حركة حماس باعتبارها حملت الإسلام شعارًا وتبنَّته مرجعية لمشروع التحرير عبر جهاد المحتلِّين، حتى ارتفعت أسهم الحركة بما لا ينافسها أحد من الحركات والفصائل الفلسطينية في الداخل والخارج،كثمرة وتعبير عن تجذُّر الدين في قلوب وعقول عموم الفلسطينيين كما غيرهم من الشعوب العربية والإسلامية، التي أنزلت الحركة وقياداتها منزلة دون الأنبياء بقليل.

أما فيما يخص الجماعات السلفية في سياق نشوء الحركات الإسلامية في فلسطين، فلا يمكن القول إنه تشكّلت حركة أو جماعة سلفية متبلورة ومتماسكة،

ولعلّ ذلك يعود لسببين:

أولهما:

عزوف التيار السلفي في المنطقة خلال عقود طويلة عن ممارسة العمل السياسي، وانكفاؤه على جوانب علمية وشرعية جليلة، وضعفه في إدارة الناس والجماهير والتعامل مع قضايا الشأن العام للناس.

وثانيهما:

تشكّل الحركات السلفية الجهادية في العالم وتصادمها الحادّ والمباشر مع جميع الأطراف والمكونات الدولية والإقليمية والمحلية بدون معقولية تشير إلىإمكانية حصد نتائج؛ بل بالعكس تدمير المكتسبات الإسلامية القائمة والتراجع بالأعمال الإسلاميةإلى أسوأ حالة!

الأمر الذي كشف عن اختراقات أمنية فظيعة في الحركات السلفية الجهادية كالقاعدة وأخواتها، علاوة عن أشكال القصور والخلل في الطرح الإسلامي من حيث فقه الأصول والفروع وهو ما نتج عنه استباحة دماء المسلمين واعتبار قتل المرتدّين –بحسب رؤية إخوة المنهج ومن هم على الجبهات قائمين- أَولى من قتل الكُفَّار والمعتدين والمحتلِّين، حتى باتت تلك الحركات صيدًا ثمينًا لمشاريع الأعداء! كما حصل واستفاد منها الأمريكان المحتلون وملالي إيران الطائفيون في تدمير العراق ومدنه وتجريف أهل السنة وحواضرهم حتى سحق تاريخ المسلمين وانهاء فاعليّتهم في العراق الحديث رغم عظمة تاريخه وأمجاد المسلمين فيه.

 ورغم عدم تشكّل حركة سلفية بالمعنى الحرفي في فلسطين إلَّا أن الاتجاهات السلفية برزت في اتجاهين:

الأول:

شخصيات رائدة وفاعلة في جماعة الإخوان المسلمين؛ سواء في الجانب العلمي؛ كالشيخ عمر سليمان الأشقر –ويعتبر من مؤسسي حماس- أو في الجانب الجهادي كالشيخ الشهيد عبدالله عزام- رحمهما الله وجعلهما في عليين مع النبيين- كما ويوجد في حماس الحالية شخصيات مشايخية ذات توجه سلفي شرعي بارز كما الشيخ صالح الرقب وغيرهم من المشايخ وطلبة العلم الشرعي ممن يسيرون على درب الشيخ الشهيد نزار ريّان رحمه الله كالشيخ رامي الدالي والشيخ محمد الأسطل.

الثاني:

جمعيات سلفية دعوية أسهمت وتسهم بشكل مميز في نشر الدين على وجهه الخالص من الشوائب والبدع والشركيات، كما تشكّل سدًّا منيعًا في مواجهة المشاريع الدخيلة التي تستهدف زعزعة القيم الإسلامية،

وهي تجمع بين العلم والفقه والرؤى الشرعية السياسية وبين الدعوة والإصلاحوالاهتمام بالشأن العام بالقدر الذي تسمح به سلطة حماس في غزة،

لاسيما وقد أبدت حماس درجة عالية من الحسم حين اجتثت حالة سلفية جهادية ارتبطت بالدكتور عبداللطيف موسى في رفح عام 2009،

فاقتلعتها عن بكرة أبيها وقاتلتها وقتلتها في يوم الجمعة وفي مسجد ابن تيمية الذي اعتصمت به، وذلك في مناخ دوليٍّ إقليميٍّ سائد يستهدف الجماعات السلفية الجهادية.

عنوان الخلل الرئيس:

أخذت حركة حماس على عاتقها منذ نشوئها تشويه حركة الجهاد الإسلامي باعتبارها متحالفة مع إيران، وقد وجدت ما يعزز هذا في مثل الكتاب المشؤوم الذي كتبه الأخ فتحي الشقاقي (الخميني الحلّ الإسلامي والبديل) حين كانت الثورة الخمينية حديثة عهد ولم يكن عموم علماء الأُمَّة حينها مدركين لمشروع التشيُّع ودور ملالي إيران، فيما أدرك الشقاقي هذا الأمر نتيجة تجربته التي خاضها لوحده فتبدَّل تصوره حول إيران ووضع خطة لفكِّ العلاقة معها، فكان الثمن أن سلمته إيران للموساد الذي قتله في مالطا عام 1995 على إثر خطوته السياسية في زيارة القذافي واستبدال حلفه معه بديلًا عن إيران، في خطوة على طريق فكِّ العلاقة مع طهران، الأمر الذي لم يُكتب له النجاح.

ورغم هذا الوضوح الشرعي والموقف السياسي السليم لدى قيادة حركة حماس حينهاإلا أنها ولَّت بوجهها نحو طهران حيث شارك الشيخ خليل القوقا عام 1990 –وهو من مؤسسي العمل الإسلامي بغزة، ويعتبر بعد الشيخ أحمد ياسين رحمهما الله- بمؤتمر يوم القدس العالمي الذي أسسه الخميني لابتلاع القضية الفلسطينية ومسح أوساخ المشروع الإيراني المدويّة في كلِّ محيط فلسطين!

فيما افتتحت حركة حماس مكتبًا لها في طهران عام 1991 برئاسة الأخ عماد العلمي رحمه الله، وقد مضى حينها على تأسيس حركة حماس ثلاث سنوات ونيّف، كما زار الشيخ أحمد ياسين رحمه الله إيران عام 1998 وذلك بعد خروجه من السجن الإسرائيلي، علما بأنّ الشيخ الياسين غضب وثار في احدى محاكماته أمام المدّعي العام الاسرائيلي حينما وصفه بخميني فلسطين، فردّ عليه الشيخ غاضبا وقائلا كيف تشبهني بهذا الخميني الكافر.

لقد بدأ الخلل عند حركة حماس منذ اللحظة التي ارتبطت فيها بعلاقة مع إيران–التي تملك مشروعًا سياسيًّا يستهدف المنطقة وشعوبها ودولها، وقد كانت حينها موغلة في قتل العراقيين طيلة ثمان سنوات من الحرب-.

ولاشك بأن هذا الارتباط من حيث المبدأ هو خلل وانحرافٌ منهجيٌّ من خلال ارتباط بعدوٍّ للأُمَّة يمارس الاعتداء والقتل دون توقُّف ويحول بفاعلية عالية دون نهضتها أو استرداد دولتها الغائبة، كما أن مذهبه قائم على محاربة الدِّين والطعن في مقولاته، وقد بدا واضحًا أنه يريد نقل الأُمَّة من دين الإسلام إلى التشيُّع، ورغم ذلك فقد ارتبطت به حركة حماس بعد ثلاث سنوات من تشكُّلها وكانت حينها خارج مرحلة الضرورة -التي ستطرحها لاحقًا كمسوِّغ للعلاقة-، الأمر الذي يشير إلى خللٍ جوهريٍّ لدى حركة حماس منذ البداية وهو استهداف امتلاك سلطة كبديل عن مشروع التحرير الواجب، يشير إلى هذا ارتباطاتها بالدول والأجهزة رغم تناقضاتها المعلنة مع مشروع الدعوة الإسلامي وتجاه حركات التغيير الإسلامي وأُمَّة المسلمين، والعاقل يدرك أنه لا يجتمع مشروع التحرير مع إقامة دولة في ظل محتلٍّ هو المقرِّر الأول والأخير!

 توسع الخلل:

توسَّع الخلل عند حركة حماس من الناحية المنهجية والخطوات السياسية، وقد تجسَّد ذلك في مسارين:

أولهما: قبول حركة حماس باتفاق أوسلو في واقع الحال دون المقال، وذلك حين قبلت بالمشاركة في الانتخابات التشريعية عام 2006،والقائمة في كلِّ تفاصيلها على أرضية اتفاق أوسلو والتي يديرها المحتلُّ اليهوديُّ فيمنع ويسمح ويجيز بحسب إرادته،

كما حصل في رفضه لمشاركة قيادات حماس في انتخابات القدس، ثمَّ وافق بطلب من الأمريكان، فيما يسجِّل حينها رفض حركة فتح للقرار الصهيوني بمنع حماس من المشاركة في القدس في الوقت الذي قبلت فيه الحركة بالمُضيِّ بالمشاركة الانتخابية دون القدس، وهو ما يشير إلى تشوُّف مبكر وشبق مسيطر على قيادة الحركة في الدخول في السلطة التي بنتها ومنحها الكيان الصهيوني للطرفين!

ثانيهما: تعميق العلاقة والارتباط بإيران والحرس الثوري وفيلق القدس، لاسيَّما بعد هيمنة حماس على قطاع غزة وتولِّي شؤونها الإدارية،

فيما أوقعها بحالة الضرورة والحاجة المالية الملحَّة لإدارة شؤون غزة واستمرار حكمها في ظل حصار كبير مخطط له مِنْ قِبَلِ مَنْ منحها سلطانها في القطاع،

وقد وقعت الحركة في إثم مريع حينما انحازت للعلاقة بإيران ومكوناتها السياسية كحزب الله اللبناني أو النظام السوري اللذين أمعنا في قتل وتهجير السوريين ومن قبلهم العراقيين في مجازر وتهجير لم يُشهدْ مثلُه في العصر الحديث.

وحيث كانت قيادة الحركة في بداية ارتباطها بإيران تتحدَّث بحرج واستحياء كبيرين، وتُبرز تبرؤها من الشيعة والتشيُّع وتُحذِّر منه عبر دعاتها ومشايخها، فقد آلت إلى وضع تفتخر فيه بأن الغرفة العسكرية في غزة مشتركة مع الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني!

كما استمرأت قيادتها الحالية ومنذ عام 2018 التعبير عن عمق العلاقة مع إيران وملاليها ومكوناتها،

معبرة عن هذا الموقف في كلِّ مناسبة عزاء أو احتفال بشكل فجٍّ– متجاوزة نُصح العلماء المُحبِّين- وهو ما زاد في جروح الأُمَّة لهيبًا!

لقد وقعت حركة حماس في خللٍ منهجيٍّ منذ أن ارتبطت بإيران ثمَّ انحازت لها وأوغلت في مديحها والترويج لها وهي من مكَّن لإيران من التربُّع على عرش المقاومة رغم أنف الفلسطينيين والمجاهدين،

في الوقت الذي لم تتوقَّف فيه إيران وميليشياتها عن احتلال الدول العربية وتفتيت شعوبها طائفيًّا وقتل المُوحِّدين كما في اليمن والشام والعراق بأبشع الأساليب وأقسى أشكال القتل،

وقد أثمر هذا صناعة فجوة حقيقية وكبيرة بين عموم الأُمَّة وحركة حماس والجهاد اللتين تمثلان الإطار الإسلامي وترسمان إيقاع مساره السياسي والجهادي في فلسطين،

ويمكن القول: إن التيار الوطني الفلسطيني وقع في التصادم مع شعب الأرض المباركة، فيما وقعت حركة حماس في التصادم مع عموم شعوب الأُمَّة العربية والمسلمة.

وقد وقعت حركة حماس في خللٍ منهجيٍّ حين قبلت بخطوة سياسية مُحرَّمة، وهي قبولها بالمشاركة السياسية في ظلِّ الاحتلال مخالفة موقفها التاريخي ومتناقضة مع المواقف السليمة في الساحة والتي مثَّل رأسَها الشيخ رائد صلاح،

وقد سارت هنا حماس على المذهب الذي خطَّه ياسر عرفات عبر اتفاق أوسلو، بل بات السقف السياسي الأعلى لمطالب قيادة حماس الحالية من الإسرائيليين هو الطرح الأدنى الذي طرحه ياسر عرفات كأُفق سياسي تتبنَّاه، وقد عبَّر عن هذا يحيى السنوار في تصريحات ومقابلات واضحة في غزَّة، كما عبر عنه الشيخ حسن يوسف في الضفَّة.

سقوط رائدي التيار الوطني والإسلامي الفلسطيني في الفخّ الإسرائيلي في الضفة وغزة:

قدم الاحتلال الصهيوني للفلسطينيين جزرة بعد أن قسَّمها نصفين، واحدة أطعمها لحركة فتح في الضفة، والأخرى قدمها لحركة حماس في غزة،

فحوَّلهما إلى فريقين يخدمان تصوُّره في إدارة الصراع من خلال مفهوم السلطة الذي بلوره سابقًا مع شركائه الأمريكان لإغراق الفلسطينيين فيه، وقد سقط الطرفان فعلًا!

فقد تحوَّلت حركة فتح عماد السلطة الوطنية في الضفة إلى شرطي يحمل عصا المحتلِّ ومنظاره الذي يراقب به كلَّ شيء فيصطاد فريسته بأدنى التكاليف ليُجهض أي تشكُّل بنيوي لحركة ثورية يمكن أن تقود الضفَّة بعد أن اكتشفت جوهر السلطة وفساد رموزها وردَّتها الثورية.

كما أسهم المحتلُّ بتسليم السلطة في غزَّة لحركة حماس ضمن تصوُّره القديم، حيث كان يعتبر شارون اللعين قطاع غزَّة مكانًا للإرهابين ويُطلق عليه مصطلح مزبلة فلسطين،

إذ لا يدخل ضمن يهودا ولا السامرة ممَّا جعل الكيان الصهيوني في عدة وقائع سابقة تعرض قطاع غزة على السادات وحسني مبارك والملك حسين، الذين لم يقبل منهم أحد تولِّي تركة ثقيلة يجب على الاحتلال أن يتحمَّل تكاليفها نتيجة لاحتلاله،

حتى جاءت حركة حماس وقبلت -نتيجة قصور فهمها السياسي- بحصر المشروع الإسلامي في غزة متوهمة أنها قد حرَّرتها،

وتخلَّت -نتيجة الانجرار للاقتتال عام 2007- عن الضفة التي طهرها محمود عباس والإسرائيليون من المكون الإسلامي التغييري الفاعل ومؤسساته، وهو ما كان يتطلع إليه المحتلُّ فدبّر طعم غزة وابتلعه وغرق فيه الاسلاميون.

ومن المفيد الإشارة إلى أن (تحرير غزَّة) جاء بسبب التقاءإرادتين هما،إرادة الشعب الفلسطيني وجهاده البطولي وعملياته وتضحياته الجليلة،

وإرادة الطرف الصهيوني الذي يريد التخلُّص من غزَّة وحصر المشروع الإسلامي فيها وإخضاعه لتحالفات خاطئة نتيجة رغبته في استمرار إدارة القطاع المرهق في إدارته للاحتلال،

والذي نجح بالتخلص من عبئه وبات يتعامل مع غزَّة اليوم وفق معادلته في التعامل مع إيران،إذ يستفيد من قوامها ومشروعها في اتجاهٍ ويضربها في اتجاهٍ آخر!

ولتبيين تلك المعادلة يمكن القول إن إيران ومشروعها وإمكانياتها شكَّلت خدمة تاريخية للغرب وإسرائيل بتفتيت المنطقة وتمزيق شعوبها،

فيما يقوم الكيان الصهيوني بضرب إيران في زوايا جزئية لتمنعها من الخروج عن تصوُّرها، وكذلك فقد سمح الكيان الصهيوني لحركة حماس الدخول في الانتخابات التشريعية عام 2006 وتولي السلطة عام 2007

ثمَّ الاستفراد بحكم القطاع ليتصدَّع المجتمع الفلسطيني إلى فريقين،وليتقزَّم المشروع الإسلامي المؤثر في عموم المنطقة العربية وتحرف بوصلته من هدف التحرير إلى الوقوع في مفهوم السلطة، والتي باتت أولوية حماس المحافظة عليها حتى وإن كانت سلطة مخصية وموهومة،

وكذلك لتدفع حركة حماس إلى مزيد من الارتماء في حضن إيران-عدوِّالأُمَّة- طلبًا للمال لأجل المحافظة على سلطتها في غزَّة، مما يُشكِّل فجوة تتَّسع كلَّ يوم بين قيادة المشروع الإسلامي في فلسطين وعموم شعوب الأُمَّة وخصوص شعوب دول الطوق المكلومة من إيران،

وها نحن اليوم نرى المحتلَّ اليهوديَّ يقتل شبابنا في جنين ونابلس بالعشرات دونما تَحرُّك عربي ولا تعاطف شعبيٍّ يمكن مقارنته بالتعاطف والتحرك المخيف الذي هزّ عروش دول الطوق في سنوات التسعينيات وحتى عام 2010.

وبالمحصلة فإن أداء التيار الوطني والإسلامي الفلسطيني خدما مشروع المحتل الصهيوني بقصد وبدون قصد، وذلك حين انتهى كلٌّ منهما إلى الصورة التي يريدها المحتل والقادر على معالجة أي إيقاع مخالف يصدر عنهما،

وكما بلور مع ياسر عرفات اتفاق غزة أريحا أولا، فإنه قد وضع حماس في معادلة غزة أولا وأخيرا، فهاهو يُحرِّك جهاز المخابرات المصرية حين يزعجه إيقاع مرتفع لتقوم حماس بضبط غزَّة، وها هو المحتل ينقل بيديه الأموال القطرية إلى غزَّة حينما تشتدُّ أزمة قيادتها في إدارتها ليقوم بتنفيس جزئيٍّ، ثمَّ لا يتردَّد في إهداء قيادتها عشرات آلاف تصاريح العمل في مدن الداخل لعمَّال القطاع كلَّما أثبتت قيادتها ضبطًا للأوضاع وفق مقياس ريختر الإسرائيلي!

عرين الأسود وكتيبة جنين:

تشكَّلت كتيبة جنين وعرين الأُسود ما بين عامي 2021 و2022 وذلك في سياق الردِّ على الاعتداءات اليهودية على المسجد الأقصى وتحقق التقسيم الزماني لأول مرة فيه –بعد تهديدات ووعود خطابية رنّانة أطلقها السنوار من غزة- ودفاعًا عن أسرى نفق الحرية وكذلك ردًّا على الاعتداءات المتكررة على أراضي مدن الضفَّة وأهلها.

وقد شكَّلت تلك الحالات المقاتلة نموذجًا نوعيًّا ومتقدمًا، تجاوز احتراب الفصائل الفلسطينية، وخرق سكون الضفة الغربية الواقعة تحت الاحتلال الصهيوني ومعادلة التنسيق الأمني من قبل السلطة، حتى بدأت تقدِّم الشهداء الذين أبدوا مثالًا رائعًا وبطوليًّا في التصدي للمحتل ومواجهته الشرسة رغم غياب التكافؤ في العدد والعُدَّة، ورغم وجود التنسيق الأمني الأشدِّإيلامًا من اعتداءات اليهود الغاصبين.

لكنَّ هذه الدماءَ الزكية التي روت -منذ عقود- ولا تزال أرضنا المباركة لم تُحقق تحريرًا ولو جزئيًّا لفلسطين، كما لم تُسهم في تصحيح المسار الفلسطيني الوطني والإسلامي!فأين يكمن القصور في هذا الحراك البطولي وتلك الأطر المتواضعة؟

لاشك بأن أي عمل قتالي يستهدف تحقيق ثمرات سياسية، وحتى يتحقق هذا لابدَّ من أن تتوفر لهرؤية منهجية تضبط إيقاع الأعمال، كما لابد أن تتشكل له قيادة قادرة على صياغة خطة تؤلم الخصم دون أن تستنفد رصيد الدماء في غير الاتجاه المثمر، كما لابدَّ أن يسهم في تسديد الاعوجاج لدى الحركات القائمة لا أن يسمح لها بالاختراق لمجرَّد كسب أسهم فصائلية وتموضع أكثر مركزية في مواجهة الأنداد، أو لأجل حيازة عطاءات مالية إيرانية إضافية مع كل عملية يرفع فيها اللون الأخضر أو الأسود أو الأصفر!

إن تحرير فلسطين لم يتحقق تاريخيًّا، كما لن يتحقَّقَ حاضرًا أو مستقبلًا من داخلها، بل إن محيط فلسطين وشعوب الأُمَّة هي المعوَّل عليها -بعد الله عزَّ وجلَّ-في إنجاز التحرير، الأمر الذي يرسم تصوُّرًا للأعمال الجهادية يضبط إيقاعها بتحقيق الأهدافالثلاثة المرجوة مستفيدًا من دمائها الزكية،

وهذه الأهداف الثلاثة هي:

أولاً:

عدم الاعتراف بشرعية العدو، والصمود في وجهه، وقلقلته وإرباك مشاريعه؛ من خلال استهدافه الدائم.

ثانيًا:

تحريض شعوب الأُمَّة على القيام بدورها تجاه الأقصى الذي يخصُّجميع المسلمين، واقتلاع المشروع الصهيوني الذي يستهدف عموم الأُمَّة دولاً وشعوبًا، وهو ما يعرّي تلقائيا حكّام المنطقة المتآمرين والمطبّعين.

ثالثًا:

تصويب المسار السياسي الفلسطيني الوطني والإسلامي، وذلك بتفكيك وخلخلة معادلة التنسيق الأمني مع الإسرائيليين، وفكِّ العلاقة والحلف مع ملالي إيران عدوِّالأُمَّة المسلمةالذي يُشكِّل فتكًا بدول المنطقة وشعوبها يتجاوز بأضعاف المرَّات أشكال الاحتلال الإسرائيلي وممارساته البشعة وتغييره لديمغرافيا المنطقة.

إن الحالة الجماهيرية الرائعة التي تعقب سيل الشهداء وأعمالهم البطولية الفريدة كما حصل في عموم مدن الضفة والقدس مؤخرًا تُشكِّل فرصة يمكن المراكمة عليها وتوجيهها لئلَّا تكون حالة عاطفية عابرة تنتهي بعد أيام معدودات دون إحداث مراجعة منهجية وخلخلة في المواقف السياسية الخاطئة،والتي أصبحت فولاذية سواء كارتباط التيار الوطني بالعدوِّ الصهيوني من خلال معادلة التنسيق الأمني،أو بارتباط هرم التيار الإسلامي الفلسطيني المتمثل بحركتي حماس والجهاد بالعدوِّ الإيراني من خلال حلفٍ تامٍّ وانحيازٍ كاملٍ لمحور الشرِّ وبلا استحياء ولا تورُّع أفضى إلىفجور قيادة حماس الحالية وعودتها لحضن فرعون الشام وجزَّارها،وإضفاء صفة شرعية على تلك الخطوة التي حرَّمها العلماء المعتبرون، فحشدت في مقابلها قيادة الحركة دعاة التنظيم لتبقى في أعين تابعيها ممثلة للتيار الإسلامي ووفيَّة لأحكامه! غافلة عن أن الله لا يُصلح عمل المفسدين، وأن هذا التحايل على الله والأُمَّة -الذي لم ترتكبه حركة فتح الوطنية العلمانية رغم جرم أخطائها- سيفضي إلى استبدال قريب بعد سوء وجه!

وخلاصة القول في عرين الأسود وكتيبة جنين وأخواتها أو حتى الحالات الفردية، فإنها جميعًا تشهد بحيوية الشعب الفلسطيني وعدم نجاح قيادات الفصائل الفلسطينية الحالية بجرِّه إلى مستنقع العلاقة مع الإسرائيليين أو إثم التحالف مع الملالي الإيرانيين وذيولهم الفاعلة في تدمير كلِّ محيط فلسطين كحزب اللات اللبناني وجزار الشام والقتلة الحوثيين، أو حتى حالة الاحتراب الداخلي القميء والتي تمارسها جميع الفصائل الوطنية والإسلامية على حدٍّ سواء حتى في ساحات المسجد الأقصى المبارك رغم نزيف الدماء!

إن إيقاع العمل الحالي لعرين الأسود وكتيبة جنين لا يكفي لتغيير المسار الفلسطيني إذا لم تُستثمر التضحيات البطولية والدماء الزكية باتجاه هدف متماسك وهو تصويب منهجي وبناء سوية قيادية،ودون الغرق في حلم التحرير الواجب إدراكًا لدورنا الجوهري في المرحلة الحالية بتحريض المؤمنين وتصحيح المعادلة الفلسطينية ومسارها، حتى تتصحح أوضاع الأُمَّة ويأذن الله بتحقيق وعده الذي لا يشك به مؤمن، يقول سبحانه وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

دور العلماء والدعاة والحركات والروابط الإسلامية بين الوجوب والسلبية والإيجابية:

من نافلة القول إن العلماء هم ورثة الأنبياء في تسديد البوصلة وهداية الخلق، وذلك بتبيين الحقِّ والهُدى للنّاس دون مواربات ولا حسابات ضيِّقة ولا عصبية لحركة أو حزب أو قوم،فدين الله أمانة وهو المُقدَّس.

وقد برز دور العلماء والحركات والروابط الإسلامية الطيب والواجب بتوجيه الأُمَّة وشعوبها تجاه قضية الأقصى المبارك وعموم المسألة الفلسطينية، واعتبار مناصرتها ودعمها واجبًا على المسلمين حيث كانوا بكلِّ الوسائل الممكنة لاسيما سدّ حاجات المرابطين على الأرض المباركة.

ولكن من جهة أخرى فقد بدا دور العلماء والحركات والروابط سلبيًّا – إلَّا مَن رحم الله- حيث غابت فاعلية التأثير لكلِّ من سبق في تصحيح المسار الفلسطيني لاسيّما في الإطار الإسلامي، الذي مضت قيادته الحالية في الاتجاه الذي تراه غير عابئة بأقوال وفتاوى العلماء، موجدة في أحضانها كوكبة من دعاة التنظيم وأكاديمييها لحلِّ أي معضلة والردِّ على أيشبهة شرعية بحسب رؤيةومقاييس وإرادة القيادة، وليس انطلاقًا متجردًا يتحرّى أحكام الدين، ولا انحيازًا حقيقيًّا لعموم الأُمَّة ومصالحها الراجحة، ودون اعتبار لآلام الأُمَّة وجراحها ونكباتها وانعكاس ذلك عليها!

ومعَ كلِّ الاحترام والاعتبار والإجلال للعلماء وروابطهم،ومع وجوب إحسان الظنِّ بهم،إلَّا أنه من غير المقبول ولا المعوَّل عليه أن تنحصر تفاعلاتهم بنوع من التأييد والمناصرة العامة، والتعبير عن الفرح بالدعاء والدموع على إثر كلِّ عملية بطولية ونيل من الغاصبين سواء ارتبط العمل بفصيل وطني أو إسلامي!

ليس تقليلاً من تلك المشاعر الصادقة وهذا التفاعل الفطري الذي يطال العامَّة كما العلماء، ولكن للعلماء وأطرهم دور مختلف لا يجيده غيرهم، فلماذا غابت فاعليتهم في التسديد والتغيير في قضية هي من أشرف وأهم قضايا الأُمَّة وتنعكس على جميع قضاياهم في أقطارهم المحلية بشكل مباشر وغير مباشر؟!

خلل منهجي في التصور والتعامل لدى كثير من الروابط والحركات والعلماء:

نجحت قيادة حماس –بأسلوب فيه تطفيف- برسم صورة غير صحيحة حول المجتمع الفلسطيني الثائر بمختلف مكوناته، حيث صوَّرت للخارج –ومن ضمنهم العلماء- أن التيار الإسلامي الفلسطيني وأتباعه ملائكة وقامات مضحية، فيما التيار الوطني الفلسطيني وأتباعه شياطين وعملاء وخونة!

وقد وصفت قيادة حماس محمد دحلان على أنه خائن وعميل كبير –وهذا صحيح- إلا أنها مدَّت له يديها عبر قنواتها السفلية واقتربت منه في أكثر من واقعة بهدف التحالف معه في غزَّة، كما روَّجت الحركة أن محمود عبَّاس بهائيُّ الطائفة –دونما أي دليل تقدِّمه لتبيين الصورة الحقيقية – إلَّا أن قيادة الحركة السابقة والحالية اعتبرته الرئيس الشرعي وخطبت ودَّه في كثير من الأحيان!

وقِس على ذلك كثيرًا من الوقائع التي تُحكى تحت الطاولة–لاسيما في عام 2007 حين التفرد بحكم غزَّة- حتى يرتسم في ذهن الخارج –ومن بينهم العلماء الأجلاء- صورة مطففة تصنع فجوة حقيقية في وعي العلماءوتنعكس على جزء كبير من نشطاء الشعب الفلسطيني المنتمي للفصائل وغير المنتمي على حدٍّ سواء، ويبقى أثر العلماء محصورًا في خطاب متفاعل يداعب مشاعر المنتمين للحركة –وهم لاريب من الصالحين- دون سواهم والذين بنت حماس بينهم وبين العلماء فجوات!

إن هذا التطفيف المسؤول أمام الله قاد إلى الخديعة والجرم الذي حرم جزءا مهمًّا وفاعلاً من أبناء الشعب الفلسطيني وثوَّاره–المنتمين وغير المنتمين للحركات والفصائل- من التفاعل مع خطاب وتوجيه العلماء الكرام وروابطهم وحركاتهم التي ارتسمت بختم ماركة مسجلة لحركة المقاومة الإسلامية حماس!

ومن المفيد الإشارةإلى أن ظاهرة كتيبة جنين –ومخيم جنين على وجه التحديد ومنذ سنوات- وعرين الأُسود في نابلس جبل النار كشفتا عن نسيج فلسطينيٍّ ثوريٍّ في عموم المدن الفلسطينية لا ينسجم مع التصوُّر الذي بنته بعض قيادات حماس فيوعي كثير من الناس –زُورًا-بحيث يقسم الفلسطينيين إلىشياطين وملائكة!

نافذة حماس ومأزق العلماء والروابط والحركات العاملة في الشأن العام:

لاشك بأن المرجعية الإسلامية التي تتبنَّاها جميع الحركات الإسلامية كحركة الإخوان المسلمين والحركات السلفية وحزب التحرير والجماعة الإسلامية في العموم هي نقطة إيجابية وركيزة مهمة تفتقدها الحركات والتيَّار الوطني في فلسطين كما في غيرها،إلَّا أن ادِّعاء المرجعية الإسلامية لا يكفي لمنح القيادات السياسية شيكًا مفتوحًا إلا عند السذج والغافلين أو المنتفعين غير المخلصين لأصل القضية!

وقد بدا من قيادات العمل الإسلامي في عموم المنطقة كوارث شرعية وأخلاقية وسياسية لا تقلُّ عن أخطاء القيادات الوطنية والعلمانية فظاعة وأذى، فاذا كانت قيادة التيار الوطني العلماني الفلسطيني الفاشلة والخائبة قد انتهت إلى معادلة التنسيق الأمني مع المحتل الصهيوني المعادي للأُمَّة ودينها وشعوبها، فقد انتهت قيادة التيار الإسلامي الفلسطيني إلى حلفٍ فولاذيٍّ مع أشرس أعداء الأُمَّة في القرنين الأخيرين والذي أحدث قتلاً لشعوب المنطقة وتفتيتًا لدولها وطعنًا في مقدَّساتها ودينها وتحالف مع الأمريكان ليتمكَّن من احتلال العراق وسورية واليمن ولبنان.

إنه ملالي إيران الذين لا تتوقف ولا تتردَّد قيادة حماس عن مديحهم والإشادة بهم حتى في أقسى فترات نزيف الشعوب العربيةوالمسلمة في العراق واليمن والشام، ولم تكتف بهذا بل عادت لدمشق بعد أن شهدت نهر الدماء النازفة على أرض الشام ووعيت الحقائق وعاينت ثورات الربيع العربي فاتخذت موقفًا صحيحًا ثمَّارتدَّت سياسيًّا بالعودة لحضن جزار الشام دون اعتبار لواقع شعوب الأُمَّة ولا لأرجح أقوال العلماء!

إن القيادة السياسية الحالية لحركة حماس- والمعتبرة لدى العلماء والروابط الإسلامية؛ استنادًا إلى مرجعيتها الإسلامية العامة- هي أسُّ المشكلة وجزءٌ منها ولن تكون جزءًا من الحلِّ عند الواعين والعقلاء، فلماذا تستمرُّ المراهنة عليها وحصر التفاعل والاضطلاع بالدور الواجب نحو فلسطين من خلال نافذة حركة حماس وقياداتها؟!!!

يجب على العلماء والدعاة والروابط والحركات المعنية بالشأن الفلسطيني باعتباره الإسلامي أن تتناول المشهد الفلسطيني وتتعامل معه خارج نافذة حركة المقاومة الإسلامية حماس،-لاسيّما وقيادتها الحالية قد فارقت العلماء وشعوب الأُمَّة في تحالفاتها وخطواتها السياسية الأخيرة؛حيث حسمت حلفها مع ملالي إيران وسفَّاح الشام-، الأمر الذي يفضي إلى تفاعل واسع وعريض مع مكونات الساحة الفلسطينية وعموم الشعب الفلسطيني وهو الأصل، كما لا يجوز في حقِّ العلماء التراجع عن هذا الدور نتيجة للخوف من التشهير الذي قد تمارسه بعض القيادات كما هو مشهود في الحركات الإسلامية، ولا يجوز أيضًا أن تكون الحسابات الشخصية الضيّقةأو الانتماءات الحزبية سببًا في خفوت صوت الحقِّ وضعف الموقف المطلوب في النصح والتوجيه في المساحة العريضة وهو  الواجب والأصل.

إن أبناء الشعب الفلسطيني في عمومه وخصوص قياداته الصادقة التي تروم الاصلاح في التيارين الوطني والاسلامي يحتاجون لرؤية وبصيرة العلماء والهدى الذي حباهم الله به -بحيث تشكّل مادته ومضمونه تصورًا مختلفًا ومتميزًّا عن التصور السائد والتقليدي المطروح في المسألة الفلسطينية- من أمثال السادة العلماء والمعاصرينكالشيخ محمد الحسن الددو، والشيخ أسامة الرفاعي، والشيخ رائد صلاح، والشيخ محمد يسري، والشيخ مثنى حارث الضاري، والشيخ عبدالحي يوسف، والشيخ وصفي عاشور أبوزيد،والشيخ عبد العزيز مصطفى، والشيخ عطية عدلان، والشيخ أحمد حوّى، والشيخ محمد العبدة،والشيخ محمد عبدالكريموالشيخ هشام برغش والمفكّر حمزة تركمان والشيخ رضوان كايا، والشيخ محمد المرواني وكثير من العلماء والمفكرين والعاملين في قضايا الأُمَّة

والدين الذين لا تصل رؤاهم لعموم الشعب الفلسطيني مادام بقيت نافذتهم لفلسطين هي حركة حماس التي آل حالها إلى صورة حركة فتح -على الأقل من الناحية السياسية- والتعاطي المختل مع الدول والمشاريع في منطقتنا الملتهبة،

بل إن سقف المطالب السياسية عند القيادة الحالية لحركة حماس –والذي عبَّر عنه بنعومة يحيى السنوار بغزَّة وعبَّر عنه باستجداء الشيخ حسن يوسف في الضفَّة- هو الحدُّ الأدنى الذي كان يطالب به ياسر عرفات بقوة!

الزلزال المطلوب في فلسطين:

تمكَّن الخلل من المعادلة الفلسطينية حتى حرف مسارها تمامًا من خلال تَجذُّر مواقف وسياسات ومقولات ومناهج ورؤى خاطئة، ومن خلال استفراد قيادات غير سوية –على الأقل في عقولها وتفكيرها- في مفاصل الساحة الفلسطينية، حتى باتت قيادة حركة فتح التي تؤمن بالتنسيق مع العدوِّ هي المتربعة على عرش المسار الوطني في فلسطين والناطقة باسمه،

كما أصبحت القيادة الحمساوية التي تؤمن بالحلف مع أعداء الأُمَّة والدِّين هي المتربعة على عرش المسار الإسلامي والنافذة الوحيدة للعلماء وللإسلاميين خارج فلسطين نحو الشأن الفلسطيني!

إن هذه الصورة الكئيبة باتت فولاذية إلى الحدِّ الذي لم تثمر فيه كلُّ التضحيات الأخيرة  والدماء الزكية في القدس وجنين ونابلس بزحزحة معادلة التنسيق الأمني التي تديرها حركة فتح الوطنية،

كما أن كلَّ التضحيات والدماء والتهجير وهدم المساجد واغتصاب المؤمنات الذي أقدم عليه سفاح الشام وملالي إيران وميليشياتها في لبنان وسوريا واليمن والعراق لم تثمر خلخلة في موقف قيادة حماسالإسلامية وحلفها مع العدو الإيراني ومحوره الذي يضم ذيوله في المنطقة،بل زادت الجروح تقرُّحًا عندما ارتمت مجدَّدا ومؤخَّرًا في أحضان جزار الشام واعتذرت عن مواقفها السابقة لتطوي الصفحة المضيئة لها في ثورة الشام المباركة!

وحتى يحين موعد ذلك الزلزال الذي يُغيِّر ويُبدِّل ويَخلق وقائع جديدة فإننا مطالبون كأفراد وجماعات وحركات وعلماء ودعاة أن نعمل بجِدٍّ وننصح بصدق بعد مراجعة واعية،

لا تغلق عقولها وتتعامى أبصارها وتصدُّ قلوبها عن وقائع مخلَّة باتت تحكم المسار الفلسطيني في طرفيه الوطني والإسلامي.

إن هذا الحال يلزمنا بإعادة النَّظر في المقولات والعلاقات وطبيعة الخطاب ومساحة جمهوره، كما يلزمنا بتوجيه النقد النّاصع والناصح للقيادات التي خرجت عن الطريق لعلَّ الله يصلح حالها،

ولكن في نفس الوقت فإنه لا مناص للجادِّين من استهداف صناعة بنية قيادية غير الممسكة بالأمور والمتربعة حاليًا على عرش التيار الفلسطيني الوطني والإسلامي،

حيث باتت ملوَّثة في أفهامها ومناهجها، ومختلَّة في مواقفها السياسية،

وخاضعة في علاقاتها وتحالفاتها الرسمية، وإن نجا بعضها نتيجة النصح وحاول تصحيح المسار فإن غالب المتنفذين فيها لن يتوقفوا عن انحرافهم حتى يصطدموا ويصدموا الأُمَّةجميعها معهم في الجدار!

في العراق الصعب تكمن صورة الحلِّ:

من نافة القول إن العقد الأخير قد شهدت فيه دول الطوق وعدة بلدان عربية عذابات جمعت أضعاف ما عشناه في فلسطين جراء الاحتلال الإنجليزي ثمَّ اليهودي،

فقد قتل من المصريين واليمنيين والليبيين والسوريين والعراقيين أضعاف ما قتل على أرض فلسطين منذ عهد الفتح الإسلامي وحتى اليوم،

الأمر الذي يسقط مقولة البعض: دعونا وشأننا نقرر ما نراه فنحن أهل الميدان والمعاناة الفريدة وأكثر شعوب الأُمَّة المكلومين!

نعم لا نستخفُّ بمعاناتنا التي عاشاها آباؤنا في فلسطين، ونعيشها نحن اليوم وأبناؤنا وأحفادنا بشكل متواصل من القهر والتهجير وسرقة الأرض، ولكنَّه بات حال عموم المنطقة وخصوصًامصر والعراق واليمن وأرض الشام!

ولعلَّ العراق أكثر من دفع فاتورة في تاريخه المعاصر نتيجة انحيازه للقضية الفلسطينية، فمنذ النكبة الفلسطينية عام 1948 لم يقاتل بشكل حقيقي على أرض فلسطين من خارجها أحد كما قاتلت كتائب الإخوان المسلمين المصرية التي أرسلها الشيخ الشهيد حسن البنا رحمه الله،

وكما قاتل الجيش العراقي الباسل واسألوا عنه مدينة جنين، كما أن العراق دفع ولا يزال يدفع ثمنًا باهظًا منذ خمسة عقود نتيجة انحيازه لفلسطين وتشكيله قوة عسكرية قادرة على تغيير الموازين،

ولذلك فقد استهدفه ثلاثيُّ الشرِّإسرائيل وأمريكا والملالي الإيرانيين في حروب واحتلالات وقتل وتشريد وحرق لم تشهد مثيله عموم المنطقة العربية منذ زوال دولة الخلافة العثمانية.

لقد شكّلت التحديات التي خضع لها العراق والعراقيون زوايا المثلث التي تطعن في الجسد من كلِّ جوانبه:

الزاوية الأولى:

فقد احتلَّ الأمريكيون العراق وفي نفس الفترة احتلت إيرانوميليشياتها وحشدها الشعبي العراق ودمّرت مدنه وغيرت ديموغرافيته وهجَّرت أهله،وذلك كلُّه بالاتفاق مع الإدارة الأمريكية قبل سقوط بغداد عام 2003،وانكشف هذا الوجه القبيح للاحتلالين حينما سلَّم الحاكم العسكري الأمريكي بريمر مقاليد الحكم في العراق لأولياء ملالي إيرانمن العراقيين.

الزاوية الثانية:

فقد شكَّلت الفسيفساء المذهبية في العراق تحديًّا كبيرًا وخطرًا؛ إذ ينقسم الشعب العراقي إلى سُنَّة وشيعة متعايشين منذ القدم ضمن عقد سياسي ثقافي وطني بدهي حتى حلَّت الطائفية كبديل عنه، وذلك بعد أن صُنعت بإرادة المحتلِّ الأمريكي والإيراني–المتخادمين بعمق- لتشكِّل آلة حادة تمزق العراق وتنحر العراقيين.

الزاوية الثالثة:

وهي قدر الجغرافيا العراقية أن تكون ملاصقة لبلاد فارس التي تملك من القوة والضخامة والإمكانيات ما جعلت من إيران–بعد الثورة الخمينية- خنجرًا يطعن في خاصرة العراق والعراقيين أبد الدَّهر لا يمكن استبعاده.

وإذا ما قارنَّا الحالة الفلسطينية بالعراقية نجد أن الحالة العراقية شديدة التعقيد والخطورة والحساسية، بينما تتصف الحالة الفلسطينية بصورة أبسط وأقل تعقيدًا بغض النظر عن حجم الاعتداء وعمر الاحتلال وممارسته الشنيعة فيها، حيث تتلخَّص في عدوٍّ صهيونيٍّ يهوديٍّ تمَّ نقله من بعيد ليحلَّ على أرض عربية يقطنها شعب واحد منسجم في دينه ومذهبه وثقافته في عمومه، ولأن المعادلة الفلسطينية –مهما اشتدت نيرانها- واضحة وغير معقدة فإن جميع الشعوب العربية والإسلامية والفرق والمذاهب والأحزاب المختلفة تتفق حول المسألة الفلسطينية ومفهوم الصراع القائم فيها تجاه اليهود الصهاينة.

هذا العراق العظيم الذي واجه ولا يزال تحدياتهالثلاث وهي من الحجم الثقيل، وُجِدَ فيه فكرٌ ومنهجٌ وقياداتٌوعلماءُلم يضلُّوا الطريق ولم يتراجعوا تحت وطأة القتل والتهجير والسجن والحصار والتضييق إلى الصورة السيئة والحال الذي وصلنا إليه في فلسطين كمشروع تَحرُّري ومواقف سياسية لدى الوطنيين والإسلاميين على حدٍّ سواء.

وقد خطَّ الشيخ الدكتور حارث الضاري –رحمه الله- مسارًا فريدًا في الحالة العراقية -شديدة التداخل والتعقيد- ومع تعمُّق تلك التجربة في الطروحات في كلِّ جانب فقد شكَّلت منهجًا واضحًا قويمًا متماسكًا هو المفقود اليوم وما نحتاجه في فلسطين التي ضلَّت أحزابها السياسية الطريق حتى خرجت عن سكة التحرير المنشود!

ولعلَّ وجه التشابه الكبير بين الحالة الفلسطينية والعراقية تكمن في وجود محتلٍّ غاصب يستهدف الأرض والإنسان، أمَّا الفَرق فحدِّث ولا حرج حيث تستفحل تعقيدات المشهد العراقي حينما تعرف أنه تعرَّض لاحتلالين في نفس الوقت، وأنه قد وقع في فخِّ المشروع الطائفي وسقط في حرابها حتى استحرَّ في أهله القتل، كما أن السلطة فيه على عداء تام مع شعبها الذي تستهدف استئصاله وتشويهه وتهجيره كما حصل في الموصل ومن قبلها الرمادي وكذلك حزام بغداد لصالح الشيعة ولأجل تجذير مشروع الاحتلال الإيراني، كما قدَّر الله عليه أن يكون محاذيًا وملاصقا للجمهورية الإيرانية التي تبتلعه صباح مساء بسرقة ثرواته وتهريب كنوزه وأمواله…إلخ

ورغم أن هذا المشهد وتعقيداته يسوِّغ لأي قائد وطني أو إسلامي انطلاقًا من عنوان الواقعية والضرورة والمصلحة وحجم الضغوط وكثرة التحديات أن يتنازل للمحتلِّ الغاصب وأن يتعامل معه، وأن يشكِّل أحلافًا على غير هدى بحجة أنها تُحقِّق له مصلحة ما، وأن ينجرَّ للاحتراب المذهبي والطائفي لاسيما وأن أهله يتعرَّضون للقتل والتنكيل الممنهج،إلا أن الشيخ حارث الضاري أعلن ونظَّر لعدم المشاركة في العملية السياسية في ظلِّ المحتلِّ وفق نظرة سياسية مصلحية لا وفق فتوى شرعية قد يجد فيها البعض مدخلا للنقاش وتمييع الموقف،رافضًا للتحايل في توصيف المشاركة بين تعامل وتعاون وهي في جوهرها مشاركة سياسية يمنحها ويوافق عليها المحتل، حيث لا تستقيم المشاركة من الناحية الشرعية ولا السياسية التحررية ولا حتى من الناحية الأخلاقية والفطرية،إذ كيف يمكن لحركة ثورية تحمل مشروعًا يستهدف قلع المحتل الغاصب أن تدخل تحت إطاره الغاصب ليمنحها المحتل حدودَوصلاحياتِوشكلَ مُشاركتِها، الأمر الذي يفقدها عمليًّا وفي واقع الحال مضمون مشروع التحرير ووسائله.

كما أنه لا يوجد أكثر من الأسباب الموضوعية التي تسوِّغ للحركات العراقية التحالف مع جارتها القوية إيرانبحكم الجغرافيا والتاريخ والمذهب والسياسة المفروضة على العراق، ومع ذلك فقد اعتبر الشيخ حارث الضاري –رحمه الله- إيران عدوًّا استراتيجيًّاأصيلًا لا يمكن التعامل أو التعاون معه فضلًا عن الاستعانة به أو التحالف معه بحالٍ، ولم يستخذ أمامها، رغم تسيُّدها للمنطقة بموافقة غربية وإرادة صهيونية واعية.

أمَّا في موضوع شيعة العراق وهم أقل من نصف الشعب العراقي بقليل، فقد طرح الشيخ الضاري رؤيته في استيعابهم على أرضية الوطن المشترك دونما تنازل منه عن وضوح عقيدة أهل الإسلام ومخالفة الشيعة للصراط المستقيم، ودون السقوط في وحل الاقتتال المذهبي والطائفي المطلوب أمريكيًّا وإيرانيًّا، فيما غرق غيره من الشخصيات والحركات في تلك المعادلة الخاسرة على أرض العراق.

 وإذا عدنا للحالة الفلسطينية نجد أن التيار الوطني والإسلامي قد وقع في الكبائر السياسية الثلاث وهي:

أولاً: القبول بالمشاركة في العملية السياسية في ظل الاحتلال –وكان أبرز من رفضه الشيخ رائد صلاح- وهو يتناقض مع مشروع التحرير لاسيما وأن المحتلَّ من يدير المشهد السياسي ويقرر مستوى نفوذ وصلاحيات كلِّ طرف، وقد أبرمت حركة فتح اتفاق أوسلو المهين مع الطرف الإسرائيلي، فيما رفضته حركة حماس في المقال ووافقت عليه في واقع الحال، حينما أقدمت وبحماس شديد على المشاركة في الانتخابات التشريعية عام 2006.

ثانيًا: الحلف مع إيران وحرسها الثوري ومكوناتها الفاعلة في المنطقة كحزب اللات في لبنان، وسفاح الشام دون اعتبار لموقف العلماء ولا لواقع الأُمَّة المكلومة في العراق واليمن والشام.

ثالثًا: الاحتراب الفصائلي الداخلي الفلسطيني بين الرايات الفصائلية، الأصفر والأخضر والأسود والأحمر–رغم انسجام أتباعها الديني والمذهبي والثقافي-والتي تتنافس فيما بينها على دماء الشهداء الحية، لاسيّما وأنها كحركات تحررية أصبحت في حالة موت بعد فشل مشاريعها وباتت تبحث عمَّن يمدها بالحياة، وهو سرّ اندفاعها للتفاعل مع الحالات الجديدة في عموم مدن الضفة الغربية التي حفظت ماء وجه الفصائل الخائبة.

لقد فقدت المشاريع السياسية الفلسطينية سويتها ومصداقيتها وانحرفت في مقولاتها المنهجية ومواقفها وعلاقاتها السياسية، وهو ما يجعل المسألة الفلسطينية عطشى لتوجيه العلماء الربانيّين، والاقتداء بمنهج ومواقف مدرسة الشيخ حارث الضاري رحمه الله، والذي جمع بين الرؤية الشرعية والموقف السياسي والواقع العملي من خلال المكونات التي تشكَّلت على أرضية طروحاته وعلى رأسها هيئة علماء المسلمين في العراق، والتي يُشهد لها بالاهتمام والانحيازلقضايا الأُمَّة والدِّين، كما تشكَّلت على نفس الأرضية كتائب ثورة العشرين والتي تبنَّت الأعمال الجهادية كسبيل لإخراج المحتلِّ أيا كان، دون سقوط في أحلاف منكرة أو سقوط في واد سحيق من الانقسام الذي يحدث حالة الاحتراب الشعبي الداخلي ويشقّ الصفوف كما هو واقع اليوم الأرض المباركة.

بلا شك فلسطين تحتاج لمن يسعفها ويسندها ويدعمها، ولكنَّ جميع هذا لن يثمر نصرًا ولو تراكميًّا مادام بقيت المناهج عليلة والقيادات مضطربة، الأمر الذي يدفعنا للبحث في حاضنة الأُمَّة التي ننتمي إليها لمن يعيننا على التصور القويم والموقف السليم وذلك خارج إطار الأخوين سايكس وبيكو، ولن نجد نموذجًا قائمًا متفاعلاً اليوم يعيش واقعًا شبيهًا وأصعب من واقعنا في فلسطين لنقتدي به كما هو تيَّار ومدرسة الشيخ حارث الضاري –رحمه الله-. كما تجدر الإشارة هنا إلى أن أي حلف بين الحالة الفلسطينية والحركات التحررية والإسلامية العراقية –المناوئة لإيران- يعتبر خطوة تكتيكية تعيننا على هدف استراتيجي هو التخلُّص من هيمنة الجمهورية الإيرانية التي تربَّعت على عرش القضية الفلسطينية لعلَّ ذلك يسهم في تصحيح المسار.

الخلاصة:

فلسطين والأقصى قضية من أشرف قضايا الأُمَّة، ظلمها أصحابها حين تفرَّدوا بها بمعزل عن الأُمَّة، واعتبروها القضية المركزية وتجاوزوا مركزية الدِّين والأُمَّة، الأمر الذي أورثهم انحرافًا عن الدين وإخلالًا بأحكامه وتنكرًا لقضايا وآلام الأُمَّة ممَّا أسهم في صنع فجوة تجاه شعوبها الفاعلة كما الشعوب اللصيقة والمحيطة بفلسطين والمعوَّل عليها بعد الله في تحقيق التحرير!

لقد بات العقموصفًا للمعادلة الفلسطينية بعد أن انحرف مسارها بارتكابها الكبائر السياسية الثلاث، وهي قبولها بالمشاركة في العملية السياسية في ظل المحتلِّ سواء بالمقال أو بالاحتيالفيواقع الحال، الأمر الذي يتناقض مع مفهوم التحرير من حيث الشكل والجوهر، وحلفها مع أعداء الدين والأُمَّة بدل الانحياز لأُمَّتها وحاضنتهاكنتيجة لاستبدالها مطلب السلطة بمشروع التحرير؛من خلال توافقات مع المحتلِّ، ووقوعها في احتراب داخلي كنتيجة لعدم استيعابها لمكونات شعبها وانكفائها على ألوان ورايات أحزابها، الأمر الذي أفشلها في تمثيل شعبها عداك عن تمثيل الأُمَّة، التي كانت ولا تزال وفيّة لدمائنا في فلسطين رافعة على رأسها وسلّم أولوياتها قضية الأقصى.

لقد خَطَّت الحركة الوطنية مسارًا انحرف منذ لحظة تأسيسه حين جانب الدين وأحكامه فجاءت الحركة الإسلامية من رحم الأُمَّة كردٍّ واعٍ ومنتمٍ لتقيل عثراته، فانتهت للوقوع في آثامه ثمَّ أعطتها صبغة شرعية، الأمر الذي عقَّد مسيرة الإصلاح بسبب قُدسية موهومة عند شريحة كبيرة تقدِّم القيادة على المنهج، أو بسبب ضعف دور العلماء في القرن الحالي وما ورَّث من طامَّات.

إن إصلاح المسار الفلسطيني وتصحيح المعادلة القائمة في الصراع غير ممكنة بل مستحيلة دون دور طليعي وفاعلية كاملة للعلم والعلماء، وما يتصل بهم من أطر قائمة ووسائل وآليات معاصرة، تعين على تسديد بوصلة الهدى والحق وما ينفع الناس.

وإن جميع محاولات الإصلاح الحالية حافظت على بعض أشكال الخلل حتى باتت المعادلة الفلسطينية في أحسن حالاتها عرجاء، فقد تنبَّه الجميع إلى مفهوم الوحدة ولزومه لتحقيق النَّصر، ولكنَّه قد غاب عن كثير من المصلحين قيمة الحقِّ والهدى والتوحيد ودلالاته،

والله سبحانه وتعالى يقول:

{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}

[الصف: 4]،

الأمر الذي يجعل هدى الله وأحكام الدين ودلالات التوحيد شرطًا يسبق كلَّ الشروط وبدونه لن تؤتي الوحدة ثمارها المرجوَّة في قلب المعادلة القائمة وتحقيق النَّصر الموعود بوعد من الله الحقِّ.

والحمد لله رب العالمين، ما قلته من حقٍّ فمن الله، وما أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان وأستغفر الله.

مضر أبوالهيجاء 12 شعبان 1444ه/ 5-3-2023م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق